بعد 30 عاماً على أوسلو، التي قدمت كل شيء لإسرائيل ولم تقدم للفلسطينيين أي شيء، جاء يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليؤكد أن الحل الوحيد هو إقامة دولة فلسطين، فهل يعتبر الانتصار الأهم منذ 75 عاماً؟
كان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قد شهد عملية "طوفان الأقصى" وهو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على قطاع غزة منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ماذا حقق انتصار حماس على إسرائيل؟
على الرغم من أن العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة ربما يكون الأعنف والأكثر تدميراً على الإطلاق، إلا أنه لم يغير شيئاً في الحقائق التي تم تثبيتها على الأرض، وأبرزها أن المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس حققت انتصاراً عسكرياً يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهذا الانتصار هو الأهم على الإطلاق منذ زرع الدولة اليهودية في أرض فلسطين عام 1948، بحسب أغلب الخبراء والمحللين.
ورصد تحليل لمجلة فورين بوليسي الأمريكية عنوانه "فيما كانت تفكر حماس" كيف تمثل عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول انقلاباً استراتيجياً مدروساً من جانب حماس في ظل عدد من المعطيات التي كانت موجودة على الأرض وتسعى إسرائيل لترسيخها منذ سنوات طويلة.
عملت إسرائيل منذ الانتخابات الفلسطينية، التي أجريت قبل نحو 20 عاماً وفازت فيها حماس بالأغلبية على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، على احتواء حركة حماس وحصارها داخل قطاع غزة حتى ينهي الاحتلال تماماً على فكرة المقاومة المسلحة ويواصل عملية ابتلاع الأراضي المحتلة في القدس والضفة الغربية عبر سياسات الاستيطان والتهجير.
حاولت حماس على مدى نحو عقدين من الزمان تقديم المبادرات الدبلوماسية الهادفة إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الرابع من يونيو/حزيران 1967 (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، لكن جميع المبادرات والمساعي التي قدمتها قوبلت بالغطرسة والرفض من جانب الاحتلال، وسط تواطؤ كامل من المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وبنت إسرائيل استراتيجيتها في التعامل مع حماس وباقي فصائل المقاومة في غزة على أساس تجربتها مع منظمة التحرير الفلسطينية ومسار "أوسلو"، متوهمة أن سياسة "الاحتواء" ناجحة وأن ما تريده حماس هو أن تظل "تحكم" غزة ولو حتى في ظل كونه "أكبر سجن مفتوح" في العالم، بوصف المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية.
وفي هذا الإطار، جاءت عملية "طوفان الأقصى" والانتصار العسكري الذي تحقق في ذلك اليوم، والذي أصبح حقيقة ثابتة رغم محاولات إسرائيل وداعميها في إدارة جو بايدن وباقي العواصم الغربية التقليل منه ووصمه بـ"الإرهاب"، ليقلب الأمور رأساً على عقب وينسف جميع "الأوهام" التي أحاطت برغبة الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولتهم المستقلة مقابل بعض "المكاسب الاقتصادية"، كما روج قادة إسرائيل، وبخاصة نتنياهو، وقادة الغرب وبعض الزعماء العرب أيضاً.
ولابد هنا من ذكر بعض الحقائق المتعلقة بعملية طوفان الأقصى:
– أولاً: الهدف الرئيسي لحماس من عملية طوفان الأقصى كان أسر جنود من جيش الاحتلال لإجبار إسرائيل على تحرير الأسرى الفلسطينيين، وهو ما ماطلت فيه إسرائيل طويلاً، وكان أحد شروط وقف إطلاق النار في المواجهة الأخيرة عام 2021. وأكدت حماس بالفعل أن مقاتليها لم يأسروا مستوطنين إسرائيليين يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وأن هؤلاء المستوطنين تم أسرهم من جانب مدنيين غزاويين ومقاتلين من فصائل أخرى لم يكونوا على علم بطوفان الأقصى وعبروا الثغرات في السور الحديدي بعد اختراقه من جانب مقاتلي حماس.
– ثانياً: تحطمت أسطورة الأمن الإسرائيلي التي كان يروج لها قادة الاحتلال على مدى السنوات الماضية وهدمت تماماً المعادلة التي لطالما سوقها نتنياهو تحديداً للإسرائليين والعالم والمنطقة؛ وهي "السلام مقابل السلام"، أي أن إسرائيل غير مضطرة للانسحاب من الأراضي الفلسطينية تنفيذاً للمبادرة العربية "الأرض مقابل السلام"، وبدا بالفعل أن نتنياهو يحقق أوهامه، فالتطبيع مع بعض الدول العربية بدأ بالفعل دون أي مقابل من جانب تل أبيب، وأصبح الفلسطينيون منسيين تماماً من حسابات جميع الأطراف.
– ثالثاً: منذ تشكيل الحكومة الحالية في إسرائيل، التي وصفت غربياً وإسرائيلياً حتى بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، تسارعت بشكل غير مسبوق خطط تهويد القدس واستباحة المسجد الأقصى والتوسع في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، كل ذلك دون أن يتحرك أي طرف، لا إقليمي ولا دولي، ليوقف هذه التصفية الممنهجة والمتسارعة لما تبقى للفلسطينيين في أرضهم، رغم آلاف التقارير الغربية والأممية التي ترصد تلك التصفية وتصف الاحتلال بأنه "نظام فصل عنصري" وما إلى ذلك من تقارير وأوصاف دون أن يتحرك أحد أو تتوقف الممارسات القمعية.
– رابعاً: كان أمام قيادة حركة المقاومة الفلسطينية حماس إما الرضوخ لهذا الواقع البشع والتخلي تماماً عن حلم الدولة الفلسطينية والتحرر من الاحتلال أو مواصلة خيار المقاومة المسلحة ولكن بشروط مختلفة تكسر سياسة "الاحتواء" الإسرائيلي وتفرض معادلة جديدة توحد الفلسطينيين جميعاً تحت راية التحرر الوطني على غرار الانتفاضتين الأولى والثانية.
– خامساً: حققت عملية طوفان الأقصى انتصاراً حاسماً ربما لم يتوقعه البعض داخل صفوف المقاومة نفسها، وانهار السور الحديدي وأقوى جيش في المنطقة وارتجفت إسرائيل حتى النخاع. وعلى مدى نحو 50 يوماً من "الانتقام" وارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية تحت مرأى ومسمع من العالم أجمع، لم تحقق إسرائيل شيئاً يذكر من الناحية العسكرية، وأجبرت على التفاوض مع حماس لتحرير أسراها من خلال صفقة وهدنة بدأت الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني لمدة 4 أيام ويجري الحديث عن تجديدها. ويرى جميع المراقبين بلا استثناء أنه حتى إذا ما واصلت إسرائيل عدوانها الهمجي على المدنيين في غزة وحتى إذا نجحت في تقليص قدرات حماس العسكرية كما تتمنى، فإن حماس قد أصبحت الرقم الأهم فلسطينياً على المستوى السياسي والاستراتيجي وليس فقط العسكري.
ماذا حققت "أوسلو" للفلسطينيين؟
"كل ما حصل عليه الفلسطينيون من أوسلو هو كنتاكي"، هذا هو عنوان تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية منشور بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل أسبوع واحد من عملية "طوفان الأقصى"، يرصد مسار عملية السلام التي كان من المفترض أن تنتج عنها دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. وطبقاً لتلك الاتفاقيات، التي رعتها واشنطن، كان من المفترض أن الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية قد رأت النور عام 1999.
يرصد التقرير كيف استغلت إسرائيل مسار التفاوض "الذي تفضله"، ولمدة 30 عاماً، في تحقيق أهدافها من ابتلاع أراضي الفلسطينيين وشيطنتهم من جهة، والاندماج في منطقة الشرق الأوسط من خلال الاعتراف بها والتطبيع منها من جانب باقي الدول العربية، دون أن تقدم أي شيء في المقابل لا للفلسطينيين ولا حتى للمطبعين معها.
ففي عام 2000، أي بعد سنوات من توقيع أول اتفاقيات أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات في رام الله بالضفة الغربية، اندلعت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) بعد أن اقتحم رئيس وزراء إسرائيل أرئيل شارون المسجد الأقصى متحدياً الجميع. ثم اجتاحت الدبابات الإسرائيلية عام 2002 مدن الضفة الغربية، ومنها رام الله، وكان الهدف هو القضاء على قيادة السلطة برئاسة عرفات.
لم تتجاهل إسرائيل فقط الاتفاقيات الموقعة مع السلطة برئاسة المجتمع الدولي، لكنها كشفت وفي وقت مبكر عن نواياها من وراء الدخول في مفاوضات "السلام" مع الفلسطينيين، وهي استغلال تلك المفاوضات للقضاء تماماً على أي بوادر للمقاومة المسلحة وإخضاع الفلسطينيين لشروطها التي يمكن تلخيصها ببساطة تحت عنوان "عليكم أن تنسوا فلسطين تماماً".
وعلى مدى 30 عاماً، بدا أن إسرائيل تقترب بشدة من تحقيق "أمنياتها". غزة، التي حلم قادة الاحتلال جميعاً وتمنوا لو أن "البحر يبتلعها"، أصبحت محاصرة بشكل مطبق، وعملية تهويد القدس وتهجير من تبقى بها من الفلسطينيين تجري على قدم وساق وتغيير الوضع القائم في المسجد تمهيداً لهدمه أصبحت على مسار سريع، وابتلاع الضغة الغربية أو على الأقل أغلبها من خلال الاستيطان أصبح الملف الأهم لحكومة "السوابق" برئاسة نتنياهو.
وعلى الجانب الآخر، انطلقت عملية التطبيع مع الدول العربية، فأقيمت علاقات مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان عام 2020، وكانت الاستعدادات تجري على قدم وساق لانضمام دول عربية أخرى إلى قطار التطبيع المجاني حتى يمتلك جو بايدن ورقة انتخابية مهمة تساعده في البقاء فترة رئاسية ثانية خلال انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
"حل الدولتين" سيد الموقف
لكن كل شيء تغير تماماً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ففلسطين أصبحت حديث العالم أجمع مرة أخرى، واختفت جميع القضايا الأخرى، سواء الحرب في أوكرانيا أو الصراع بين أمريكا والصين أو حتى قضايا تغير المناخ وغيرها.
الآن أصبحت فلسطين والاحتلال الإسرائيلي الملف الأهم على الساحة الدولية والإقليمية. وعلى الرغم من البروباغندا الإسرائيلية بشأن ما حدث في ذلك اليوم لتبرير عدوانها الوحشي على أهل غزة، إلا أن السبب الرئيسي لما حدث ويحدث أصبح حاضراً وبقوة، حتى في تصريحات أكثر الزعماء الغربيين دعماً للاحتلال وهي الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن.
صحيح أن الحديث عن حل الدولتين من جانب بايدن تحديداً يأتي أحياناً مقروناً بالحديث عن أن حماس "لا يمكن أن تكون جزءاً من المستقبل"، فما مدى واقعية أو حتى إمكانية تحقيق هذا الهدف؟ الرد جاء من تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية ويخلص إلى أن "حماس جزء من الروح الفلسطينية الجديدة التي لا تستطيع إسرائيل تغييرها"، ويرصد النقاشات الدائرة حالياً في الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية بشأن المستقبل، ليس فقط في غزة بل في الأراضي الفلسطينية كاملةً، وفي القلب من هذا الحديث حماس ودورها المحوري.
الخلاصة هنا هي أن "حل الدولتين" بات العنوان الرئيس الآن في جميع محاور النقاش، داخل المنطقة وخارجها وحول العالم، على الرغم من أن غبار العدوان لم يهدأ بعد ولا أحد يمكنه التكهن بمتى أو كيف ستنتهي هذه الجولة من صراع الإرادات بين الاحتلال والمقاومة. ولا شك أن هذه النقطة تحديداً تجعل من "طوفان الأقصى" الانتصار الفلسطيني الأهم على الإطلاق منذ تأسيس إسرائيل قبل 75 عاماً.
فقبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان إقامة دولة فلسطينية قد أصبح وكأنه "حديث الماضي السحيق"، وحل محله حديث التطبيع واندماج إسرائيل في المنطقة وقضايا أخرى كثيرة ليس من بينها أبداً ما يتعرض له الفلسطينيون من تنكيل وتهجير واعتقالات واستشهاد بشكل يومي على أيدي أكثر الحكومات تطرفاً على الإطلاق.