وشهد شاهد من أهلها.. كيف فشلت إسرائيل في “حبك” رواية استهداف مستشفيات غزة؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/11/20 الساعة 10:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/20 الساعة 10:37 بتوقيت غرينتش
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يشير إلى االأسلحة التي زعمت تل أبيب أنها وجدتها في مشتشفى الشفاء بعد اقتحامه/ رويترز

سعت إسرائيل منذ البداية إلى التمهيد لعدوانها على غزة من خلال رواية هدفها اتهام المقاومة الفلسطينية بارتكاب "مجازر" واستخدام المدنيين في القطاع دروعاً بشرية ومستشفياته مقراً لها، فكيف فشلت في حبك روايتها بشهادة حلفائها أنفسهم؟

كانت إسرائيل قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، وحشدت جيشها لاجتياح القطاع برياً، مروجة لرواية تخص استخدام حماس المستشفيات مقرات عسكرية واستخدام المدنيين دروعاً بشرية.

و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.

ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.

الإعلام الأمريكي "غير مقنع" برواية إسرائيل

منذ اليوم الأول لما تشهده فلسطين حتى اليوم، بدأت إسرائيل في الترويج لروايتها بشأن ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتلقف الإعلام الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً كل ما صدر عن القيادات السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال ليبثه دون تدقيق أو تمحيص أو حتى نقل الرواية الفلسطينية بشأنه، كما يفترض بديهياً في أي عمل صحفي.

وانتشرت روايات قتل المقاومين الفلسطينيين للأطفال وقطع رؤوسهم واغتصاب النساء وحرق المدنيين أحياء حتى تفحمت جثثهم، دون أي دليل واحد يدعم مصداقية أي من تلك المزاعم، على الرغم من وجود عشرات المقاطع المصورة والشهادات من مستوطنين ومستوطنات في غلاف غزة تدحض تماماً تلك المزاعم.

ثم جاء التمهيد الإسرائيلي للعدوان المستمر على قطاع غزة منذ 45 يوماً، والذي يستهدف من خلاله أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في القطاع محدود المساحة، جواً وبراً وبحراً، في انتهاك صارخ لجميع القوانين الإنسانية والدولية القاضية بحتمية عدم استهداف المدنيين بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة من الذرائع واعتبار عدم الالتزام "جرائم حرب" تستدعي عقاب مرتكبيها.

استندت الرواية الإسرائيلية إلى محورين رئيسيين: الأول هو أن حماس تستخدم المدنيين دروعاً بشرية، والثاني هو أنها تستخدم المستشفيات، وبخاصة مجمع الشفاء الطبي (الأكبر في القطاع)، مقرات للقيادة والسيطرة وتخزين السلاح والاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين.

غزة
إسرائيل دمرت غزة بغارات غير مسبوقة/رويترز

وخلال حملة القصف الجوي المكثف على القطاع قبل أن تبدأ إسرائيل اجتياحها البري، كانت الرواية الإسرائيلية تركز على عدم استهداف المدنيين والحرص على توفير "ممرات آمنة" لهم كي يخرجوا من شمال غزة ويتجهوا إلى الجنوب. شارك في تلك الرواية جميع المسؤولين، من الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى قادة جيش الاحتلال والمتحدثين باسمه وعرضوا صوراً للمنشورات التي تحمل تلك التعليمات دليلاً على صدق روايتهم.

والسؤال هنا: كيف تعامل الإعلام الأمريكي المنحاز منذ البداية لإسرائيل مع رواية "عدم استهداف المدنيين"؟ شبكة CNN الأمريكية، من خلال تحقيق استقصائي قامت به، نشرت تقريراً عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء، ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.

"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل، شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية، على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.

رواية "مستشفى الشفاء" في غزة

على مدى أسابيع ركزت إسرائيل في روايتها على مستشفى الشفاء وكيف أنه "المقر الرئيسي لقيادة حماس" في القطاع، وبعد أن تمكنت قوات الاحتلال من التوغل داخل شمال قطاع غزة، وصولاً إلى مجمع الشفاء الطبي ومخيم الشاطئ، واقتحمت الدبابات مجمع الشفاء مساء الثلاثاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني، وعزلته تماماً عن العالم، استعداداً للكشف عن "الأدلة الدامغة" على روايتها، فماذا حدث؟

تحولت "عروض" المتحدث باسم جيش الاحتلال وما عرضه من "أدلة" من داخل مجمع الشفاء مادة للسخرية حول العالم وبكل اللغات، رغم تحوَّل المستشفى منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي إلى نقطة "البروباغندا" الرئيسية، حيث زعمت إسرائيل أن حماس تتخذ من المجمع مقراً رئيسياً للقيادة والتحكم، وأن حركة المقاومة الفلسطينية تحتجز الأسرى في أنفاق أسفل الشفاء.

ونشرت CNN تقريراً عما عرضته إسرائيل من داخل مجمع الشفاء قالت فيه الشبكة الأمريكية إنها "غير قادرة على تأكيد الرواية الإسرائيلية"، وهي عبارة مخففة يستخدمها المراسل أو الصحفي عندما يكون "متأكداً" من أن ما يعرض عليه من أدلة مفترضة تبدو مفبركة بشكل واضح لكنه لا يستطيع صياغة الأمر على حقيقته لاعتبارات كثيرة.

وكشف هذا التقرير عن أن "تحقيقاً استقصائياً أجرته الشبكة الأمريكية أوضح أن بعضاً من الأسلحة التي عرضت على أنه تم العثور عليها في مجمع الشفاء تم التلاعب بمكان العثور عليها"!

مستشفى الشفاء
الأطفال الخدج في مستشفى الشفاء/ رويترز

وبعد أيام من الفشل في "حبك الرواية"، شحنت إسرائيل عدداً من المراسلين الغربيين في عربات مدرعة تحت جنح الظلام إلى غزة حتى مجمع الشفاء كي "تعرض عليهم الأدلة الدامغة" على صدق روايتها مرة أخرى، وكي يطلعوا بأنفسهم على تلك الأدلة المزعومة.

ومرة أخرى نشرت CNN تقريراً عن تلك الزيارة خلص إلى أنها تمت تحت شروط صارمة فرضها الجيش الإسرائيلي تشمل الحصول على "تصريح" بما يمكن نشره وما لا يمكن نشره، ولم يطلع المراسلون على أي جديد يمكن أن يثبت ما تقوله إسرائيل بالدليل العملي بشأن وجود مقرات لحماس أسفل المستشفى.

فالنفق الذي نشرت إسرائيل صوراً له وعرضت مدخله على المراسلين الأجانب لم يسمح لهؤلاء المراسلين بالنزول إليه أو التجول في أجزاء منه، كما تم إخبارهم من جانب جيش الاحتلال بأنه سيتم تدميره. كانت تقارير غربية أيضاً قد كشفت عن أن هذا النفق تم تشييده قبل عقود من جانب الإسرائيليين أنفسهم أثناء احتلالهم للقطاع.

رواية استهداف المقاومة لحفل موسيقي

هذا الفشل الإسرائيلي في حبك رواية المستشفيات، وبخاصة الشفاء، بشهادة الإعلام الأمريكي والغربي المنحاز لها للاحتلال أصلاً، تزامن مع شهادة أقرب من الإعلام الغربي وتتعلق أيضاً بالروايات الإسرائيلية.

الشهادة هذه المرة تخص أحداث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول نفسها، وجاءت من خلال تحقيق للشرطة الإسرائيلية أثبت أن مئات المستوطنين الإسرائيليين قتلوا برصاص وقذائف الإسرائيليين أنفسهم وليس على أيدي المقاومين الفلسطينيين.

وتركز التحقيق على حفل موسيقي في مستوطنة ريعيم بغلاف غزة كان يشارك فيه أعداد كبيرة من الإسرائيليين وتم استهدافه بنيران متنوعة أطلقتها طائرتا هليكوبتر (أباتشي) إسرائيليتان وصلتا إلى غلاف غزة في الدقائق الأولى لبداية عملية طوفان الأقصى، وخلص التحقيق الإسرائيلي إلى أن مقاتلي حماس لم يكونوا على علم بالحفل الموسيقي من الأساس كي يستهدفوه.

أما قصة طائرتي الأباتشي واستهدافهما الحفل وسيارات مستوطنين أيضاً في غلاف غزة فقد جاءت في أكثر من تسريب إسرائيلي بشأن حقيقة ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ونتج عنها تخفيض أعداد القتلى الإسرائيليين في ذلك اليوم من 1400 إلى 1200، بحسب التقارير الرسمية الصادرة عن حكومة نتنياهو، وبرر مستشاره ذلك التخفيض بوجود "جثث متفحمة اتضح أنها ليست لإسرائيليين" بل لمقاتلين فلسطينيين.

غزة
جنود في جيش الاحتلال – رويترز

وفي هذا الإطار، تهدم مسألة الجثث المتفحمة ركناً آخر من أركان الرواية الإسرائيلية بشأن استهداف حماس إيقاع أكبر عدد ممكن من المدنيين الإسرائيليين وحرق جثثهم، فالجثث المتفحمة نتجت عن صواريخ إسرائيلية، والحفل الموسيقي الذي كان أحد "أيقونات" الرواية للتدليل على مدى "وحشية المقاومة" اتضح أنه لم يكن هدفاً أصلاً للمقاومين الذين لم يكونوا على علم به.

ربما لا يكون الكذب والتضليل ورسم الروايات أمراً جديداً على إسرائيل وقيادتها، لكن الجديد هذه المرة هو الفشل في "حبك" الرواية وسرعة انهيارها وافتضاح كذبها أمام الرأي العام العالمي، وبخاصة الرأي العام الغربي والأمريكي، إذ ليس من المعتاد أن يشكك مراسل لشبكة غربية أو أمريكية يغطي العدوان من داخل دبابة أو طائرة إسرائيلية في الرواية الإسرائيلية التي يبدو دوره الوحيد هو تأكيدها.

ويدلل هذا السقوط السريع لأركان الرواية الإسرائيلية هذه المرة على ركاكتها وسرعة طبخها من ناحية، ومن ناحية أخرى يكشف مدى عمق الانكسار وفداحة الهزيمة التي مُنيت بها إسرائيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه حتى اليوم، رغم اجتياح شمال القطاع برياً والاستهداف المتعمد للمدنيين والأطفال ليرتقي أكثر من 13 ألف شهيد خلال 6 أسابيع، فإسرائيل "تنتقم" دون وعي من شعب أعزل لعجزها عن مواجهة المقاومة التي أذلت جيش الاحتلال.

تحميل المزيد