أظهرت عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب إسرائيلية على غزة أن الجيش الإسرائيلي بات يواجه احتمال خوض نوع قديم من الحروب الواسعة النطاق ظن أنه قد عفا عليه الزمن.
فلسنوات افترض الجيش الإسرائيلي أنه لن يخوض حرباً واسعة بما أن الدول العربية خرجت من الصراع، سواء مصر عبر اتفاق السلام أو سوريا عبر انهيار الدولة؛ إثر فشل الثورة السورية، وتحول البلاد إلى مناطق نفوذ مقسمة بين روسيا وإيران مع ميل النظام للنأي بنفسه عن الصراع الإيراني مع إسرائيل بقدر المستطاع.
ولكن حرب غزة أظهرت أن جيش الاحتلال بات يواجه حركات مقاومة أكثر قوة من ذي قبل سواء في لبنان أو فلسطين وأن القضاء عليها أو تحييدها كما يريد، يتطلب عمليات عسكرية واسعة تشمل توغلاً برياً كما يحدث الآن في غزة، ويُعتقد أن الجيش الإسرائيلي لم يعُد مؤهلاً، لذلك بشكل كاف بعد أن شهد تخفيضاً في قوته القتالية خاصة المدرعة، بينما أعطيت الأولوية للقوة السيبرانية وفرق الكوماندوز والقوى الأقرب للشرطة العسكرية لمواجهة الاضطرابات شبه المدنية في الضفة الغربية، وهو أمر انتقده مسؤولون ومحللون إسرائيليون قبل طوفان الأقصى.
مع وصول الحرب في جنوب إسرائيل إلى قلب مدينة غزة، تصاعدت المناوشات بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية. إذ شن حزب الله طوال الفترة الماضية هجمات مكثفة، استهدفت في البداية القوات الإسرائيلية بالقرب من الحدود، ثم جنوباً، بما في ذلك إطلاق الصواريخ على مستوطنات في عكا وحيفا.
ورسمياً، حماس هي التي أطلقت كثيراً هذه الصواريخ، لكن من الواضح أنَّ حزب الله هو الذي يحرك الخيوط. ويمارس التنظيم الشيعي لعبة خطيرة قد تؤدي إلى فتح جبهة ثانية كاملة. حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية التي تقول إنه "لولا عملية طوفان الأقصى، 7 أكتوبر/تشرين الأول، في منطقة غزة، لكانت إسرائيل منغمسة بشدة في حرب مع حزب الله".
ولكن يبدو أن ما يردع إسرائيل عن توسيع الحرب هو تراجع أعداد القوات المقاتلة لها.
كما أن أكبر عملية استدعاء والتي نفذتها في تاريخها بعد طوفان الأقصى أدت إلى حرمان سوق العمل الإسرائيلية من 360 ألف جندي كانوا يمثلون مكوناً مهماً في شركات التكنولوجيا وغيرها من الشركات المهمة في إسرائيل.
خبراء حذروا قبل طوفان الأقصى من تراجع قدرات الجيش الإسرائيلي القتالية
وسبق أن حذر الدكتور آفي جاغر الأستاذ في معهد ما يسمى الإرهاب في إسرائيل بأن الدولة العبرية باتت تنحو لسياسة دفاعية تحمي نفسها عبر الأسوار العالية المزودة بالتكنولوجيا وتركز على الحرب السيبرانية على حساب المدرعات والمشاة، رغم أن التحديات الأمنية قد تعني حاجة إسرائيل للتوغل، بل احتلال مناطق عربية سواء في فلسطين أو لبنان أو سوريا لدرء صعود حركات المقاومة، وهي نبوءة يبدو أنها قد تحققت في عملية طوفان الأقصى.
وقال جاغر في دراسة نشرها قبل عملية طوفان الأقصى: "إنه على مدار العقد المنصرم أجرى الجيش الإسرائيلي تعديلات جوهرية على هيكله وأولوياته، َحيث قلصت قوات المشاة والمدرعات والمدفعية، وأمر بإنفاذ تغييرات هيكلية تنظيمية وعقيدية لجعل قواته أكثر ملاءمة للصراعات المرتقبة ضد حماس وحزب الله، ووسع سلاح البحرية وسلاح الجو مقدراتهما غير التقليدية على حساب القدرات القتالية في الحروب التقليدية، وجعل الجيش الإسرائيلي الأولوية لتوسيع الوحدات السيبرانية والاستخباراتية على حساب الوحدات الأخرى.
كانت القوى الدافعة وراء هذه التعديلات هي صعود خصوم غير دوليين، وانحسار تهديد الدول القومية المحيطة، بالإضافة إلى الطفرات الابتكارية في التكنولوجيا العسكرية، غير أن تداعيات إجراء التعديلات المذكورة على أمن إسرائيل خطيرة، فحماس وحزب الله يطوران أساليب جديدة لتهديد إسرائيل بفاعلية، والتي استجابت لذلك بالأساس عبر تطوير تدابير دفاعية لحمايتها من هذه التهديدات بدلاً من شن اشتباكات هجومية مباشرة مع مصادرها، حسب جاغر.
وسيؤدي انتهاج تغييرات كبيرة في جيش الإسرائيلي تقلصت بموجبها أذرع المشاة والمدرعات والمدفعية تجاوباً مع تصاعد التهديدات غير الحكومية، إلى أن تصعب على القوات البرية – حال خوضها حرباً متعددة الجبهات- فرض السيطرة على الأرض في قطاع غزة وجنوبي لبنان وسوريا وغيرها، وفي وقت قد تكون هناك حاجة لمثل هذه السيطرة لأن القوة الجوية غير قادرة على تحييدها؛ لأن حزب الله والفصائل الفلسطينية طورا استراتيجيات لتقليل آثار التفوق الجوي الإسرائيلي، كما ظهر في حرب غزة، حيث يبدو أن الطيران الإسرائيلي قد أخفق في تدمير مؤثر لقدرات حماس والجهاد، وصب غضبه بدلاً من ذلك على الأهداف المدنية والمواطنين الغزاويين العزل.
هل تخرج الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل عن السيطرة؟
تعامل إسرائيل بحذر مع هجمات حزب الله منذ عملية طوفان الأقصى، ليس ناتجاً عن ضبطها للنفس جراء الضغوط الأمريكية فقط، بل الأكثر هو قلقها من خوض حرب على جبهتين أو أكثر خاصة الحرب البرية، إذ لا يوجد لدى إسرائيل مشكلة في قصف عدة دول عربية، ولكن التوغل البري في لبنان بجانب الضفة وغزة، مسألة أخرى، خاصة إذا شمل الصراع سوريا.
بعد مرور نحو 45 يوماً من القتال، الذي تركز في قطاع غزة وبدرجة أقل في لبنان، تقول صحيفة Haaretz: "تزايد خطر سوء التقدير على الجبهة الشمالية بدرجة كبيرة. والخوف هو أنَّ إسرائيل لا تسيطر فعلياً على وتيرة التصعيد ولا شدته".
ويفهم حزب الله أنَّ له الحرية في إطلاق ليس فقط قذائف الهاون، بل أيضاً مجموعة واسعة من الأسلحة: الطائرات الهجومية بدون طيار، وصواريخ الكاتيوشا، والصواريخ المضادة للدبابات. وقد بدأ هذا يؤثر سلباً في الجيش الإسرائيلي، في حين أنَّ خط الجبهة يتحرك تدريجياً نحو الجنوب.
ورغم أن الحزب لم يوسع جبهة القتال لتشمل مناطق في قلب العمق الإسرائيلي، ولكنه يصعد من كثافة النيران، كما ظهر في قصفه إسرائيل يوم الإثنين الماضي بصواريخ "بركان" وطائرات انقضاضية، في حين كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن إصابة قاعدة عسكرية بأضرار جسيمة، نتيجة إطلاق نار من الجانب اللبناني.
وقال حزب الله إنه استهدف مركز قيادة الفرقة 91 لجيش الاحتلال في ثكنة برانيت الإسرائيلية بـ4 صواريخ بركان من العيار الثقيل على دفعتين، كما استهدف ثكنة زبدين الإسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وحقق فيهما إصابات مباشرة.
وفي سياق متصل، قالت قناة المنار التابعة لحزب الله إن طائرات مسيّرة "انقضاضية" انطلقت من جنوب لبنان تجاه مواقع الاحتلال شمال فلسطين المحتلة.
وأضافت أن رادارات جيش الاحتلال لم تكتشف الطائرات الانقضاضية التي أطلقها حزب الله؛ وأنها أصابت أهدافها بنجاح.
من جهتها، تحدثت القناة الـ12 العبرية عن اعتراض جيش الاحتلال من 2 إلى 3 طائرات مسيّرة متفجرة (مفخخة) خلال يوم الإثنين، مشيرة إلى أن الجيش الإسرائيلي رصد 25 قذيفة صاروخية أطلقت من لبنان باتجاه عدة مناطق حدودية.
وفي وقت سابق يوم الإثنين، أعلن حزب الله أن عملياته العسكرية على الحدود اللبنانية الجنوبية، أسفرت عن 1523 جريحاً إسرائيلياً منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولم يذكر الحزب كيف تمكن من تحديد هذا الرقم، في حين لم تعلق إسرائيل عليه حتى الساعة.
بدورها وسعت إسرائيل بنك الأهداف، إذ استهدفت أمس الإثنين منزل النائب اللبناني قبلان قبلان جنوبي لبنان، وهو عضو حركة أمل الشيعية التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري، والمتحالفة من حزب الله، وذلك حسبما ذكرت وكالة الأنباء اللبنانية.
وألقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، يوم السبت 11 نوفمبر/تشرين الثاني، ثاني خطاب له منذ بدء الحرب. ووجه تهديدات ضد إسرائيل، لكنه لم يظهر أية استعداد للدخول في حرب شاملة، حسب Haaretz.
ورد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بتهديد صريح لحزب الله وسكان لبنان، وحذر من أنه إذا واصل نصر الله هجماته، فإنَّ سكان بيروت قد يجدون أنفسهم في نفس الوضع الذي يواجهه سكان غزة، الذين يتحركون في قوافل تحمل الأعلام البيضاء؛ في محاولة للهرب من القصف الإسرائيلي.
وقبل فترة، ضربت إسرائيل على عمق 40 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية. وكان الهدف هو قاذفة صواريخ أرض جو إيرانية من طراز SA-67، التي يحاول حزب الله استخدامها لإسقاط الطائرات الإسرائيلية بدون طيار.
ويستغل الجيش الإسرائيلي التصعيد لإزالة ما يسميه "المضايقات المستقبلية" – بما في ذلك المواقع التابعة لقوة كتائب الرضوان التابعة لحزب الله والأسلحة المضادة للطائرات والدبابات المضادة لحزب الله.
وأُصِيب ما لا يقل عن 18 مدنياً وجندياً إسرائيلياً بنيران حزب الله يوم الأحد 12 نوفمبر/تشرين الثاني. وفي إحدى الحوادث، أدى صاروخ مضاد للدبابات إلى إصابة موظفي شركة الكهرباء الإسرائيلية بجروح خطيرة عندما جاءوا لاستعادة إمدادات الكهرباء بالقرب من مستوطنة موشاف دوفيف في شمال الجليل. وفي وقت لاحق، أصيب عدد من الجنود بجروح طفيفة بالقرب من المنارة. وأطلقت صواريخ على عكا وحيفا، دون الإبلاغ عن وقوع إصابات.
وطوال اليوم، هاجم الجيش الإسرائيلي عدة مجموعات تطلق النار على إسرائيل، لكن يمكننا أن نفترض أنَّ الرد الإسرائيلي لن يتوقف عند هذا الحد. فقد زعمت التقارير الواردة من لبنان ليلة الأحد، 12 نوفمبر/تشرين الثاني، أنَّ الجيش الإسرائيلي وزع منشورات في جنوب البلاد تدعو السكان إلى التحرك شمالاً. وهذه أيضاً إشارة إلى أنَّ هناك تصعيداً آخر ينتظرنا.
وتراقب الولايات المتحدة، التي عززت وجودها العسكري في البحر المتوسط والخليج العربي، هذا التبادل العنيف للرسائل. ويمكن الافتراض أنَّ إسرائيل ستحاول قدر الإمكان تنسيق تحركاتها مع إدارة بايدن.
وحتى لو لم يرد الجيش الإسرائيلي على حزب الله بكامل قوته في الوقت الحالي، فلقد أجلت إسرائيل بالفعل عشرات الآلاف من مواطنيها من المستوطنات القريبة من الحدود الشمالية. وسيتعين على حكومة الاحتلال إيجاد طريقة لإعادتهم بعد الحرب.
وتقول الصحيفة الإسرائيلية في سيناريو متفائل، سيكون هذا ممكناً من دون حرب، من خلال ترتيب دبلوماسي مدعوم من الأمريكيين، الذي سيتطلب من حزب الله الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 1701. وعلى الرغم من وصول المفاوضين الأمريكيين، لكن من الصعب في ظل الوضع الحالي تحقيق مثل هذا الترتيب.
خطوة الاحتلال التالية هي جعل الجيش الإسرائيلي أكبر
وفي مؤتمره الصحفي مساء السبت 11 نوفمبر/تشرين الثاني، قال نتنياهو إنَّ أحد الدروس المستفادة من الحرب هو أنَّ ميزانية الدفاع ستكون بحاجة إلى زيادة، وسيتعين توسيع الجيش الإسرائيلي أيضاً.
ويعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علانيةً عن الأفكار الأولية التي طُرِحَت في الحوار الدائر على المستوى السياسي وهيئة الأركان المشتركة بعد اندلاع الحرب.
وتعتمد هذه الخطط جزئياً على توقع المساعدة الأمريكية. وقد أعلنت إدارة بايدن بالفعل عن نيتها تقديم مساعدات عسكرية خاصة لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار، بسبب الحرب.
وعلى المدى الأطول، ستفكر الولايات المتحدة أيضاً في زيادة المساعدات العسكرية السنوية، التي تبلغ حالياً 3.8 مليار دولار، حسب صحيفة Haaretz الإسرائيلية
حدث هذا بعد حرب أكتوبر والنتيجة هي عقد اقتصادي ضائع
قبل نحو 50 عاماً، في أعقاب صدمة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وسّعت إسرائيل القوات البرية بنطاق كبير، وأنشأت العديد من ألوية وفرق المشاة والمدرعات. وزادت الميزانية الأمنية زيادة كبيرة، وعانى الاقتصاد الإسرائيلي من "عقد ضائع"، حسب صحيفة Haaretz.
وفي المقابل، على مدى العقدين الماضيين، كانت هناك عملية عكسية: فقد حلّت إسرائيل العديد من الوحدات، وسحبت الدبابات من الخدمة، وقلّص الجيش الإسرائيلي الاحتياطي؛ مما أدى إلى تسريح عشرات الآلاف من الجنود. وحذّر البعض ضد ذلك، وخاصة من تقليص عدد الدبابات، مثل اللواء (المتقاعد) إيال زمير، المدير العام لوزارة الدفاع حالياً.
لكن ينعكس هذا الاتجاه مرة أخرى. إذ هناك رأي مفاده بأنَّ جيش الاحتلال صغير جداً بالنسبة للاحتياجات التي يجب أن يلبيها، لذا يجب توسيع الوحدات وإنتاج المزيد من الدبابات. وفي وقت لاحق، ستكون هناك دبابات ميركافا أكثر تقدماً، ومُجهَزة بقدرات كبيرة ، لكن حتى الآن، يمكن إعادة تشغيل دبابات ميركافا "مارك 2″ و"مارك 3″ التي خرجت من الخدمة، والتي كافحت إسرائيل لبيعها إلى ما تصفه الصحيفة بـ"الدول الصديقة".
ولكن الثمن الذي قد تدفعه إسرائيل لتوسيع جيشها سيكون على الأغلب من اقتصادها الذي ازدهر خلال السنوات الماضية.