يواصل "الجيش سيئ السمعة"، أو جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة جواً وبراً وبحراً، فلماذا لا يبدو قادراً على ترميم أسطورته التي تحطمت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؟
كانت إسرائيل قد بدأت اجتياحها البري لقطاع غزة مساء الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول، في أعقاب حملة قصف جوي بربرية استهدفت البشر والحجر في القطاع المحاصر، وذلك منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال، الذي كان يوصف إسرائيلياً وغربياً وعربياً أيضاً بأنه "الجيش الذي لا يقهر". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت "فرقة غزة" التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
جيش إسرائيل "الذي لا يقهر"
أصيبت القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل بحالة من الصدمة والرعب، وسارع رئيس الوزراء الأكثر بقاء في المنصب في دولة الاحتلال إلى الاتصال بالرئيس الأمريكي جو بايدن باكياً وطالباً النجدة، وهو ما قامت به الولايات المتحدة على الفور، فأرسلت قيادات عسكرية من البنتاغون وحاملات طائرات وغواصة نووية لمساعدة إسرائيل على التماسك.
شارك قادة عسكريون أمريكيون بشكل مباشر في اجتماعات مع نظرائهم العسكريين، وجاء وزير الخارجية أنتوني بلينكن ثم تبعه وزير الدفاع لويد أوستن ثم تبعهما بايدن نفسه إلى إسرائيل وشاركوا جميعاً في اجتماعات "غرفة قيادة الحرب"، في مؤشر لافت على مدى الحاجة الإسرائيلية للمساعدة والإنقاذ، وهو ما يناقض تماماً الصورة التي كانت قائمة عن إسرائيل وجيشها بطبيعة الحال.
فقبل "طوفان الأقصى"، العملية العسكرية التي لم تنطلق من فراغ بل جاءت كرد فعل طبيعي على الاستفزازات المستمرة للحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، كانت إسرائيل تتباهى بأنها الدولة صاحبة "الجيش الأقوى والأكثر تقدماً" في منطقة الشرق الأوسط، وكانت كثير من دول المنطقة والعالم تسعى لعقد اتفاقيات أمنية وعسكرية مع دولة الاحتلال انطلاقاً من تلك الصورة الأسطورية.
وانطلاقاً من الإحساس بالتفوق المطلق والسيطرة الكاملة، ليس فقط على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال والحصار التام ولكن أيضاً على باقي دول المنطقة، سارعت الحكومة الإسرائيلية في خططها لاستكمال تهويد القدس الشرقية والتمادي في الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى؛ سعياً لتغيير الوضع القائم بشكل نهائي، وفي الضفة الغربية المحتلة تم إطلاق يد المستوطنين بشكل مطلق لبناء المزيد من المستوطنات وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم ومدنهم والتوسع الاستيطاني الهادف إلى ضم الضفة المحتلة بحكم الأمر الواقع.
كان لجيش الاحتلال الدور الأبرز في هذا الإحساس بالتفوق والسيطرة، وأصبحت المداهمات المتكررة لمدن ومخيمات الضفة الغربية أمراً شبه يومي، ولم يكن هناك أي اعتبار لردود الفعل من جانب الفلسطينيين أو لما يعرف بالمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ووصلت الأمور إلى تحدٍّ علني من جانب حكومة نتنياهو لإدارة بايدن، وبخاصة فيما يتعلق بالاستيطان غير المشروع.
توالت التحذيرات من أن استفزازات الحكومة الإسرائيلية ستؤدي حتماً إلى انفجار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقبل أن تكمل تلك الحكومة شهرها الأول أزعجت قراراتها وقمعها المستمر للفلسطينيين البيتَ الأبيض نفسه، ونشرت صحيفة The New York Times تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعُد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، ووضع الحكومة الاستيطان في طليعة ملفاتها.
وتسبَّب الاعتداء المتكرر على المسجد الأقصى، وسياسة التهجير والقمع في الضفة الغربية المحتلة، وإطلاق يد جنود وشرطة الاحتلال والمستوطنين في التنكيل بالفلسطينيين في اقتراب الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
لكن إسرائيل، المغترة بقوتها وبجيشها، لم تُعِر بايدن ولا بلينكن اهتماماً ورفعت راية التحدي، فخضع البيت الأبيض للأمر الواقع، واكتفى بممارسة الضغوط على السلطة الفلسطينية؛ حتى لا تصعد الأمور في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وهو ما كان، لتصل الأمور إلى حد تفاخر مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، بنجاح إدارة بايدن في "الحفاظ على الهدوء" في الشرق الأوسط، وفي فلسطين بالأساس، وكان ذلك منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل طوفان الأقصى بنحو 3 أسابيع فقط.
هزيمة عسكرية حطمت الأسطورة
لكن هذه القوة والاستعلاء والإحساس بالتفوق المطلق من جانب إسرائيل وجيشها تعرض لزلزال مدوٍّ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ليحل محل كل ذلك الرعب والضعف والهشاشة ويتعرض جيش الاحتلال وحكومة إسرائيل لانتقادات لاذعة من جانب الإسرائيليين أنفسهم، بعد أن تحطم السور الحديدي وهزيمة فرقة غزة المكونة من أكثر من 10 الاف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة وتقنيات المراقبة والاستطلاع الأحدث على الإطلاق أمام نحو 1200 مقاوم فلسطيني مسلحين بأسلحة قديمة وإمكانيات متواضعة للغاية.
الهزيمة أفقدت القيادات العسكرية والسياسية في إسرائيل توازنها بشكل شبه كامل، وأصيب الإسرائيليون بحالة من الهلع، وكأن نهاية الكيان نفسه باتت وشيكة، وتعالت الصرخات وهبَّت أمريكا والغرب لمساعدة الاحتلال على التماسك، ولا بد هنا من التوقف وتجميد الصورة قليلاً لتفكيك عناصر هذا المشهد الغريب للغاية.
– أين اختفى "الجيش الذي لا يقهر"؟ وكيف يمكن لجيش كهذا أن يصاب بكل هذا الارتباك؛ لدرجة أن تطلق طائراته صواريخها على مستوطنين إسرائيليين يهربون بسياراتهم من غلاف غزة بعد أن فقدوا الأمل في أن يحميهم الجيش أو حتى أن يرد أحد على اتصالاتهم طلباً للنجدة؟
– كيف يمكن لجيش مدجج بالسلاح، من طائرات ومدرعات وسفن حربية وغواصات وغيرها، وأحدث التقنيات العسكرية وأكثرها تطوراً، أن ينهار بهذه الصورة وفي هذا الوقت القياسي أمام هجوم خطط له ونفذه مقاومون للاحتلال يعيشون تحت حصار شامل منذ أكثر من 16 عاماً؟
– كيف يقبل قادة هذا الجيش باستجداء المساعدة من الحلفاء بالصورة التي حدثت وتحدث، لدرجة أن يشارك ضباط أمريكيون في التخطيط والتنفيذ أيضاً لما حدث ويحدث في قطاع غزة، رغم النفي الأمريكي لهذه المشاركة وهو نفي لا يبدو مقنعاً لأحد بطبيعة الحال؟
ربما تكون الإجابة المباشرة لكل هذه التساؤلات أكثر وضوحاً مما يظنه البعض وهي باختصار "البروبغاندا" أو الدعاية الإسرائيلية التي لا تتوقف بشأن تضخيم قوة جيش الاحتلال وإطلاق أوصاف من قبيل "الجيش الذي لا يقهر" و"أقوى جيش في المنطقة" و"الجيش الأكثر تطوراً من الناحية التقنية"، وكلها توصيفات تحطَّمت على صخرة الواقع الذي فرضته المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
العدوان على غزة يؤكد أنه "جيش سيئ السمعة"
في إطار السعي المحموم لترميم هذه الصورة المهشَّمة، اتخذت إسرائيل وجيشها عدة خطوات، من خلال عدوانها على قطاع غزة الذي دخل الجمعة 17 نوفمبر/تشرين يومه الحادي والأربعين، يمكن تلخيصها في هذه النقاط:
– الدعاية والتضليل: انطلقت الآلة الدعائية الإسرائيلية تنشر الأكاذيب من خلال حملة تضليل واسعة النطاق من خلال الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين ارتكبوا "مذابح" بحق "المدنيين"، ووصلت إلى حد الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين "قطعوا رؤوس الأطفال"، وهي الكذبة التي أطلقتها قناة i24 العبرية.
وتلقَّفت وسائل إعلام غربية، منها صحف بريطانية مثل الصن والتايمز والإندبندنت وتليغراف وميل ومترو وإكسبريس وغيرها إضافة إلى وسائل الإعلام الأمريكية والألمانية، هذا الزعم الإسرائيلي ووضعته في عناوين رئيسية "حماس تقتل 40 طفلاً"، دون أي دليل أو صورة أو مقطع فيديو أو حتى تأكيد رسمي من جانب جيش الاحتلال عندما طلبت ذلك منه مؤسسات إعلامية غربية أخرى، مثل قناة سكاي نيوز البريطانية، التي رفضت، على مدى 3 أيام، نشر القصة انتظاراً لرد من جيش الاحتلال.
وكشف تناول كثير من الإعلام والصحفيين الغربيين هذه القصة المفبركة تماماً، والتي تناقض عشرات الصور ومقاطع الفيديو وشهادات مستوطنين إسرائيليين تؤكد أن تعامل مقاتلي المقاومة الفلسطينية مع أعدائهم اتسم في مجمله باحترام قواعد الاشتباك والقوانين الدولية والقيم الإنسانية، عن مدى الانحياز الأعمى لإسرائيل والتضليل للرأي العام بشأن حقيقة ما يحدث على الأرض.
لم يكن هذا الوقاع غائباً بالطبع عن نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بطبيعة الحال، فإسرائيل واثقة من الدعم الغربي الرسمي والإعلامي، وبالتالي لم يتوقفوا عند أي حد من الأكاذيب والفبركة، فالهدف هو "شيطنة" المقاومة والفلسطينيين بشكل عام لتبرير جرائمهم التي عقدوا العزم على ارتكابها؛ سعياً لتغيير الهزيمة إلى نصر بأي ثمن.
– تحطيم غزة وأهلها: "الانتقام" دون رادع من قطاع غزة المحاصَر أصلاً منذ أكثر من 16 عاماً، وذلك عبر شن هجمات جوية عشوائية ومكثفة تستهدف مباني وأراضي وأسواقاً، ومنشآت القطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، حيث يقطنه نحو 2.2 مليون فلسطيني، وسبق ذلك إعلان غالانت حصاراً كاملاً على القطاع "لا ماء لا كهرباء لا طعام"، وهي تصريحات ترقى إلى "جريمة حرب"، بحسب القوانين الدولية، لكن من يهتم؟
استمر القصف الهستيري والبربري دون توقف، حتى اليوم الجمعة 17 نوفمبر/تشرين الثاني، ليوقع عدداً هائلاً من الشهداء والجرحى الفلسطينيين، نحو نصفهم تقريباً من الأطفال وأغلبيتهم الساحقة من المدنيين. وظل جيش الاحتلال يحشد قواته ومدرعاته حول قطاع غزة؛ استعداداً للهجوم البري الهادف إلى "القضاء على حماس وباقي فصائل المقاومة" وتحرير الأسرى لدى المقاومة.
بدأ جيش الاحتلال اجتياحه البري لقطاع غزة مساء الجمعة 27 أكتوبر/تشرين، تحت جنح الظلام، وبعد أن قطع الاتصالات تماماً عن القطاع، وبعد 3 أسابيع كاملة من هذا الاجتياح، ماذا حقق الجيش المدجج بالسلاح والمدعوم أمريكياً وغربياً من الناحية العسكرية أو من ناحية أهدافه؟ لا تزال المقاومة قادرة على استهداف إسرائيل بالصواريخ، ولا تزال المقاومة تستهدف مدرعات وقوات العدو وتوقع به خسائر في بشرية ومادية ربما لم يتعرض لها خلال حروبه السابقة في مواجهة جيوش عربية.
لكن النقطة الأهم هنا هي أن الهدفين الرئيسيين، تدمير حماس وتحرير الأسرى، لا يزالان بعيدي المنال عن جيش الاحتلال، باعتراف أغلب الخبراء العسكريين الإسرائيليين والغربيين أنفسهم، وربما يكون الأمر الوحيد الذي نجح فيه جيش الاحتلال بامتياز هو اكتساب صفة "الجيش سيئ السمعة" عن جدارة واستحقاق!
ورغم إصرار نتنياهو وقيادات جيش الاحتلال، ومن خلفهم بايدن وبعض مسؤولي إدارته، على ترديد عبارات من قبيل "أكثر الجيوش إنسانية"، إلا إن إسرائيل المهزومة والفاشلة تبدو عاجزة عن تبرير ما ترتكبه في غزة من استهداف متعمّد حتى للمستشفيات والطواقم الطبية وعربات الإسعاف التي تنقل المصابين، وهو ما يرقى إلى "جريمة حرب" موثقة بالصوت والصورة.
إذ كيف يمكن إقناع الرأي العام بأن من "يسترون" مستوطنة ويتمنى أحدهم لو أنه يجيد العبرية كي يطمئنها ويطمئن أطفالها، يمكن أن "يقطعوا رؤوس أطفال؟" وكيف يمكن التغاضي عما يرتكبه جيش الاحتلال والمستوطنون أنفسهم بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، أطفالاً ونساءً وكبار سن، نهاراً جهاراً وأمام عدسات الكاميرات؟ وكيف يمكن التغاضي عن استهداف الصحفيين الذين يقومون بعملهم بالرصاص الحي، وما جريمة اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، برصاص جيش الاحتلال ببعيدة؟