بينما تمزق فرنسا نفسها، وهي التي تضم أكبر الجاليات اليهودية والمسلمة في أوروبا، بسبب الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، انقلب موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبدأ يوجه انتقادات شديدة ضد إسرائيل، مقارنة بموقف قادة مجموعة الدول الصناعية السبعة الآخرين، حيث يتحدث الزعيم الفرنسي صراحة عن الحاجة لبذل الجهود نحو التوصل إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد في غزة.
أسباب ماكرون التي تدعوه لوقف حرب إسرائيل على غزة
1- معاداة السامية والإسلاموفوبيا يتصاعدان في فرنسا
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، فضلاً عن الشواغل الإنسانية وضغوطها الشعبية، ناهيك عن ذكر رغبة لديه في الاضطلاع بدور أكبر في الساحة العالمية، لدى ماكرون سبب وجيه في أن يتمنى إنهاءً سريعاً للحرب. إذ إن معاداة السامية ورهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) تأخذان في الصعود في فرنسا: فقد شهدت البلاد أكثر من 1500 تحرك أو تصريح معادٍ للسامية منذ اندلاع الصراع، أي ثلاثة أضعاف ما وقع في العام المنصرم بأكمله. أُلقي القبض على 600 شخص بسبب هذه الحوادث. ويقول قادة المجتمعات الإسلامية في البلاد إن العداء يختمر ضد مجتمعاتهم أيضاً.
وقال ماكرون، في مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية BBC في الأسبوع الماضي: "هذا هو الحل الوحيد لدينا، وقف إطلاق النار هذا، لأنه من المستحيل تفسير أننا نكافح الإرهاب عن طريق قتل الأبرياء. هؤلاء الرضع، والنساء، وكبار السن يتعرضون للقصف والقتل. ليس هناك سبب لذلك، وليست هناك شرعية، ولذلك نحث إسرائيل على التوقف".
حاول حلفاء إسرائيل الآخرون، ومن بينهم الولايات المتحدة وبريطانيا مؤخراً، كبح جماحها ودفعها للموافقة على الهدنات الإنسانية. لكن ماكرون دعا بكلمات شديدة اللهجة لوقف إطلاق نار، وهو مصطلح يعني وقف غير محدد الأمد للأعمال العدائية، مما جعله بدرجة كبيرة غريباً عن القادة الغربيين الآخرين، ولم يمر هذا الأمر بدون أن يلاحظه أحد، فقد أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن غضبه قائلاً إن ماكرون ارتكب "خطأً خطيراً من الناحية الأخلاقية ومن حيث الوقائع".
2- تضامن الشعب الفرنسي الجارف مع الفلسطينيين يحرج ماكرون
يتزايد الغليان بسبب الحرب داخل بلد ماكرون، حيث خرج مئات الآلاف تضامناً مع الفلسطينيين رغم القمع الأمني في البداية، قابلها تظاهرات أخرى متضامنة مع إسرائيل، فيما نفذ مسلحون يمينيون متشددون هجوماً ضد فعالية نظمتها جمعية مؤيدة لفلسطين في مدينة ليون شرق فرنسا في 12 نوفمبر، مما تسبب في جرح ثلاثة أشخاص.
وقال ميشيل ويفيوركا، عالم الاجتماع الفرنسي ومدير البحوث لدى مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس: "إذا استمرت الأمور بهذه الطريقة المقلقة في الشرق الأوسط، فإن الموقف الداخلي في فرنسا سوف يستمر بهذه البشاعة مثلما هو عليه اليوم. وأوضح أن ماكرون "يحاول أن يبقى على اطّلاع بكل هذه العناصر، وهو ليس بالأمر السهل".
3- تحديات سياسية داخلية
كذلك تضع الحرب على غزة أمام ماكرون تحديات سياسية جديدة. سارعت مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" الفرنسي، التي تعد أكثر خصم يخشاه الرئيس المنتمي إلى تيار الوسط، بالتعبير عن دعمها المطلق للحرب التي تشنها إسرائيل، وهو تحرك ارتأى كثيرون أنه خطوة ناجحة لقطع العلاقات تماماً مع ماضي حزبها المعادي للسامية، وتعزيز أوراق اعتمادها لمنصب الرئيس. وتتصدر مارين في الوقت الراهن استطلاعات الرأي.
4- فرنسا الماكرونية لا تريد السير على خطى بايدن
لكن الأمر لا يتعلق بالمشاكل المحلية فحسب. إذ إن افتراق ماكرون عن القوى الغربية الأخرى وانتقاده إسرائيل صراحة بسبب العملية العسكرية التي تشنها ضد غزة، يتعلق بتطلعات فرنسا القائمة منذ وقت طويل للاضطلاع بدور في المسرح العالمي يفوق وزنها، ورفضها السير وحسب على الخط الذي تمليه الولايات المتحدة، وذلك وفقاً للخبراء.
وعادة ما يكون الموقف الفرنسي حول القضية الفلسطينية الإسرائيلية أكثر دقة من الدعم القاطع لإسرائيل الذي تقدمه الولايات المتحدة، بجانب أن "الاستقلالية الاستراتيجية" عن واشنطن طالما كانت واحدة من المشروعات المفضلة لماكرون.
قال كريستيان ليكيسن، أستاذ العلاقات الدولية في المعهد الفرنسي للعلوم السياسية في باريس: "عندما تندلع أزمة، تسعى فرنسا للعثور على دور لها". منذ الرئيس الفرنسي شارل ديغول، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، "حتى عندما يكون لدينا موارد أقل مما لدى القوى العظمى، نحاول أن نتصرف كما لو أننا لا نزال واحدة منها. بالنسبة للفرنسيين، سيكون من المأساة الاعتراف بأنهم ما عادوا فارقين الآن"، وذلك حسبما أوضح ليكيسين.
5- البحث عن دور ونفوذ عالمي أكبر لفرنسا
بعد اندلاع الحرب التي أطلقتها إسرائيل، شرع ماكرون في جولة حول المنطقة، والتقى القادة في إسرائيل، والضفة الغربية، والأردن، ومصر. وأعلن عن نشر حاملتي مروحيات في شرق البحر المتوسط، واستضاف قمة للمساعدات الإنسانية من أجل الفلسطينيين، حيث تعهد بجمع تبرعات فرنسية تتراوح بين 20 مليون و 100 مليون يورو هذا العام.
يجسد هذا شعوراً بالألفة جراء تكرار التجربة بالنسبة للبعض، أو ما يعرف بـ"الديجافو". ففي مطلع العام الماضي، بينما كان يلوح في الأفق غزو روسيا ضد أوكرانيا، خرج القائد الفرنسي في حملة دبلوماسية محمومة، في رحلة إلى موسكو بولغ في التهليل لها، ليحاول منع الهجوم. ثم بعد مرور شهور قليلة من بدء الحرب، أثار حفيظة حلفائه بالإشارة إلى أن روسيا "يجب ألا تُهان"، وبدا أنه يدفع لحل تفاوضي مبكر للغاية، على أن يُرضي أوكرانيا.
برغم هذه الجهود الرامية لخلق دور له، تواجه فرنسا مراراً وتكراراً حقيقة محدودية النفوذ الذي لديها على الأحداث التي تحاول صياغتها، كما تقول مجلة فورين بوليسي.
صحيح أن موقف فرنسا الأخير قد يغيظ القادة الإسرائيليين، لكنه بالكاد يحمل نفس ثقل التمويل الدفاعي البالغ حوالي 4 مليارات دولار، الذي تحصل عليه تل أبيب كل سنة من الولايات المتحدة، فضلاً عن وجود مفاوضات تدور في الوقت الراهن داخل الكونغرس بمنحها حزمة مساعدات إضافية تصل إلى 14 مليار دولار.
وقال جوليان بارنز ديسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية: "الأطراف الفاعلة الخارجية الرئيسية تتمثل في الولايات المتحدة وإيران، وتملك باريس يداً أضعف بكثير".
ليس ماكرون وحده يواجه موقفاً صعباً.. الضغط يزداد على بايدن أيضاً
والسؤال المطروح هنا يتعلق بما إذا كان الانتقاد الصريح من جانب ماكرون ضد سلوك إسرائيل، سوف يسرع إغلاق نافذة المشروعية التي تمتعت بها حملتها العسكرية دولياً، في خضم الصدمة من قوة عملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس.
ليس ماكرون وحده الزعيم الغربي الوحيد الذي يواجه موقفاً صعباً داخلياً بسبب الصراع. مثلما هو الحال مع فرنسا، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا أيضاً يواجهون تصاعداً هائلاً في حوادث الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية. الدعم المادي والدبلوماسي الذي يقدمه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل، يُوقعه في مشكلة مع قاعدته الخاصة، إذ يعتقد 44% من الديمقراطيين أنه كان شديد الدعم للعملية العسكرية في غزة، بجانب أن تقييماته تراجعت بين المسلمين الأمريكيين، مما قد يضره بشدة في الولايات المتأرجحة الحاسمة في الانتخابات الرئاسية العام القادم.
ودعمت النائبة إلهان عمر قراراً هذا الأسبوع في مجلس النواب، لمنع بيع بعض الأسلحة الأمريكية الدقيقة، التي تستخدمها إسرائيل ضد حماس في غزة.
في بريطانيا، يواجه رئيس الوزراء، ريشي سوناك، احتجاجات هائلة مؤيدة لفلسطين أسبوعياً، وأقال مؤخراً وزيرة الداخلية في حكومته، سويلا برافرمان، بعد أن أشعلت التوترات بوصفها المظاهرات بأنها "مسيرات كراهية"، وزعمها أن الشرطة كانت متساهلة للغاية معها.
ولعل الرياح تتغير بالفعل. تجنبت إدارة بايدن الضغط من أجل وقف إطلاق النار حتى الآن، لكنها صارت أعلى صوتاً في دعواتها إلى هدنات في القتال لإيصال المساعدات إلى المدنيين، وتيسير إطلاق سراح الأسرى لدى حماس. بعد أن بدأ الإسرائيليون في استهداف المستشفى الرئيسي في غزة، الذي زعموا أن حماس وضعت تحته مراكز القيادة الرئيسية لديها، نصحهم بايدن بأن يتخذوا إجراءات "أقل تدخلاً" هناك.
في يوم الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني، مرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للمرة الأولى منذ بداية الحرب قراراً يطالب بـ"هدنات إنسانية عاجلة وممتدة" بفضل امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، فضلاً عن امتناع أعضاء آخرين.
ولكن في الوقت الراهن، لا يزال أقوى حلفاء إسرائيل كارهاً لاعتماد لغة مباشرة مثل ماكرون. قال ليكسين: "المهم بالنسبة لفرنسا أنها استباقية. وتَحَقُّق النتائج من عدمه مسألة مختلفة برغم ذلك".