منذ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تعمل إيران على توظيف عملية طوفان الأقصى للتأكيد على عدم فاعلية الجهود الأمريكية لإنشاء نظام أمني إقليمي يهدف لإرساء ميزان قوى جديد في المنطقة، على أساس التصدي للتهديدات الإيرانية. كما تعمل طهران على توظيف تطورات الأحداث السياسية والأمنية كتداعيات حرب غزة بصورة استراتيجية لتعزيز موقعها كفاعل إقليمي لا يمكن لدول الجوار والقوى الدولية تجاوزه.
ومنذ ذلك الوقت انخرطت طهران في دوامة الأزمة لتعزيز مكاسبها ولتلافي التداعيات السلبية المحتملة للحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، والتي ترفع شعار "استئصال حماس"، بالتزامن مع وصول تعزيزات عسكرية أمريكية للمنطقة وصدور تهديدات أمريكية، سرية ومعلنة، بأنها ستتدخل عسكرياً لردع أي طرف يمكن أن يتدخل في القتال.
كما حرصت طهران على تأكيد رسالة مرشد الثورة علي خامنئي بأن "الحكومات التي تتجه إلى التطبيع مع الاحتلال تراهن على حصان خاسر"، بعد أن حطمت عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن الإسرائيلية، وأظهرت هشاشة جيش الاحتلال، وإخفاقه في ضمان أمن "إسرائيل"، فضلاً عن أن توفره للآخرين. كما أبرزت قدرات أحد مكونات "محور المقاومة" على قلب المشهد الإقليمي رأساً على عقب.
كيف تتعامل إيران مع هذه المعركة من خلال أدوات نفوذها بالمنطقة؟
يقول موقع أسباب المتخصص بالتحليلات السياسية والاستراتيجية، إنه منذ السابع من أكتوبر تتمسك طهران بخيار التصعيد المتدرج والمنضبط، عبر توزيع الأدوار على جماعات تابعة وحليفة لها في جبهات متعددة تشمل لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. وتظل حريصة على تجنب خوض حرب شاملة مع الولايات المتحدة قد تقوض النظام الإيراني، أو قد ينتج عنها تدمير قدرات حزب الله بصورة استراتيجية.
ويوفر هذا النهج الإيراني دعماً سياسياً للمقاومة الفلسطينية ويضع ضغوطاً على الولايات المتحدة، لكنه يضع شكوكاً كبيرة على جدية مبدأ "وحدة الساحات"؛ حيث بات واضحاً أن إيران تستهدف به أولاً حماية أراضيها ضد تهديد أعدائها، بهدف ردعهم عن استهداف الأراضي الإيرانية بعمل عسكري، خاصة البنية التحتية النووية؛ لأن الرد الإيراني في هذه الحالة سيشمل عدة جبهات في الإقليم.
تقويض ترتيبات إقليمية منافسة لإيران
يقول موقع أسباب إن تداعيات حرب غزة ستعزز منطق طهران الذي يشدد على عدم إمكانية تشكيل هيكل أمني جديد في الشرق الأوسط لا يأخذ في الاعتبار مصالحها وشركاءها. حيث تعمل طهران على تأكيد عدم فاعلية الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإنشاء نظام أمني إقليمي يهدف لإرساء ميزان قوى جديد في المنطقة، على أساس التصدي للتهديدات الإيرانية، تقع "إسرائيل" في قلبه، بينما يجري إدماجها بخطى أمريكية حثيثة مع دول اتفاقيات أبراهام، بالإضافة إلى مصر، والأردن، بينما كانت المفاوضات مع السعودية متقدمة. فإذا كان هذا هو الأداء الإسرائيلي في مواجهة حماس بمفردها، فكيف سيكون الأداء في حال اندلاع حرب إقليمية؟
وفي هذا السياق، من المرجح أن تسهم الحرب الحالية في تقويض خطط إنشاء ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الاقتصادي، الذي سبق أن أعلن الرئيس الأمريكي بايدن أنه سيمتد من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وميناء حيفا في "إسرائيل"، وهو ما يهدد ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يمتد من موانئ البلطيق الروسية إلى جنوب إيران.
وبصورة عامة بدا المشروع متعارضاً مع مصالح إيران وتركيا ومصر والصين حيث يتجاوزهم بشكل كامل. والآن، تبدو إيران أكثر ارتياحاً؛ حيث أظهرت حرب غزة أن التحديات الأمنية التي ستواجه هذا المشروع لا يستهان بها، بما قد يدفع لتأجيله، أو ربما إعادة الأطراف المعنية النظر في جدواه.
بالإضافة لذلك؛ توظف إيران الحدث لتعزيز موقعها كفاعل إقليمي لا يمكن لدول الجوار والقوى الدولية تجاوزه. وقد ظهر هذا في أن أول لقاء بين الرئيس الإيراني وكل من ولي العهد السعودي والرئيس المصري جاء في ضوء تداعيات حرب غزة، بما يشير إلى أن حاجة الزعيمين لاحتواء الحرب حتمت التعاطي أكثر مع إيران كون أن قرارها يتحكم في سلوك عدة جبهات إقليمية تؤثر على أمن البلدين.
لكن ما حدود فاعلية "محور المقاومة"؟
في ظل تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة، ورفض تل أبيب واشنطن وقف إطلاق النار، وتبنيهما لخيار القضاء على حكم حماس لقطاع غزة، اعتمدت طهران خيار التصعيد المتدرج والمنضبط، عبر توزيع الأدوار على جماعات تابعة وحليفة لها في جبهات متعددة تشمل لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
حيث يشن حزب الله هجمات يومية على المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة الحدودية مع لبنان، بينما يطلق الحوثيون صواريخ كروز وطائرات مُسيّرة باتجاه إيلات، كما تنطلق هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة تستهدف التواجد الأمريكي في العراق وسوريا.
تهدف تلك الهجمات إلى تشتيت الموارد والقدرات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، وتخفيف الضغط عن غزة، وإبراز التضامن معها. فيما تهدف الهجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، والتي بلغت نحو 45 هجوماً حتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، فضلاً عن إسقاط طائرة مسيرة أمريكية أمام سواحل اليمن، إلى الضغط على واشنطن لوقف العدوان على غزة، وذلك عبر التأكيد على إمكانية توسع الصراع بما يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
يوفر هذا الخيار الإيراني دعماً سياسياً للمقاومة الفلسطينية ويضع ضغوطاً على الولايات المتحدة، لكنه يضع شكوكاً كبيرة على جدية مبدأ "وحدة الساحات" الذي روّجت له إيران خلال السنوات الماضية، ويجدد النقاش داخل حركة حماس حول حدود المتوقع من إيران، وضرورة إعادة التوازن للعلاقة معها.
بات واضحاً أن الاستثمار الإيراني في حزب الله والمجموعات الأخرى يستهدف أن تشكّل هذه المجموعات درعاً متقدمة لإيران ضد خصومها وليس العكس. أي إن "وحدة الساحات" هو مبدأ تستهدف به إيران أولا ردع أعدائها، خاصة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، عن استهداف الأراضي الإيرانية بعمل عسكري، خاصة البنية التحتية النووية، لأن الرد الإيراني في هذه الحالة سيشمل عدة جبهات في الإقليم. ولا يشمل ذلك بالضرورة، وبصورة متكافئة، حماية إيران لحلفائها.
حدود القوة الإيرانية.. تجنب الحرب الشاملة
بينما تتبنى طهران حالياً خيار التصعيد المتدرج بواسطة حلفائها ووكلائها، فإنها حريصة على تجنب خوض حرب شاملة مع الولايات المتحدة قد تقوض النظام الإيراني نفسه، أو قد ينتج عنها تدمير قدرات حزب الله بصورة استراتيجية، ما يعني خسارة الاستثمار الإيراني فيه كأداة ردع ضد أي خطط محتملة لاستهداف إيران نفسها.
تعلمت طهران منذ حربها مع العراق "1980-1988" أن الحرب النظامية مكلفة بشرياً ومادياً، ولذا اعتمدت سياسة "الدفاع المتقدم" عبر تأسيس جماعات في دول الجوار لخوض الصراعات والحروب بعيدا عن الداخل الإيراني. ولذا؛ اعترض المرشد علي خامنئي على قرار شن حرب على أفغانستان عقب مقتل 10 من دبلوماسيين إيرانيين على يد طالبان في مدينة مزار الشريف عام 1998. كما اكتفت برد رمزي على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني عام 2020.
ستسعى طهران لكسب نقاط من الصراع الحالي دون إثارة حرب أوسع نطاقاً، فهي تدرك جدية التهديدات الأمريكية المصحوبة بحشد عسكري يتضمن مجموعتين من حاملات الطائرات، وهو أمر غير مسبوق منذ غزو العراق عام 2003. وفي نفس الوقت، ستحرص طهران على البقاء ضمن المعادلة من خلال مواصلة أذرعها استهداف "إسرائيل"، ومواصلة الضغوط السياسية على الإدارة الأمريكية.
اتساع رقعة الحرب يظل وارداً
رغم أن واشنطن لا تريد حرباً مع إيران في ظل خشيتها من التورط في نزاع بالمنطقة يشغلها عن ملف الصين، إلا أنه توجد أصوات عسكرية تتزايد داخل "إسرائيل" تدعو لتوجيه ضربة قاصمة لحزب الله؛ باعتبار أن الفرصة الراهنة قد لا تتكرر، في ظل زخم الغضب من هجوم 7 أكتوبر، ووجود حاملتي طائرات أمريكيتين، والدعم الغربي، والحشد الحالي لأكثر من 500 ألف جندي نظامي واحتياطي إسرائيلي.
بالتالي فإن إيران تواجه تهديدات جدية، تتمثل في الآتي:
أولاً: إن التصعيد المتدرج من طرف طهران لا يكفي لمنع الاحتلال من تكثيف عدوانه للقضاء على حماس في غزة، وبالتالي يفقد "محور المقاومة" أحد أبرز أعضائه، ويقضي على سردية "وحدة الساحات"، وسيعطي ذلك مثالاً لتخلي طهران عن حلفائها وقت الشدة.
ثانياً: تظل احتمالات اندلاع حرب تستهدف حزب الله واردة، بما يهدد بانفراط عقد "محور المقاومة" الذي استثمرت فيه إيران لعقود، ويضعف بالتالي من موقفها الجيوسياسي في المنطقة.
ثالثاً: إن ترك الاحتلال لتنفيذ أجندته السياسية والأمنية بخصوص مستقبل غزة قد يعطي دفعة مجدداً لخطط أمريكا لتعزيز التحالفات الأمنية والاقتصادية بين الاحتلال وجيرانه العرب، هذه المرة بحضور أمريكي متزايد، وهو أمر مضاد للمصالح الإيرانية الاستراتيجية دون شك.
لذلك؛ فإن إيران قد تلجأ لخيار الحرب الإقليمية عبر وكلائها، رغم تحدياته، في حال اقترب الاحتلال من القضاء على المقاومة في غزة أو في حال تأكدت خطط تنفيذ عدوان على لبنان. فالنفوذ الإيراني يواجه منعطفاً جوهرياً، فإما أن يثبت صلابته ويعزز من مكتسباته من معركة طوفان الأقصى، وإما أن يتلقى خسائر استراتيجية عبر تدمير "إسرائيل" بدعم أمريكي لقدرات حماس والجهاد الإسلامي، وحزب الله من بعدهما. وهو ما قد يفتح الباب لتل أبيب لاحقاً لاستهداف المشروع النووي الإيراني نفسه.