تتصرف إسرائيل، في عدوانها على غزة، كما لو كان لديها كل الوقت الذي تحتاجه، لكن كيف يفرض الواقع أموراً مختلفة تماماً عما يروج له نتنياهو؟ الإجابة في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى"، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
أين تقف إسرائيل من أهدافها في غزة؟
بعد نهاية الأسبوع الثالث من الاجتياح البري لجيش الاحتلال الإسرائيلي في شمال قطاع غزة، ومع نهاية الأسبوع السادس منذ بداية العدوان، نشرت صحيفة "هآرتس" تحليلاً للموقف بدأته بضرورة النظر إلى الأمر الواقع بعقلانية. وزعمت الصحيفة أن جيش الاحتلال واجه مقاومةً كانت متوقعة وأن الضرر الذي لحق بتشكيلات حماس العسكرية في الشمال كان شديداً للغاية، مضيفة أن ربما تكون قدرات سيطرة حماس المدنية داخل الأراضي التي تعرضت للهجوم قد أحبطت.
لكن حركة حماس ككل لم تستسلم ولا تزال قياداتها بعيدةً كل البعد عن الاستسلام على الأرجح، إذ تحدثت صحيفة Haaretz يوم الخميس 16 نوفمبر/تشرين الثاني إلى مايكل ميلشتاين من جامعة تل أبيب ومركز هرتسليا، الذي يُعد أكثر الخبراء رصانةً في ما يتعلق بحماس. وقال ميلشتاين: "يجب ألا نخدع أنفسنا.. ليست حركة حماس قريبةً من الانهيار بعد".
ومع مرور الوقت بدأ العدوان الإسرائيلي، على شراسته واستهدافه المستمر للمدنيين في القطاع، يبدو وكأنه مجرد عقبةٍ أخرى يُمكن اجتيازها على الطريق الطويل نحو القدس بالنسبة لحماس وقائدها في قطاع غزة، يحيى السنوار، بحسب هآرتس.
وعلى الرغم من محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي لتركيز الأنظار على مستشفى الشفاء وإيلائها اهتماماً إعلامياً كبيراً، فإن هناك شكوكاً "في كونها جوهر المشكلة في الحرب خلال الوقت الراهن"، تقول الصحيفة العبرية، التي ركزت على ما كان يجري خلف الكواليس الأسبوع الماضي، أي البدء في نقاش أول صفقة عملية للإفراج عن نحو 50 رهينة، وهي الصفقة التي رفضتها إسرائيل من قبل بسبب خلفيات الضغوط السياسية التي يتعرض لها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
"ولا تكمن المشكلة في أن الوضع ثابت"، تقول الصحيفة راصدةً فوضى العدوان على قطاع غزة، وكيف أن الوضع ربما يتفاقم إذا امتد القتال لمناطق أخرى أيضاً. وليس هناك ضمان بأن المختطفين الناجين أو الذين يتمتعون بصحةٍ جيدةٍ نسبياً الآن سيظلون في الحالة نفسها الأسبوع المقبل.
بينما يضغط وزير الدفاع يوآف غالانت وكبار مسؤولي الجيش من أجل مواصلة العملية بكل قوة على خلفية ما يزعمون أنها "نجاحات عسكرية"، ويؤمنون أن الهجمات الإضافية على حماس ستساعد في الحصول على تنازلات في المفاوضات، إلا أن الواقع يشير إلى أن جيش الاحتلال لم يتحرك على الأرض بعد في مناطق كبيرة من مدينة غزة نفسها، وخاصةً الأحياء الشمالية والجنوبية. وفي الوقت نفسه، يتحدث غالانت وقادته بشكلٍ علني عن ضرورة التعامل مع جنوب قطاع غزة لاحقاً أيضاً، وهي المنطقة الواقعة جنوب وادي غزة.
الوقت سيف مسلط على رقبة إسرائيل
تحليل الصحيفة العبرية تم نشره قبل موافقة إسرائيل وحماس على الهدنة بوساطة قطرية وأمريكية ومصرية، وهي الهدنة التي دخلت حيز التنفيذ صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن حدث تغير جذري في موقف نتنياهو وغالانت في هذا الصدد.
تحليل هآرتس رصد نقاطاً هامة تتعلق بما يوصف إسرائيلياً بأنه "نجاح جزئي في الاجتياح البري لشمال القطاع"، أبرزها هو إجبار المدنيين بشكل كبير على النزوح باتجاه وسط وجنوب القطاع، "لكن التحرك المستقبلي نحو الجنوب سيجري تحت ظروف كثافة سكانية مختلفة تماماً، ولم تتضح بعد إمكانية دفع السكان الفلسطينيين في اتجاه معاقل أخرى داخل المنطقة الجنوبية".
كما سيكون على إسرائيل زيادة وتحسين تعاملها مع أنفاق حماس الدفاعية، إذ تُشير التقديرات الآن إلى إلحاق الأضرار بنحو 30% من الفتحات والأنفاق في شمال القطاع، وهذه تقديرات إسرائيلية بطبيعة الحال، وفي الوقت الراهن، لم يتحقق بعد وعد إسرائيل بتحويل الأنفاق من نقطة قوة إلى عبء على حماس.
وخلص تحليل هآرتس في هذه الجزئية إلى أن "وزير الدفاع وهيئة الأركان المشتركة يفضلون التحرك وكأن إسرائيل لا تتعرض لضغوط خارجية" من أجل إنهاء العدوان المكثف على الأرض؛ حيث قال غالانت في الأسبوع الجاري: "لا نرى عقارب الساعات، بل نرى أهدافنا فقط". لكن استمرار الدعم الأمريكي ليس أمراً مضموناً، لأن الولايات المتحدة تستهدف الحيلولة دون تدهور الأوضاع مع حزب الله واندلاع حربٍ إقليمية.
أهداف نتنياهو "بعيدة المنال"
تمثل إعادة الأسرى لدى المقاومة في غزة عنصر ضغط هائلاً على نتنياهو وفقاً للتصريحات العلنية، لكن اللهجة بدأت تتغير تدريجياً خلال الأسبوع الماضي، حيث شكّل عدد أيام الهدنة المرتبطة بالصفقة نقطة جدال رئيسية، إذ تريد حماس هدنةً تمتد لخمسة أيام، بينما تُصر إسرائيل على ثلاثة أيام فقط، وفي النهاية تم التوصل إلى هدنة لأربعة أيام مبدئياً شملت إطلاق سراح 50 رهينة فقط وليست 70 كما أرادت إسرائيل.
تلعب حسابات نتنياهو السياسية دوراً في الخلفية، بحسب المصادر السياسية التي تحدثت إليها هآرتس. إذ يتمثل العائق الأساسي لرئيس الوزراء في شركائه من اليمين المتطرف وخاصةً الوزير إيتمار بن غفير من حزب القوة اليهودية، الذي يتطلع لأن ينأى بنفسه عن الإخفاق في الحرب وربما ينسحب من الائتلاف الحاكم.
وقد هاجم بن غفير القرارات المتخذة بطريقة مبطنة حتى الآن، لكنه يحرص في الوقت ذاته على زيادة الصراع اشتعالاً عن طريق توزيع الأسلحة بالجملة على المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية المحتلة، وداخل الخط الأخضر، كما ينشر على الإنترنت مشاهد الإهانات غير الإنسانية التي أمر بتنفيذها ضد الأسرى الفلسطينيين، وبخاصة من ينتمون لحركة حماس.
وإذا هاجم اليمين المتطرف نتنياهو بسبب تنازلاته لحماس في الصفقة، فسوف يفقد نتنياهو سيطرته على ائتلافه الحاكم، ويبدو أن نجاة نتنياهو السياسية تظل الاعتبار الأول لرئيس الوزراء حتى في خضم هذه الحرب الفظيعة، التي تؤثر كذلك على فرص إفلاته من السجن، تقول هآرتس.
وتطالب حماس بتجديد إمدادات الوقود أيضاً، لكن إسرائيل ترفض ذلك، وتكمن المشكلة في أن المسؤولين الإسرائيليين اختاروا الإعلان عن مساعٍ بعيدة المنال عندما قالوا إنهم لن يسمحوا بدخول نقطة وقود واحدة، لهذا أصبحوا اليوم في مأزق، بحسب هآرتس، بعد أن شملت الصفقة إدخال شحنات من الوقود بالفعل، وتضيف الصحيفة أيضاً أن إسرائيل سمحت بنقل بعض الوقود إلى غزة في الأسبوع الجاري لتغطية احتياجات الأونروا، وذلك تحت ضغط أمريكي، مما يتعارض مع تصريحاتها السابقة.
وربما تُعوِّل حماس على سلسلة الوعود والصفقات الإضافية التي ستمنع الجيش الإسرائيلي من استئناف هجومه على نطاقٍ واسع، وذلك بعد دخول الصفقة الأولى حيز التنفيذ. ولا تزال قيادة الحركة في قطاع غزة تنظر إلى هذه الحرب باعتبارها جولةً من جولات الصراع، أي إنها ستنتهي بوقفٍ لإطلاق النار وإحياء لجهود بناء قوتها العسكرية في انتظار التصعيد المستقبلي، بحسب الصحيفة العبرية، علماً بأن التصريحات الصادرة عن المقاومة تشير إلى الاستعداد الكامل إذا ما اختارت إسرائيل مواصلة العدوان.
كان نتنياهو على خطأ في تصريحاته السابقة المتعلقة بالقضاء على حماس وتحرير الأسرى عن طريق الحل العسكري، وبالتالي يرى تحليل هآرتس أن الجمهور الإسرائيلي قد لا يقبل من نتنياهو نهايةً لا تتضمن الهزيمة الحاسمة لحماس والقضاء على قدرة الحركة الفعلية داخل القطاع، وسيجد نتنياهو هذه المرة صعوبةً في الاكتفاء بمزاعم أنه وجه "ضربةً قوية" لحماس.
ولا شك أن تأخيره في الترويج لصفقة الرهائن كان له سبب تكميلي يتمثل في رفضه العنيد لنقاش الظروف المحتملة لإنهاء القتال، وكذلك سيناريوهات اليوم التالي لنهاية الحرب. وهذا يشمل تحديداً تصريحاته بأنه لن يمنح السلطة الفلسطينية موطئ قدمٍ في قطاع غزة -إذا نجح في هزيمة حماس بالطبع. ويتعارض هذا الموقف مع ما خلص إليه الخبراء فيما يتعلق بهذا الأمر. حيث أشارت وثيقة انتشرت مؤخراً من جهاز الشاباك إلى أن أي حكومة جديدة في قطاع غزة، بعد انسحاب إسرائيل، سيتعيّن عليها أن تضم مُكوّناً ينوب عن السلطة الفلسطينية -رغم ضعفها، بحسب هآرتس.
وهنا، تتشابك مصالح نتنياهو مع فصائل اليمين المتطرف، وخاصة حزب الصهيونية الدينية الذي يقوده بتسلئيل سموتريتش. إذ يُدرك اليمين المتطرف أن الرعاية الأمريكية لإسرائيل لا تأتي بالمجان، وأن إدارة بايدن ستضطر لاستئناف دعايتها للعملية السياسية بين إسرائيل وبين السلطة الفلسطينية -من حيث المبدأ على الأقل-، وذلك متى وعندما تنتهي الحرب في غزة.
ووسط هذه الظروف، هناك شك في أن نتنياهو يفكر في سيناريو آخر سيخاطر بإبطاء المساعدات الأمنية العاجلة من أمريكا لإسرائيل. ويتمثل ذلك السيناريو في الاحتكاك مع الأمريكيين سياسياً، ثم خوض حربٍ مطولة تسمح له أن يتمسك بمنصبه بدعوى استمرار القتال. والسؤال هنا يتمثل في ما إذا كان شركاء تحالفه سيرتضون بهذا السيناريو الخطير أم لا، تقول هآرتس.
وتتجلى استراتيجية نتنياهو في طريقة تقسيمه لوقته. إذ أجرى رئيس الوزراء قرابة الـ20 زيارة إلى وحدات الجيش بالفعل منذ بدء الحرب. وبدلاً من صياغة مفهوم لإدارة الحرب أو الدعوة لإطلاق سراح الأسرى، يُهدر نتنياهو ساعات طويلة في الابتسام لعدسات الكاميرات وسط الجنود من الذكور والإناث، وكأنه على وشك خوض انتخابات جديدة. وهو منغمس في تلك الحملة بشدة همّشت الوقت الذي يخصصه للقاء عائلات القتلى في الحرب البرية وعائلات الأسرى، ناهيك عن الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من محيط غزة والحدود الشمالية.
وتعتمد زيارات القواعد على تعداد أفراد الجيش النظامي داخلها، حيث يجري إبعاد جنود الاحتياط عنها بشكلٍ ممنهج خشية أن يستمع نتنياهو إلى الآراء الحقيقية للعديد من المقاتلين في أدائه، قبل أن تخرج تلك المشاهد إلى العلن بطريقةٍ أو بأخرى. وقد نشر تامير شتاينمان خبراً عن جنود احتياط تم إخراجهم من قاعدة بالقرب من غزة لعدة ساعات الأسبوع الجاري، وظلوا في العراء؛ حتى لا يؤثروا على متابعة مكتب نتنياهو لجدول عروضه اليومية، بحسب هآرتس.
الخلاصة هنا أن هناك انطباعاً لدى الكثيرين بأن مخاوف الحرب وحّدت الرأي العام الإسرائيلي وأخفت الخلافات التي أججها نتنياهو، والتي أغرقت البلاد خلال الأشهر التسعة لحكومته قبيل الكارثة، لكن بقاء الوضع على ما هو عليه ليس أمراً مضموناً. إذ قد يؤدي استمرار الحرب إلى تمزيق وحدة الرأي العام بين اليمين واليسار مجدداً، أي أن الوقت يبدو سيفاً مسلطاً على رقبة إسرائيل.