من المؤكد أن جميع الموجودين في واشنطن الآن قد أخذوا نصيبهم من الضحك على جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، الذي قال في خطابٍ له يوم الـ29 من سبتمبر/أيلول إن "منطقة الشرق الأوسط صارت اليوم أهدأ مما كانت عليه منذ عقود". ويمكن القول إن كلماته قد عفى عليها الزمن بشكلٍ سيئ على أقل تقدير، لكنها كانت من المفترض أن تثير الدهشة حتى لو لم تنفذ حماس طوفان الأقصى والذي جاء جزئياً نتيجة السياسات الأمريكية بالشرق الأوسط.
إذ تعُج المنطقة بالدول الفاشلة أو المنهارة خارج نطاق مجلس التعاون الخليجي، الذي يضم الدول الملكية النفطية المستقرة، حيث تتأرجح مصر، أكثر الدول العربية سكاناً، على حافة الإفلاس. بينما يمر لبنان بواحدةٍ من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ المعاصر، ولا تتوقف قائمة المصائب عند هذا الحد، فمنطقة الشرق الأوسط لن تبدو هادئةً إلا إذا تجاهلتها، وهذا هو ما كانت إدارة بايدن تحاول فعله بالتحديد، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة Politico الأمريكية.
السياسات الأمريكية بالشرق الأوسط تهدف إلى إبعاد فلسطين عن الطاولة
عانى المسؤولون الأمريكيون من أجل صياغة "عقيدة بايدن" في المنطقة، لكن سوليفان كان الأقرب لتوضيحها في خطابه بشهر سبتمبر/أيلول، عندما قال: "نريد خفض الضغط، ووقف التصعيد، وتحقيق التكامل في منطقة الشرق الأوسط بنهاية المطاف". واعتمدت الإدارة في تحقيق ذلك على ثلاثة مسارات سياسية: الترويج للتطبيع العربي-الإسرائيلي، ومتابعة المسار الدبلوماسي مع إيران، ودفع جهود التكامل الاقتصادي. وكان من المفترض أن تُعزز هذه المسارات بعضها بعضاً.
بينما تجاهلت الإدارة كل شيء آخر، إذ تجاهلت الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وتركت المناصب الدبلوماسية الرئيسية دون تعيين، لدرجة أنها لم تكترث لتعيين سفير في مصر حتى شهر مارس/آذار الماضي. وقد طلبتُ من أحد الدبلوماسيين الأمريكيين أن يصف لي سياسة البلاد في سوريا العام الماضي، فهز كتفيه وضحك. ثم قال لي إن وظيفته هي إبقاء ملف الشرق الأوسط بعيداً عن طاولة بايدن، مُردداً بذلك الكلمات التي سمعتها مراراً على لسان المسؤولين الأمريكيين منذ عام 2021.
هذا هو المفهوم الجماعي المغلوط الذي تبنّته الولايات المتحدة، إذ ظنت أن توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام والتوصل إلى هدنة مع إيران سيسمحان لها أن تفك ارتباطها بالشرق الأوسط، لكن الصراع الذي حاولت أمريكا تجاهله دفع بالشرق الأوسط الآن إلى حافة الحرب الأوسع، وهي تحاول الادعاء أن هذه الحرب تغذيها إيران مع وكلائها دون التركيز على السبب الحقيقي للتوتر وهو الممارسات الإسرائيلية.
أين التحالف الأمني المزعوم بين بعض الدول العربية وإسرائيل؟
ولا يمكن العثور على التحالف الأمني العربي-الإسرائيلي اليوم، حيث إن غالبية الدول العربية أضعف من أن تلعب دوراً في الأزمة، ما أجبر الولايات المتحدة على إرسال قواتها بشكلٍ عاجل إلى المنطقة التي أرادت الخروج منها.
انصبَّ التركيز المحوري لسياسة بايدن على التطبيع العربي-الإسرائيلي، وهي الفكرة التي ورثها عن إدارة دونالد ترامب واعتنقها بكل حماس. وقد قضى فريقه ساعات طويلة في الحديث إلى المسؤولين السعوديين والإسرائيليين، وذلك لإبرام صفقة ثلاثية تشهد اعتراف السعوديين بإسرائيل وانضمامهم إلى اتفاقيات أبراهام.
وحاول بعض المؤيدين الجدال بأن الاتفاقيات ستساعد الفلسطينيين، من خلال منح الدول العربية نفوذاً أكبر على صنع القرار الإسرائيلي، لكن تلك الحجة كانت مجرد تفكير حالم (والدليل هو مدى غياب تأثيرهم اليوم). أما الحجة الأكثر إقناعاً فهي أن التطبيع كان سيساعد على ترسيخ هيكلة أمنية جديدة في المنطقة.
إذ كانت الإمارات والبحرين من أول الدول التي اعترفت بإسرائيل عام 2020، وكلتاهما تشترك مع إسرائيل في عداء إيران كما هو حال السعودية. وكانت الولايات المتحدة تأمل أن يساعد شعور التهديد المشترك هذا في بناء تحالف عسكري أمني، وربما يتوسع التحالف ذات يوم ويصل بهم إلى درجة تكوين حلف "الناتو العربي".
لكن هذا الأمر لطالما كان حلماً خيالياً، إذ قال لي دبلوماسي خليجي في العام الماضي: "تهدف اتفاقيات أبراهام إلى تعزيز مصالحنا، والحرب مع إيران ليست جزءاً من تلك المصالح".
ولا عجب أن الدول الخليجية في الأسابيع القليلة الماضية لم توحّد صفها مع إسرائيل، التي تحارب قائمة متنامية من وكلاء إيران إضافة للمقاومة الفلسطينية، إذ تشعر تلك الدول بالقلق من أن حرب غزة قد تتحول إلى صراع إقليمي أوسع.
السعودية تلمح بأنها مازالت ملتزمة بالوفاق مع إيران
وقد شهدت الفترة التالية للسابع من أكتوبر/تشرين الأول، مسارعةَ الولايات المتحدة لإرسال مجموعتَي حاملات طائرات إلى شرق المتوسط، ونشر بطاريات الدفاع الجوي بطول منطقة الشرق الأوسط، وإرسال طائرات محملة بالقوات.
بينما حاولت الدول الخليجية الوقوف على الحياد في الوقت ذاته، إذ لمّح السعوديون إلى أنهم لا يزالون ملتزمين بالوفاق الذي توصلوا إليه مع إيران في مارس/آذار. فيما أعلن قادة الإمارات تعاطفهم العلني مع إسرائيل، وأعربوا سراً عن حماسهم لفكرة الإطاحة بحماس.
ومع ذلك تجنّب الإماراتيون الانحياز إلى أي جانب في أي صراع إقليمي. وعندما اضطرت الدول الخليجية للاختيار بين الرغبة الأمريكية في تحالف أمني إقليمي وبين مصالحها الذاتية الفورية، اتجهت الدول الخليجية إلى الخيار الثاني.
بايدن أخفق في احتواء إيران
تبدو الدبلوماسية مع إيران فكرةً ساذجة الآن أيضاً، ولا تستحق إدارة بايدن تحمل كامل المسؤولية عن الفشل في إحياء الاتفاق النووي، إذ يقع جزء من تلك المسؤولية على عاتق الحكومة المحافظة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أو ترامب الذي كان انسحابه من الاتفاق سبباً لإثناء النظام الديني الإيراني عن فكرة التفاوض على اتفاق جديد، حسب التقرير.
وعندما أخفقت المساعي لإحياء الاتفاق، سعت إدارة بايدن إلى إبرام "صفقة مُصغّرة" مع إيران، وهي صفقة المال مقابل الهدوء، فأطلقت إيران في سبتمبر/أيلول سراح خمسة مواطنين أمريكيين سجناء لديها بتهم ملفقة، مقابل 6 مليارات دولار من أرباحها النفطية المجمدة لدى الولايات المتحدة. وبعد أقل من شهر واحد شنَّت حماس هجوم "طوفان الأقصى".
ورغم احتجاجات الجمهوريين، ليس هناك أي رابط بين صفقة السجناء وبين هجوم حماس، حيث أكد مسؤولون بارزون في الجيش والاستخبارات الإسرائيلية على أن إيران وحلفاءها فوجئوا بتحركات حماس. وليس هناك أي دليل موثوق يُشير إلى موافقة إيران أو تصريحها بشن هجوم على إسرائيل.
ومع ذلك، استثمرت إيران مليارات الدولارات في بناء شبكة الوكلاء بالمنطقة، حسب الصحيفة الأمريكية، وقد كان المنطق المبرر للاتفاق النووي هو أن برنامج إيران النووي يمثل تهديداً أكبر من وكلائها، لكن بايدن استقر في النهاية على سياسةٍ لم تنجح في احتواء أي من التهديدين.
والمبادرات الاقتصادية فشلت
تبدو العديد من المبادرات الاقتصادية الأصغر التي رعتها الإدارة وكأنها حماقة اليوم. ففي أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، أشرفت الإدارة على توقيع اتفاق بين لبنان وإسرائيل وسط ضجة كبيرة. وشهدت الصفقة اتفاق الدولتين المتحاربتين على ترسيم حدودهما البحرية، في واحد من مشروعات مستشار الرئيس لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين.
وفي الـ13 من أكتوبر/تشرين الأول، وبعد مضي ستة أيام على الحرب بين إسرائيل وحماس، نقلت وكالة Reuters البريطانية أن أول بئرٍ استكشافية جرى حفرها في المياه اللبنانية بعد الاتفاق لم يُعثر على نفطٍ أو غاز بها، وذلك في منطقة بحرية تُعرف باسم "البلوك 9". وكانت المفارقة سوداوية بالتزامن مع استعداد إسرائيل ولبنان الظاهري لدخول الحرب، لأن المشروع الذي كان يُفترض أن ينقذهما من حافة الهاوية قد تحول إلى سراب.
لا تقل الأشياء التي تجاهلها بايدن أهميةً عن تلك الأشياء التي شدّد على ضرورتها، إذ لا يزال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مشكلةً متفاقمة، وليست هناك أي قضية أخرى تقريباً يمكنها أن تجعل المنطقة بأكملها على حافة الحرب. وحتى قبل هجوم حماس، كان عام 2023 هو العام الأكثر دموية في تاريخ الفلسطينيين بالضفة الغربية المحتلة.
أمريكا تجاهلت الجرائم الإسرائيلية في القدس والضفة
وعلى مدار سنوات، سمحت الولايات المتحدة لبنيامين نتنياهو أن يُحركها، وهو الشخص الذي جادل بإمكانية استمرار الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية إلى الأبد.
وانتقلت الولايات المتحدة من دور الوسيط المشارك (وإن كان متحيّزاً) إلى دور المتفرج الساكن، بينما تصرفت وكأن التطبيع بين إسرائيل والدول العربية البعيدة يُمكن أن يكون بديلاً عن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. حيث قال أحد المشرعين الإسرائيليين الشهر الماضي لكاتب تقرير الصحيفة الأمريكية: "تحولت اتفاقيات أبراهام من فكرة مُكمِّلة إلى فكرة بديلة".
ما لم تركز عليه كثيراً المجلة الأمريكية أن إدارة بايدن تركت الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً تمعن في هجماتها بحق المسجد الأقصى، التي باتت شبه يومية، تمهيداً لضمه أو تقسيمه، إضافة إلى تصعيد ممارستها القمعية بحق الأسرى الفلسطينيين، وأهالي الضفة الغربية، بما في ذلك العمل على تهجيرهم بشكل غير مسبوق، وكل ذلك دون أن تحرك واشنطن ساكناً.
وأبقت على قوات صغيرة بالعراق وسوريا لتصبح أهدافاً مغرية لإيران
ليس هذا هو المكان الوحيد الذي يبدو أن السياسة الأمريكية قد أخفقت فيه، إذ احتفظت الولايات المتحدة بعدد قليل من الجنود في العراق وسوريا.
وهي قوات تشبه الأعضاء الآثارية التي لم تعد تخدم أي غرض عملي، حسب الصحيفة الأمريكية.
وفي الوقت ذاته لمحت إلى أنها تريد تقليص وجودها في الشرق الأوسط، من أجل التركيز على أوروبا وآسيا. ولا تزال الولايات المتحدة هي القوة التي لا منافس لها في المنطقة بالتأكيد، لكنها قوة غير مهتمة ومرتبكة.
مصر تغرق في الديون بينما الأمريكيون يركزون على تسليم الجزيرتين للسعودية
أغرق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بلاده في أزمة ديون، بسبب إنفاقه الضخم على المشاريع التفاخرية المهولة وواردات الأسلحة. وعند سؤال المسؤولين الأمريكيين في الأشهر الأخيرة عما إذا كانوا قلقين حيال فكرة تخلف مصر عن سداد ديونها، نفى المسؤولون ذلك وكأن الأمر ليس مهماً، رغم أنه قد يُزعزع استقرار أكبر بلدٍ عربي وربما يبعث بموجات من طالبي اللجوء إلى الخارج. بينما انصبّت الأولوية الرئيسية لهؤلاء المسؤولين على إقناع السيسي بإتمام صفقة تسليم جزيرتين في البحر الأحمر إلى السعودية، وهي الخطوة التي رأوا أنها ستقربهم من إبرام اتفاقية تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية.
وكثيراً ما يبالغ ساسة الشرق الأوسط في تقدير حجم النفوذ الأمريكي، ولا شك أن الولايات المتحدة قوة عظمى، لكنها ليست موجودة في كل مكان، ولا تتمتع بقوةٍ قاهرةٍ للجميع، إذ كان بايدن سيواجه صعوبة في إحراز تقدم كبير على صعيد السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، بالتزامن مع تمزيق الانقسامات الداخلية لصفوف الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. ولم يكن بوسعه إخراج مصر من أزمتها المالية، أو إقناع ساسة لبنان الفاسدين بالبدء في حل أزمتهم، لكن السياسة الواقعية في الشرق الأوسط كانت تقتضي البدء باعتبار مثل تلك الأمور من المشكلات على الأقل.
وواصلت أمريكا الجري وراء السراب مثل محاولتها إقناع القاهرة بقبول تهجير الفلسطينيين
لقد عادت قضايا الشرق الأوسط إلى طاولة الرئيس الآن، وقد تولت الإدارة المشتركة حرباً مدمرة ليست لها نهاية واضحة، بفضل دعمه الشديد لإسرائيل، ويُمكن القول إن الإدارة طاردت بعض الأحلام الخيالية هنا أيضاً، إذ ضغطت على مصر لقبول اللاجئين من غزة، وهو أمر لم تكن مصر ستقبل به أبداً. كما
طلبت من الدول العربية المساهمة بجنودها في قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات داخل غزة، وهي خطوة ستخلق معضلات عسكرية وأخلاقية تود تلك الدول تجنبها. وتُعرب الإدارة عن انتقادها للتكتيكات الإسرائيلية بصفةٍ شبه يومية، وما ينطوي عليها من حصيلة قتلى مروعة في صفوف المدنيين، وتنتقد استراتيجية إسرائيل التي ليست لديها رؤية لشكل القطاع بعد حماس، لكنها تستمر في تقديم دعمها الكامل لإسرائيل في حربها، لذا من الواضح أن السلبيات لا تزال تطغى على الإيجابيات، وأن الإدارة ليست لديها خطة للتعامل مع ذلك.