رغم الحصار والتشويه والتقييد نجحت حركة حماس في أن تكون أكثر مصداقية من إسرائيل، tخطاب حماس بات يحرك الرأي العام الإسرائيلي، وقد استطاع جعل قضية الأسرى محور الجدل في الدولة العبرية بعدما كانت متوارية في بداية الحرب، الأمر الذي جعل خبراء إسرائيليين يقولون إن حماس انتصرت في الحرب النفسية وكذلك الإعلامية السيبرانية.
وتستطيع الصورة أو مقطع الفيديو التأثير في مسار الحرب أكثر من سرب مقاتلات أو فوج مدرعات أحياناً. وتُدرك حركة حماس ذلك جيداً، لهذا يستغل رجالها وسائل الإعلام بشكلٍ مكثف لتحقيق أهدافهم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وخلال الحرب قدمت حركة حماس فيديوهات للمعارك من الميدان تبدو أكثر مصداقية من فيديوهات الجيش الإسرائيلي، التي أثار بعضها السخرية، مثل تلك التي تحاول أن تدلل ببؤس أن مستشفى الشفاء مركز عمليات رئيسي لحماس، عبر تصوير بضعة أسلحة رشاشة ونفق تحت المستشفى تبين أن إسرائيل هي التي بنته، وهو ما دفع محللين إسرائيليين بارزين لانتقاد الحملة الإسرائيلية على المستشفى.
وفي بعض الأحيان يبدو أن الإسرائيليين يتعاملون بجدية مع بيانات وفيديوهات حماس أكثر مما يفعلون مع دعاية الجيش الإسرائيلي وحكومة نتنياهو.
وبات واضحاً الفرق الكبير بين وحشية إسرائيل في تعاملها مع المواطنين الفلسطينيين، مقابل إنسانية مقاتلي حماس في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين
الحرب النفسية جزء من أسلحة حماس.. وهكذا نجحت في ملف الأسرى
يقول الدكتور يانيف ليفيتان، باحث حرب المعلومات في جامعة حيفا الإسرائيلية: "تُعَدُّ الحرب النفسية من الأسلحة الرئيسية في ترسانة حماس، لأنها تسمح للحركة بتحقيق إنجازات كبيرةٍ بتكلفةٍ منخفضة للغاية".
وأردف: "تُعتبر حماس كياناً قتالياً صغيراً يحتاج إلى التلاعبات النفسية لمضاعفة قوته، وذلك عندما يواجه جيشاً قوياً مثل الجيش الإسرائيلي". وأكد ليفيتان على أن حماس تستعمل الحرب النفسية بشكلٍ منتظم، وقد زاد ذلك في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وأضاف ليفيتان أن أقوى الأوراق في يد حماس الآن هي الأسرى الإسرائيليون، لهذا تستخدم الحركة مقاطع الفيديو التي يظهر فيها الأسرى على ثلاث مراحل من عملية الأسر. والمرحلة الأولى هي عملية الاختطاف نفسها، حيث أوضح: "نقلت تلك المقاطع إلى المُشاهد الإسرائيلي رسالةً مفادها أنه لا مكان آمناً، حتى لو كان داخل منزله". أما المرحلة الثانية فتتمثل في شهادات الأسرى، بينما تأتي مقاطع إطلاق سراحهم في المرحلة الثالثة. ويقول ليفيتان إن مقاطع المرحلة الأخيرة سمحت لحماس بالسيطرة على الأجندة الإسرائيلية بالكامل.
حماس أسرت وسائل الإعلام الإسرائيلية
وذكر ليفيتان أن "بث مشاهد إطلاق سراح المختطفين حوّل جزءاً كبيراً من واقع وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى واقع المختطفين. وهذا يُفيد الحركة بشدة، لأن مقاطع الفيديو تمثل استعراضاً دعائياً يُمجِّد حماس من خلال الصور الاحترافية، ومن خلال المسلحين الذين يشبهون الجنود، ومن خلال العناية القصوى بالتصميم والمشهد. والرسالة المقصودة هنا هي أن حماس لا تزال مسيطرة وقوية رغم كل الضربات التي تعرضوا لها".
وأكّد ليفيتان أن حماس خلقت ظروفاً جعلت فيها منتجاتها الدعائية تُعرض عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية. وأردف البروفيسور الإسرائيلي: "تُعد هذه المنتجات بمثابة أسلحة نفسية، وبعبارةٍ أخرى نستطيع القول إن حماس حوّلت قنوات اتصالنا إلى أسلحةٍ مُصوّبةٍ نحو رأس إسرائيل".
فيديوهات الأسرى تظهر أنهم يشعرون بامتنان حقيقي تجاه مقاتلي المقاومة
يقول دكتور إيلان مانور، باحث الدبلوماسية الرقمية في جامعة بن غوريون، إن مقاطع فيديو الأدلة من الأسر تم تصنيفها كفئة مستقلة من المحتوى البصري عام 2005. وأضاف: "هذا النوع مصمم لوضع الخاطفين في الصورة، وتوجيه صدمةٍ للرأي العام. هذا عرض تلفزيوني، وتتسم هذه النوعية من مقاطع الفيديو بإدانة قادة الطرف الآخر، والعرفان للخاطفين، والمطالبة بإبرام الصفقة سريعاً". ثم أردف: "نشرت حماس هذه المقاطع بمشاركة طفل وثلاث نساء على سبيل المثال، وهذه أداةٌ تزيد من استعداد الرأي العام الإسرائيلي لدفع أثمانٍ باهظة".
ففي مقطع الفيديو الذي أظهر النساء الثلاث، أدانت دانييل ألوني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وطالبت بإبرام صفقة لتبادل السجناء سريعاً. حيث قالت لنتنياهو: "ألم تذبح ما يكفي من البشر بعد؟ ألم يمت ما يكفي من المدنيين الإسرائيليين؟ أطلق سراحنا، أطلق سراحنا الآن". وفي مقطع فيديو آخر، ظهر الطفل ياغيل يعقوب (12 عاماً) ليقول: "آمل أن أعود بأسرع ما يمكن، وأتوجه بالشكر الشديد إلى مقاتلي الجهاد الإسلامي الذين يرعونني هنا في غزة".
ويزعم مانور "أن أمامهم نصاً مكتوباً أو سيناريو يمكنهم القراءة منه". وبالطبع يتجاهل شهادة الأسيرة الإسرائيلية المسنة التي أطلقتها حماس في بداية الحرب، وأشادت بحسن معاملة مقاتلي المقاومة لها.
كما نشرت كتائب القسام رسالة شكر كتبتها الأسيرة الإسرائيلية دانييل ألوني، لمقاتلى الكتائب قالت فيها: "للجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غداً، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إميليا.. كنتم لها مثل الأبوين، دعوتموها لغرفتكم في كل فرصة أرادتها.. هي تعترف بالشعور بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مجرد أصدقاء، وإنما أحباب حقيقيون جيدون".
ولم تقدم إسرائيل ما يفيد أن الأسيرة التي كتبت هذه الرسالة قد تم إملاؤها، أو أنها تراجعت عما قالت.
كما أن منع بقية الأسرى من الإدلاء بتصريحات بعد إطلاقهم يدل على خوف إسرائيل من الإدلاء بإفادات مماثلة.
حماس نجحت في تعميق الأزمة السياسية بإسرائيل
في المقابل، يشير مانور إلى أن المقاطع التي نشرتها حماس للأسيرة التي هاجمت نتنياهو "يبرز فيها الشعور بالإلحاح، حيث خاطبت نتنياهو مباشرةً، وليس حكومة أو دولة إسرائيل، علاوةً على أن مقاتلي حماس كانوا على علمٍ جيدٍ بالوضع في إسرائيل، حيث أُشير في كلا المقطعين إلى الأحداث الراهنة، ما يدل على توقيت التقاط الفيديو ووجود المختطفين على قيد الحياة، والهدف هنا هو خلق الضغط من أجل الإفراج عنهم".
وتستهدف مقاطع فيديو حماس كذلك تعميق الأزمة السياسية داخل إسرائيل وفقاً لمانور. وأردف مانور: "يُوجه المختطفون حديثهم إلى نتنياهو ويلومونه بشكلٍ مباشر. وحماس مطلعة على الساحة الإسرائيلية جيداً، ويعلم رجالها بالنقاشات الساخنة التي تدور حول مسؤولية نتنياهو. ويحاولون من خلال تلك المقاطع أن يصِموا القيادة الإسرائيلية بالعار، حتى لا تتمكن من مواصلة الحرب".
وأضعفت تأثير الدعاية الإسرائيلية ضدها
في عيون العديد من الإسرائيليين، أدى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى تحويل حماس لتوأم داعش، لكن مانور يرى أن مقاطع الفيديو تُظهر وجه اختلافٍ محددٍ بينهما. إذ قال مانور: "تستخدم التنظيمات المسلحة وسائل التواصل الاجتماعي لبناء صورتها العامة. وأظهرت دراسة بتاريخ 2017 كيف استخدم تنظيم داعش عشرات حسابات فيسبوك وتويتر لتمييز مقاتليه وكأنهم "نجوم شباك" في عصر الجهاد.
واستخدم التنظيم صوراً ولقطات فيديو شديدة العنف أملاً في تقوية صورته على الإنترنت وتجنيد مقاتلين جدد. أما على الجانب المقابل، فقد بنت حماس بناء صورة لها كتنظيم ناجح وإنساني، ولهذا نشرت مشاهد الأطفال والنساء الذين يشعرون بالامتنان لطريقة معاملتهم". وأوضح مانور أنه من المهم لحماس تفنيد أي أوجه تشابه بينها وبين داعش، نظراً لحقيقة أن حماس لديها كيان دبلوماسي يحتاج للأنصار.
وغيَّرت تكتياكاتها حسب تطور الأحداث
تقول الأستاذة موران يارشي، رئيسة قسم الدبلوماسية العامة في مركز هرتسليا، إن حماس غيّرت التكتيكات التي تميُز صورتها العامة أثناء الحرب. وأوضحت: "لقد كانوا فخورين للغاية بما فعلوه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ونقلوا ذلك بوضوح شديد. ثم أدركوا بعد عدة أيام أن الأمر يضرهم على المستوى الدولي، فحذفوا الكثير من مقاطع فيديو الفظائع. وبهذا عادوا إلى الصورة التي اعتادوها، وهي صورة الضحية الفلسطينية، حتى يتلقوا الدعم الدولي"، حسب وصفها.
ولكن في المقابل، يتجاهل تقرير الصحيفة الإسرائيلية حقيقة أن الحكومة الإسرائيلية هي التي حذفت كثيراً من الصور التي نشرتها؛ لأنها إما مفبركة أو أنها تكشف عن أن الجيش الإسرائيلي هو الذي قتل العديد من مواطنيه وجنوده خلال محاولته التصدي لطوفان الأقصى.
وتابعت موران قائلة: "حتى في مقاطع الفيديو الخاصة بإطلاق سراح المختطفين، ظهروا في صورة السجّان الإنساني -حيث عانقوا المختطفين وقدموا لهم الماء وساعدوا الجدات".
وبالطبع ما لم يركز عليه تقرير الصحيفة الإسرائيلية هو رد فعل الأسرى الإسرائيليين الذين بدوا مرتاحين بشكل لافت في التعامل مع مقاتلي المقاومة وغير خائفين، بل ممتنين على ما يبدو من حسن معاملة المقاومين لهم، كما ظهر من ابتسامات بعضهم والتحيات التي وجهوها لمقاتلي حماس.
سلسلة من الاتهامات غير المنطقية توجَّه للمقاومة الفلسطينية
يؤكد خبير الاستخبارات والأمن السيبراني، الدكتور إيال بينكو، من جامعة بار إيلان، أن حرب المعلومات التي تديرها حماس مصممة لاستهداف عدة فئات من الجمهور. وأوضح: "بادئ ذي بدء، تستهدف هذه الحرب الجمهور المحلي في غزة. إذ تظهر مقاطع الفيديو التي توثق إطلاق سراح الأسرى أن حماس منتصرةٌ في حملتها، على الرغم من قصف الجيش الإسرائيلي. وسنجد دائرة التأثير الثانية في الدول العربية مثل مصر وقطر والأردن، حيث تريد حماس خلق قاسم مشترك معها لكسب دعمها. ويتحدثون عن الحرب باعتبارها حرباً إسلاميةً مُستخدمين الكثير من شعارات الإسلام حتى يؤثروا على هذه الدائرة".
وأضاف بينكو: "يتمثل الجمهور المستهدف الثالث في دول العالم، حيث يعرضون أمامهم الأضرار الجسيمة التي لحقت بسكان غزة".
ويطلق بينكو سلسلة من الأكاذيب عن استخدام حماس للذكاء الاصطناعي لخلق صور خيالية صادمة مزعومة، متجاهلاً أن حجم الدمار الموثق من وسائل إعلام عربية ودولية وجهات أممية يكفي لكشف وحشية الهجوم الإسرائيلي.
ثم يواصل مزاعمه التي يقدمها بلا دليل قائلاً: "هناك بوتات تنشر الكثير من هذا المحتوى. وحتى إذا لم يصدقه الإنسان أول مرة، فسوف يقتنع بعد مشاهدة صورتين أو ثلاث"، متناسياً أن العكس هو ما يحدث حيث تقيد مواقع التواصل الاجتماعي المحتوى الداعم لفلسطيني بينما تنحاز للمحتوى الداعم لإسرائيل".
أما الجمهور المستهدف الرابع فهو الرأي العام الإسرائيلي، بحسب بينكو، الذي قال: "لا يحاول رجال حماس إقناع هؤلاء بإنسانيتهم. بل يريدون في الواقع تخويف الإسرائيليين وخلق حالة انقسام في الدولة العبرية".
يقولون إن حماس خلقت شخصيات وهمية لمصادقة الإسرائيليين على الإنترنت
ويأتي نشاط حماس السيبراني مبنياً على المعلومات الاستخباراتية، وهدفه الأول هو خلق أدوات للنفوذ بحسب بينكو؛ حيث أوضح: "كشف الشاباك قبل عامين أن حركة حماس تجمع المعلومات من الشبكات الاجتماعية، وتُدير حسابات مزيفة تساعدها في تلقي المعلومات حول ما نتحدث بشأنه وحول رأينا العام. وجميع تحركات حماس محسوبة؛ لأن رجالها يفكرون من أجل المدى البعيد. ويعتمدون على تصميم شخصيات تستغرق بعض الوقت للنمو من أجل بناء قوتهم في المجال السيبراني".
ويشرح بينكو ما يزعم أنه "عملية نمو للشخصيات المزيفة التي تحدث من خلال إنشاء شخصية خيالية على عدة منصات اجتماعية، لتُكوِّن تلك الشخصية صداقات بمرور الوقت، وتبدأ في نشر الصور وتوزيع الإعجابات". وأردف: "تستغرق هذه العملية ما يتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، وتتطلب جهداً كبيراً، لهذا يُديرون بوتات إنترنت لمساعدة تلك الحسابات في النمو"، حسب زعمه.
حماس تمتلك بنية عميقة للحرب النفسية ولكن وضع إسرائيل في الإعلام التقليدي أقوى
وقدّر بينكو أن إسرائيل تواجه الهزيمة في معركة الوعي والحرب النفسية؛ إذ قال: "تمتلك حماس بنيةً تحتية عميقة للحرب النفسية تعمل طوال الوقت، حتى قبل أن تبدأ الحرب. أما نحن، فليست لدينا أي معلومات في الواقع. ونحن مجرد رد فعل. ولا نمتلك أي معلومات عن حماس طالما أننا لسنا في حرب. وقد أمضينا سنوات دون سياسة واضحة ومُوحّدة".
بينما تعتقد موران أن موقف إسرائيل في وسائل الإعلام التقليدية هذه المرة يُعَدُّ أفضل من جولات القتال السابقة في قطاع غزة، لكنها تتفق مع الرأي القائل بأن الوضع مختلف في الشبكات الاجتماعية.
ولكن تل أبيب تخسر على شبكات التواصل وقد تجد نفسها أمام رئيس أمريكي يعارضها
قالت موران: "هناك مسلمون ومؤيدون لفلسطين أكثر بكثير من اليهود وأنصار إسرائيل، والأعداد الكبيرة هي التي تصنع الفارق على الشبكات الاجتماعية. كما أن الشبكات الاجتماعية تجذب الجمهور الأصغر سناً والأكثر مناصرةً لفلسطين، بينما تجذب إسرائيل صناع القرار والجمهور الأكثر انخراطاً في السياسة -وليس طلاب الجامعات".
وأضافت "لكن إذا لم نعمل على نشر دعايتنا في الجامعات أيضاً، فسيكون هناك العديد من أعضاء الكونغرس المعارضين لإسرائيل في غضون سنوات قليلة، وربما نحصل على رئيس أمريكي معارض لإسرائيل أيضاً في النهاية، وحينها سنواجه مشكلة. نحن متخلفون بمقدار عدة سنوات على هذا الصعيد".