تحت ستار القصف العنيف والمطاردات ونقص الغذاء، أنشأ غسان جنيناتي البالغ من العمر 19 عاماً، هو وأصدقاؤه مخبزهم الخاص لإتاحة مساحة للناس لإعداد الطعام مما تبقى لديهم من موارد، حدث هذا خلال حصار بيروت قبل نصف قرن وها هو يتكرر في غزة
فقد أدى الحصار الذي فرضته إسرائيل على بيروت في عام 1982 إلى قطع الغذاء والماء والكهرباء والمواصلات عن النصف الغربي من العاصمة اللبنانية؛ وهو الوضع الذي يتشابه إلى حد ما، مع ما يحدث حالياً في غزة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
لكن جنيناتي، مستذكراً تجربته، يعتقد أنَّ الوضع في غزة مروع جداً بحيث لا يشبه تماماً ما حدث في بيروت.
ومع ذلك، يعتقد الخبراء أنَّ الظروف التي أدت إلى الوضع في كلتا المدينتين تجعل من المفيد النظر إلى بيروت للحصول على نظرة ثاقبة محتملة عن مستقبل غزة.
كيف بدأ حصار بيروت من قبل جيش الاحتلال؟
في الثمانينيات، عندما كان لبنان في منتصف حربه الأهلية التي استمرت 15 عاماً، غزت إسرائيل البلاد، بمساعدة الميليشيات اللبنانية اليمينية المتحالفة معها، ووصلت حتى العاصمة اللبنانية وحاصرت النصف الغربي منها.
وخارج فلسطين، كانت بيروت العاصمة العربية الأولى والوحيدة التي احتلتها إسرائيل وحاصرتها بعد القدس عاصمة فلسطين.
منظمة التحرير في ذلك الوقت كانت تقوم بدور مماثل لـ"حماس"
وفقاً للإسرائيليين، كان الهدف الأولي من حصار بيروت هو القضاء على الجماعات الفلسطينية المسلحة التي تعمل ضد إسرائيل من لبنان، وعلى وجه التحديد منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تقود المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت مثلما تفعل حركة حماس الآن.
وقال الباحث في التاريخ وسيم مروة: "لقد حددت إسرائيل أهدافاً معينة لهذه العملية؛ وهو القضاء على حماس. وهذا يذكرنا بالأهداف التي حددتها إسرائيل عام 1982 وهي القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وطردها من بيروت".
وقد حدد المسؤولون الإسرائيليون، في عدة مناسبات، أهدافاً مختلفة لحربهم المستمرة في غزة، بدءاً من التفكيك الكامل لحركة حماس إلى إجلاء قادتها إلى بلدان أخرى.
المنظمة كانت تضم فلسطينيين في لبنان ولكن أعضاء حماس هم فلسطينيون في فلسطين
وفي حين استسلمت منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية المطاف وغادرت بيروت، فإنَّ السياق في غزة قد لا يوفر بالضرورة نتيجة مماثلة، حسب الموقع البريطاني.
وأضاف مروة: "منظمة التحرير الفلسطينية كانت فلسطينيين في لبنان. لكن في غزة، هؤلاء هم الفلسطينيون في فلسطين".
وفي حين يمكن لإسرائيل أن تحاول محاصرة غزة من أجل إرغام حماس على الاستسلام، فإنَّ الأحداث التي تلي ذلك قد تكون مختلفة عمّا حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وتساءل مروة: "ماذا يعني استسلام حماس؟ قد يستمرون في الحصول على الدعم".
ضغطوا من أجل رحيل منظمة التحرير عن لبنان
وبحسب مروة، كان الحصار الإسرائيلي والقصف المستمر بمثابة تكتيك ضغط لإجبار سكان بيروت على المطالبة برحيل منظمة التحرير الفلسطينية.
وبينما كانت المركبات المدرعة الإسرائيلية تجري دوريات في الطرق المحيطة بالمدينة، شوهد الأطفال يصطفون للحصول على المياه بينما امتلأت شوارع بيروت بأكوام من القمامة المحترقة. وينتظر البالغون بفارغ الصبر الحصول على الحصص الغذائية من الصليب الأحمر، بينما يملأ الدخان المنبعث من المباني المدمرة السماء.
وبرغم أنَّ المدنيين، وكذلك القادة السياسيين وشبه العسكريين اللبنانيين منقسمون في البداية حول طرد المقاتلين الفلسطينيين، قال مروة إنَّ الحصار والقصف المستمران لأسابيع جعل كثيرين يشعرون بأنَّ خياراتهم نادرة.
وأضاف: "لم تكن هناك مؤشرات على إمكانية تغيير ميزان القوى لصالح منظمة التحرير الفلسطينية".
وتابع: "لم يتدخل الاتحاد السوفييتي، وكان لسوريا اشتباك محدود مع الجيش الإسرائيلي، لكنها وقّعت بعد ذلك على وقف إطلاق النار، ولم تفعل الدول العربية أي شيء عملي لوقف هذا الغزو".
وأوضح مروة: "لذا، بالنسبة للعديد من سكان بيروت، لم يكن هناك حل آخر سوى رحيل منظمة التحرير الفلسطينية".
ووافقت منظمة التحرير الفلسطينية في النهاية على مغادرة المدينة في أغسطس/آب من العام نفسه، على أن تشرف قوة متعددة الجنسيات على إجلاء معظم مقاتلي المنظمة. وبعد ذلك رفعت إسرائيل حصارها الذي استمر نحو ثلاثة أشهر.
الإسرائيليون حاولوا تنصيب نظام عميل في بيروت
وعلى النقيض من الوضع الحالي في غزة، ظلت القوات الإسرائيلية، بسبب اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة، على مشارف بيروت طوال فترة الحصار.
وبعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية، كانت إسرائيل تأمل تحقيق هدفها الثاني؛ وهو تنصيب حكومة صديقة في لبنان وجعلها توقع اتفاق سلام، وبالفعل نصبت إسرائيل زعيم الميليشيات اللبنانية المسيحية المتحالفة معها بشير الجميل رئيساً للبلاد.
وتوقفت هذه الخطة عقب اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب الموالي لإسرائيل بشير الجميل، ثم قررت إسرائيل غزو بيروت بالكامل.
وجعل غياب المقاتلين الفلسطينيين، وإزالة معظم الحواجز العسكرية، من الصعب على القوى اليسارية اللبنانية العلمانية وأغلبها من المسلمين منع التقدم الإسرائيلي.
لكن اللبنانيين تحولوا للمقاومة بسرعة
لكن المقاومة الشعبية التي أعقبت الاحتلال شكّلت عقبة مختلفة أمام الإسرائيليين.
وقالت جنيناتي، من سكان بيروت: "[الإسرائيليون] دخلوا الشوارع واخترقوها، وفي الليل كان أهل بيروت يطلقون النار عليهم لإخافتهم".
وفي النهاية، هرب الشاب جنيناتي إلى الجبال، بينما كانت القوات الإسرائيلية تجمع الشباب من كل منطقة في بيروت، وكان كثير منهم من غير المقاتلين.
واسترجع كل من جنيناتي ومروة عملية ويمبي، حين أطلق رجل لبناني، يسمى خالد علوان، النار على جندي إسرائيلي وقتله في مقهى ببيروت الغربية، باعتبارها نقطة تحول في الهجمات اللبنانية على الجنود الإسرائيليين.
وزعمت وسائل الإعلام المحلية في ذلك الوقت، أنَّ علوان حفز الناس على حمل السلاح ضد محتليهم، حتى في أثناء انسحاب الأخير من المدينة.
عندما قال الإسرائيليون: "لا تطلقوا النار نحن ننسحب"
وأدى حصار بيروت والاحتلال اللاحق إلى مقتل آلاف المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين، معظمهم من المدنيين. وقد ساهمت عوامل كثيرة، من ضمنها الضغط الدولي، في انسحاب إسرائيل النهائي من بيروت الغربية بحلول نهاية سبتمبر/أيلول.
ومع ذلك، لا يزال هناك مشهد واحد محفور في أذهان سكان بيروت؛ وهو جندي إسرائيلي، في دبابة، يصرخ عبر مكبر الصوت: "يا أهل بيروت، لا تطلقوا النار على قوات الدفاع الإسرائيلية، نحن ننسحب".
وقال مروة: "حقيقة أنهم قالوا ذلك تشير إلى أنَّ السبب الرئيسي وراء مغادرتهم هو المقاومة المسلحة المتزايدة والمتصاعدة".
اللبنانيون يلوحون بأنهم قادرون على تكرار ما حدث
وفي الوقت الحالي، وإلى جانب حربها في غزة، تتعامل إسرائيل مع اشتباكات حدودية منتظمة مع الجماعة المسلحة اللبنانية على حدودها الشمالية. وأسفرت الاشتباكات عن مقتل أكثر من 60 من مقاتلي حزب الله، وما لا يقل عن 12 مدنياً لبنانياً، وعدد غير واضح من الجنود والمدنيين الإسرائيليين.
وفي الأيام القليلة الماضية، هدد عدد من المسؤولين والصحفيين الإسرائيليين بقصف بيروت إذا حاول حزب الله استفزازهم. وذهب وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى حد القول إنهم سيفعلون بالعاصمة اللبنانية الأشياء نفسها التي يفعلونها حالياً في غزة.
وقال إبراهيم منيمنة، عضو البرلمان اللبناني الذي يمثل مناطق بيروت التي كانت محتلة، إنَّ أحداث عام 1982، جعلت العديد من السكان لا يخافون من التهديدات الإسرائيلية المتكررة ضد العاصمة بيروت.
وصرح منيمنة لموقع Middle East Eye: "بطريقة ما، نتذكر أننا قادرون على مواجهة ذلك. ولا أعتقد أنَّ صدمة عام 1982 لا تزال مستمرة بالطريقة التي قد يتصورها البعض".
ووسط مخاوف مستمرة من الحرب، نقل موقع Axios عن مسؤولين في إدارة بايدن زعمهم أنَّ المسؤولين الأمريكيين يشعرون بالقلق من أنَّ إسرائيل قد تحاول استفزاز حزب الله ولبنان إلى حرب أوسع، الأمر الذي قد يجبر الأمريكيين على التدخل.
ورداً على ذلك، قال منيمنة إنَّ الوجود الإضافي للقوات العسكرية الأمريكية والغربية في المنطقة ربما شجع إسرائيل على تحقيق مثل هذا السيناريو.
وأضاف: "لا أحد يعرف إلامَ قد يؤدي الجنون الإسرائيلي".
إخفاق حصار بيروت أدى إلى ظهور أقوى حركات المقاومة العربية
وكانت إحدى نتائج الغزو الإسرائيلي ظهور حزب الله كأبرز حركات المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل.
وأدى فشل الحصار الإسرائيلي لغزة إلى انهيار المشروع الإسرائيلي لجعل لبنان كياناً تابعاً، وصعود المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله والتي كانت أكفأ من منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً وركزت جهودها على محاربة إسرائيل؛ مما أدى إلى انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، وأصبح الحزب أكبر كيان يتحدى إسرائيل قبل صعود دوري للفصائل الفلسطينية في غزة.
يؤشر كل ذلك إلى أن اجتياح غزة قد يكون بداية موجة جديدة من المقاومة الفلسطينية، وقد تتحول غزة لمستنقع للجيش الإسرائيلي، مثلما كان العراق بالنسبة للولايات المتحدة.