تمثل الحرب في غزة اختباراً للعلاقات التي جرى تعزيزها مؤخراً بين دول الخليج العربية وبين إسرائيل، ما يثير التساؤلات حول مصير التطبيع والرؤية المدعومة من الولايات المتحدة لفرض نظام إقليمي جديد، والتي تركز على العلاقات الاقتصادية أكثر من الخلافات السياسية والنزاعات التاريخية.
ومن المستبعد أن يؤدي هذا الصراع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربةي المطبعة وإسرائيل، لكنه أربك حسابات القوى الخليجية الناشئة التي ترى في إسرائيل شريكاً أمنياً محتملاً، وثقلاً موازناً لمنافِستهم الإقليمية إيران، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
وتقول الصحيفة "الآن"، يتعيّن على قادة تلك الدول التعامل مع الغضب الشعبي المتزايد بسبب الحرب التي قتلت آلاف الفلسطينيين، وتركت غالبية مناطق قطاع غزة بين الأطلال.
دول الخليج أدانت العدوان الإسرائيلي
وقد أدان قادة الخليج الموت والدمار في غزة خلال خطاباتهم وبياناتهم ومنشوراتهم على الشبكات الاجتماعية، لكنهم حرصوا كذلك على التأكيد على أهمية الاستقرار الإقليمي وخطوط التواصل. وتُعَدُّ قطر الدولة الأكثر انخراطاً في الأزمة من الناحية الدبلوماسية، رغم أنها لا تتمتع بعلاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، لكنها نجحت في التوسط للوصول إلى وقف مؤقت للقتال -ما سمح بالإفراج عن الرهائن والسجناء الفلسطينيين، قبل أن يتجدد القتال.
وحملت الولايات المتحدة لواء التطبيع العربي مع إسرائيل في عهد إدارتين متتاليتين. وقد طبّعت الإمارات والبحرين علاقاتهما مع إسرائيل في عام 2020 بموجب اتفاقيات أبراهام، التي توسطت فيها الولايات المتحدة، يليهما المغرب والسودان. وكانت واشنطن تأمل أن تلحق بها السعودية باعتبارها القوة المُهيمنة في الخليج، لكن تلك الخطط صارت مُعلّقةً الآن.
إذ قال الرئيس بايدن في وقتٍ سابق من الشهر الجاري: "لا أستطيع إثبات ما سأقوله الآن، لكنني أعتقد أن أحد الأسباب التي دفعت حماس للهجوم وقتها هو معرفتهم بأنني كنت أتعاون عن قرب شديد مع السعوديين -وغيرهم في المنطقة- من أجل إحلال السلام في المنطقة، من خلال الحصول على اعتراف بإسرائيل وحق إسرائيل في الوجود".
السعودية تؤكد أن أي محاولة لإبرام سلام إقليمي دون حل القضية الفلسطينية بمثابة "وهم"
ودعت السعودية من جانبها إلى وقف شامل لإطلاق النار في غزة، واصفةً الحرب بأنها "تطوُّرٌ خطير" و"كارثة إنسانية"، كما ترأس وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الوفد العربي الإسلامي الذي شكلته القمة الإسلامية العربية المشتركة بالسعودية لمخاطبة القوى العالمية وحثها على وقف الحرب.
أما على الصعيد الداخلي، فقد اتخذت المملكة خطوات للتعبير عن مظاهر التضامن الشعبي مع الفلسطينيين عبر جهود الإغاثة وجمع التبرعات.
وخلال حديثه في حوار المنامة بالبحرين في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، قال الأمير السعودي تركي الفيصل إن الأزمة في غزة أظهرت أن جهود السلام الإقليمي التي لا تعالج احتلال أراضي فلسطين هي مجرد "وهم".
وأردف الأمير: "تمثل هذه الحرب نقطة تحول في عملية البحث الجاد عن حل عادلٍ للقضية الفلسطينية". ثم أضاف أن أي جهود مستقبلية يجب أن تتطرق "لمطلب الفلسطينيين الشرعي من أجل الحصول على حق تقرير المصير".
بينما الإمارات والبحرين تدافعان عن التطبيع وعلاقتهما بإسرائيل
ودافعت الإمارات والبحرين عن علاقاتهما مع إسرائيل، إذ قالتا إنها تسمح لهما بلعب دور القوة المعتدلة في الأزمة، حسبما ورد في تقرير الصحيفة الأمريكية.
حيث أوضح أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، أن بلاده لها نفوذ على إسرائيل ولم تكن ستحظى به من دون علاقات. وبسؤاله عما إذا كان من الممكن لأي شيء أن يُقنع الإمارات بقطع علاقاتها مع إسرائيل، رد قرقاش بحذر: "اكتشفنا خلال العملية الدبلوماسية أن الإشباع الفوري ليس الحل في عالم السياسة، بل يكمن الحل في التواصل".
لكن العديد من مواطني الخليج يقولون إنهم يريدون من قادتهم فعل المزيد، سواءً على الشبكات الاجتماعية أو في الاحتجاجات أو خلال محادثات مائدة العشاء.
إذ قالت صيدلانية (45 عاماً) حضرت احتجاجاً مناهضاً لـ"التطبيع"في المنامة، مع شقيقتها وابنة أختها الرضيعة: "لم نر أي فوائد. يجب أن نضغط على إسرائيل. والمقاطعة هي طريقة إنهاء نظام الفصل العنصري". وقد تحدثت الصيدلانية، شريطة عدم الكشف عن هويتها بسبب نقاشها لمواضيع سياسية حساسة، كما هو حال بقية من شاركوا في المقابلات لهذا المقال.
وأردفت الصيدلانية: "التطبيع يساوي القول إن ما يحدث للشعب الفلسطيني هو أمر طبيعي". ثم أضافت: "لو كان لدينا استقرار حقيقي، لما حدث ما يحصل في غزة الآن. لطالما كان انعدام الاستقرار موجوداً. لكنه صار ظاهراً في العلن أمام الجميع الآن".
الشركات الإسرائيلية تبتعد عن الأضواء في دول الخليج والمقاطعة تتوسع
ومع تزايد الغضب الشعبي، تبنت الشركات الإسرائيلية في الخليج سياسة الابتعاد عن الأضواء. إذ لا يشاركون في المعارض، ويسحبون إعلاناتهم، ويُقلصون أعداد وفودهم الرسمية.
وقال أحد رجال الأعمال الذي يتعاون بشكلٍ مكثف مع الشركات الإسرائيلية في الخليج: "يستمر العمل كالمعتاد تحت السطح. لكننا لا نُروّج لعلاقتنا بالقدر نفسه فقط. لقد كانت العلاقات التجارية قائمة من قبل [اتفاقات أبراهام]، وستظل موجودةً بعد مرور هذه الأزمة".
لكن المستهلكين يعبرون عن مواقفهم اليوم باستخدام محافظهم. حيث حظيت الحملة الشعبية لمقاطعة العلامات التجارية الأجنبية -مثل ستاربكس وماكدونالدز- بالدعم في الخليج وفي جميع أرجاء العالم العربي.
الحرب تسيطر على أحاديث الناس بالإمارات، ولكنهم يثقون بالحكومة
بينما وصفت مستشارة شبكات اجتماعية كويتية (35 عاماً)، قضت كل حياتها في دبي، العلاقة مع الشركات الإسرائيلية في الإمارات بأنها "غير مريحة". وأوضحت أنها اعتادت لقاء ممثلي العلامات التجارية الإسرائيلية بشكلٍ منتظم، لكنها تراجعت عن ذلك منذ بداية الحرب. وتشك اليوم في أن الأمور ستعود إلى سابق عهدها كما كانت قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وربما تبدو الحياة في الإمارات هادئة على السطح، لكن المستشارة قالت إن الحرب كانت منهكة تماماً، حيث تُهيمن على جميع المحادثات مع الأصدقاء والعائلة.
ولهذا انضمت المستشارة مثل الآلاف إلى حملة المساعدات التي نظمتها الحكومة في دبي. وقالت: "هذا أفضل ما يمكنني فعله. ما باليد حيلة، ولهذا ستفعل كل ما يمكنك فعله بمواردك".
لكنها أوضحت أن مشاعر العجز والإحباط واسعة الانتشار هنا، ولم تُترجم إلى مشاعر استياء مناهض للحكومة. وأضافت: "يتمنى البعض أن تأخذ الإمارات موقفاً أقوى، لكنهم يثقون في الحكومة بنهاية المطاف؛ لأن هناك معلومات لا يعرفونها".
ولكن الغضب في البحرين أكثر وضوحاً
بينما يبدو الغضب أكثر حدةً في البحرين، وربما أكثر إثارة لقلق السلطات أيضاً.
فعلى بُعد كيلومترات قليلة من فندق الخمس نجوم، الذي يستضيف القمة الأمنية في المنامة، انطلق المئات في مسيرة مناهضة للتطبيع، وصدحوا بهتافات مثل: "من رام الله إلى البحرين، شعب واحد لا شعبين"، و"لا تهجير، ولا تطبيع، تحيا فلسطين!".
وحصلت المسيرة على تصريح للتظاهر من حكومة البحرين، ما يمثل اعترافاً بأن السخط الشعبي تحوّل إلى قوةٍ سياسية لا يمكن إنكارها بحسب المشاركين.
فيما حذّر ولي عهد البحرين سلمان بن حمد آل خليفة، من التحركات التي تُقوِّض "النظام القائم على القواعد" خلال خطابه في افتتاح القمة. كما حذر من أن استطالة الحرب ستزيد احتمالية أن يؤدي الوضع إلى عدم الاستقرار والتطرف.
وعلى مسافةٍ ليست ببعيدة، داخل حي يمتاز بالمطاعم والمقاهي الأنيقة، احتشد عشرات المواطنين أمام مقر جمعية مناصرة لفلسطين وطالبوا الحكومة بقطع علاقاتها مع إسرائيل.
وقال رجل بحريني (33 عاماً) يعمل أميناً خاصاً للفنون، ويصف نفسه بأنه مؤيد للحكومة، إنه لم يشعر بالارتياح لقرار بلاده بالتطبيع مع إسرائيل مطلقاً. وبعد أن رأى وحشية الحرب في غزة، صار يأمل أن تعكس السلطات مسارها اليوم.
أما في الأجزاء الشيعية من مملكة البحرين، التي يحكمها السنة، فقد أدت الحرب في غزة إلى تأجيج الغضب العلني وسط مناطق يختمر فيها الاستياء منذ زمن.
وأمام مسجد شيعي في الشمال، بعد صلاة الجمعة، احتشد عشرات الرجال والنساء والأطفال، رافعين لافتات تطالب بمحو إسرائيل من الوجود، وتتهم القادة الأمريكيين بالمشاركة في الإبادة الجماعية.
وقال وكيل سفريات (35 عاماً) من المشاركين في الحشد: "نحن صوت صغير، لكنه صوت مهم. لا تستطيع كثير من شعوب الخليج الاحتجاج. لكننا سنقول بصوتٍ عالٍ ما يدور في خُلد كل سعودي، وكل عربي، وكل مسلم".