عاد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون إلى واجهة الحياة السياسية بشكلٍ يبدو غريباً بعد تعيينه وزيراً للخارجية خلال التعديل الوزاري الذي جرى يوم الإثنين 13 نوفمبر/تشرين الثاني في خضم أزمة سياسية أدت إلى إقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان بعد انتقادها لما وصفته بانحياز الشرطة البريطانية لمظاهرة مؤيدي فلسطين.
وشهد ذلك التعديل عودة وزير الخارجية جيمس كليفرلي ليشغل منصب سويلا بريفرمان في وزارة الداخلية، بينما اختار ريشي سوناك سلفه كاميرون ليصبح الدبلوماسي الأول للمملكة المتحدة.
لكن زعيم المحافظين السابق، الذي سيرأس وزارة الخارجية، سيتولى منصبه إبان واحدة من أسوأ الأزمات الدبلوماسية الدولية في الذاكرة الحديثة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
إذ أسفر القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة عن أزمة إنسانية تُهدد حياة سكان المنطقة المحاصرة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، كما يُهدد القصف بتحويل الصراع إلى حرب إقليمية أوسع.
يُذكر أن بريطانيا تُعد من أكثر داعمي إسرائيل التزاماً منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
ديفيد كاميرون لن يغير سياسة لندن المنحازة لإسرائيل لأن عليها إجماعاً حزبياً
ومن المستبعد أن يحيد كاميرون كثيراً عن السابقة التي أرساها سلفه في المنصب، كليفرلي.
وهناك إجماع قوي بين مختلف الأحزاب حالياً على دعم إسرائيل بشكلٍ غير مشروط داخل المؤسسة السياسية البريطانية.
ولا يدعو المحافظون بقيادة سوناك أو حزب العمال المعارض إلى وقف إطلاق النار. لهذا من المستبعد أن تحمل تعليقات كاميرون السابقة عن فلسطين وإسرائيل أي أهمية كبيرة في الوضع الراهن.
سبق أن انتقد إسرائيل لهجومها على أسطول مرمرة التركي الذي حاول كسر حصار غزة
وجد كاميرون نفسه في خضم أزمة سياسة خارجية تتعلق بإسرائيل بمجرد وصوله إلى السلطة في مايو/أيار عام 2010.
وفي الـ31 من مايو/أيار من ذلك العام، هاجمت إسرائيل أسطولاً من القوارب التي كانت تحاول كسر الحصار على غزة وتوصيل إمدادات المساعدات، مع قتل القوات الإسرائيلية لـ10 مواطنين أتراك كانوا على متن سفينة مافي مرمرة.
وشدّد كاميرون آنذاك على "التزام المملكة المتحدة القوي بأمن إسرائيل"، لكنه حثّ إسرائيل على الرد بشكلٍ بناء على الانتقادات "الشرعية" الموجهة لتصرفاتها. كما وصل به الأمر إلى وصف الوضع بأنه "غير مقبول".
وحمّل كاميرون حماس المسؤولية عن الحصار، لكنه كرّر انتقاداته لإسرائيل في يوليو/تموز من العام نفسه أثناء زيارته لتركيا. وقال خلال تلك الزيارة إن التصرفات الإسرائيلية "غير مقبولة على الإطلاق"، كما وصف الأوضاع في غزة بأنها تشبه معسكر اعتقال.
ثم تراجع عن تصريحاته وقال إن علاقة بريطانيا مع إسرائيل غير قابلة للكسر
لكن الأشهر والسنوات التي تلت ذلك شهدت انخفاض حدة انتقادات كاميرون لإسرائيل، فضلاً عن تراجعه عن بعض تصريحاته السابقة.
وبحلول ديسمبر/كانون الأول من عامه الأول في المنصب، بدأ كاميرون يُخبر أنصار إسرائيل بأن العلاقات بين المملكة المتحدة ودولة إسرائيل "غير قابلة للكسر"، وبأن إسرائيل "لها الحق في الدفاع عن نفسها"، وبأنه يعارض الحملة الناشئة آنذاك لمقاطعتها.
وبحلول مارس/آذار من عام 2011، بدأ كاميرون يخبر جماعات الجالية اليهودية في المملكة المتحدة بأن إسرائيل كان من حقها تفتيش السفينة مافي مرمرة.
ثم رضخ لضغط حزب العمال خلال حرب عام 2014
حان موعد واحد من أقوى الاختبارات التي واجهها دعم كاميرون لإسرائيل في صيف عام 2014، عندما شنّت إسرائيل حملة قصف واسعة وغزواً برياً محدوداً داخل غزة.
وإبان الصراع، أعرب كاميرون أوّل الأمر عن "قلقه البالغ" حيال الضحايا المدنيين الذين يسقطون بالتزامن مع دفاع إسرائيل عن "حقها في الدفاع عن النفس". ثم اتخذ موقفاً أشد في ما بعد نتيجة ضغط حزب العمال المعارض.
وبعد شن عدة غارات إسرائيلية على بنايات تابعة للأمم المتحدة، قال كاميرون إن الهجمات الإسرائيلية على المدنيين "خاطئة وغير قانونية".
كما وعدت الحكومة البريطانية آنذاك بحظر تصدير أسلحة بعينها إلى إسرائيل في حال كان من المحتمل أن تلعب دوراً في القصف.
ولعب زعيم حزب العمال الأسبق إد ميليباند دوراً كبيراً في تخفيف دعم الحكومة البريطانية لإسرائيل، حيث حوّل استجابة كاميرون للحرب في غزة إلى واحدة من أهم نقاط هجومه على كاميرون طيلة أسابيع.
لكن كاميرون تغلّب على ميليباند بفارق مريح في الانتخابات العامة عام 2015، لكنه خسر المنصب بعد عامٍ تقريباً بسبب تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبعد تنحيه كانت تصريحاته شحيحة ومبتذلة
وأمضى وقته منذ مغادرة المنصب في الضغط السياسي لحساب المصالح التجارية الصينية داخل المملكة المتحدة. بينما كانت تصريحاته المتعلقة بالسياسة الدولية، والقضية الفلسطينية-الإسرائيلية، شحيحةً ومبتذلةً بالنسبة لسياسي محافظ.
وجاء آخر تعليق له على الصراع الدائر في صورة تصريح لدعم إسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
حيث كتب كاميرون على منصة X: "أتضامن مع إسرائيل بشكلٍ كامل في هذا الوقت العصيب، وأدعم رئيس الوزراء والحكومة البريطانية بالكامل في تأييدهما الثابت والمطلق لها".
ولم يحتوِ البيان على أي شيء يُفيد بتخطيطه للعودة إلى السياسة، ناهيك عن شغل منصب وزير الخارجية.
سوف ينصاع للتيارات المساندة لإسرائيل خاصة أن المعارضة تكبح الأصوات المؤيدة لفلسطين
ولكن مع عودة كاميرون الآن، لن تكون وجهات نظره السابقة مهمةً بقدر أهمية المناخ السياسي البريطاني الراهن في ما يتعلق بإسرائيل.
إذ يعمل حزب العمال المعارض على خنق أي مشاعر مناهضة لإسرائيل بين صفوفه بكل نشاط، مما يعني أن أي موقف حكومي مؤيد لإسرائيل سيُواجَه على الأرجح بدعمٍ كاملٍ من مقاعد المعارضة.
وفي غياب الأصوات الناقدة التي تضبط موقف الحكومة، سيكون من المستبعد أن يؤدي تعيين كاميرون إلى تغيير مسار الدعم البريطاني الثابت لهجوم إسرائيل المتواصل على غزة.
كاميرون متهم بأنه المسؤول عن إفساد السياسة البريطانية
لا شك أن عودة كاميرون هي أمر عجيب بالنظر إلى سجل الرجل التاريخي. إذ عاد الرجل الذي أفسد السياسة الخارجية البريطانية من قبل حتى يساهم في صياغتها الآن مرةً أخرى، حسب وصف تقرير صحيفة The Economist البريطانية.
إذ تقول الصحيفة إن الحكومة التي تعاني من أجل إصلاح الخدمات العامة اختارت تعيين الرجل المُتسبب في مصاعبها الحالية -أكثر من أي شخصٍ آخر. ونتحدث هنا عن رجلٍ هجر منصبه، لكنه يُصوَّر الآن باعتباره مثالاً على أداء الواجب. ويُمكن القول إن التظاهر بالكفاءة في السياسة البريطانية يُعَدُّ أكثر أهمية من تقديم الأدلة عليها، أي إن المظاهر الجمالية تتفوق على الإنجازات الفعلية، ونهضة كاميرون الجديدة هي خير دليل على ما سبق.
إليك أبرز أخطائه السياسية
ولا شك أن الأسلوب المقنع يُخفي الكثير من عيوب كاميرون. وقد ارتكب العديد من الأخطاء على صعيد السياسة الخارجية. إذ استهدفت بريطانيا الحرص على عدم اتحاد دول أوروبا ضدها طوال 500 عام، لكن كاميرون حقق ذلك الاتحاد في غضون 3 سنوات فقط بفضل الاستفتاء الذي وعد به عام 2013. كما كان شديد الودية مع الصينيين. وعندما غزا فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم عام 2014، كانت بريطانيا واحدةً من حماة أمن أوكرانيا المفترضين. لكن كاميرون سمح لفرنسا وألمانيا بقيادة المفاوضات من أجل السلام.
ويتمسّك الليبراليون بصورةٍ مشوّهة عن سياسات كاميرون، الذي يحتفون به على اعتباره حصناً في وجه الشعبوية. حيث يتمتع كاميرون بسمعةٍ طيبة كخبير استراتيجي سياسي ناجح سقط بسبب خطأ واحد: استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
محاولاته للتقشف أدت إلى فشل ذريع
لكن فلسفة المحافظة المالية الممزوجة بالليبرالية الاجتماعية لم تكن رؤية شعبية على الإطلاق في الواقع. وفي عام 2010، لم يستطع كاميرون الفوز بأغلبية مطلقة حتى بعد فترة الركود الهائل. أما في عام 2015، فقد احتاج كاميرون إلى نوبة غضب على أطراف بريطانيا السلتية (اسكتلندا وويلز) من أجل تحقيق أقل أغلبية لازمة للفوز منذ السبعينيات. وفاز كاميرون حينها بحصة أصوات أقل بكثير مما حصلت عليه تيريزا ماي وبوريس جونسون رئيسا الوزراء المحافظان اللذان جاءا بعده.
وبعد التجارب الفوضوية لحكومة ليز تراس التي لم تدم طويلاً، قد تُوصف السياسة الاقتصادية لكاميرون بأنها تحمل مظهر المحافظة الحذرة. لكنها ليست كذلك على الإطلاق في الواقع. حيث كان التقشف تجربة راديكالية فشلت فشلاً ذريعاً. إذ لم يتقلص حجم الدولة بشكلٍ مستدام، وأُلغِيَت تخفيضاته الضريبية، وأسفرت سنوات سحب الاستثمارات التي بدأت في عهده عن تدهور وضع المدارس والمستشفيات.
أدعى أنه اعتزل الحياة العامة
وربما أثنى الحلفاء القدماء على إحساس كاميرون بالمسؤولية وما نتج عنه من عودة إلى الحكومة، لكن كاميرون لم يكن ملزماً بالاختفاء من الحياة العامة في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقد قال كاميرون من قبل: "عندما تنتهي خدمتي كرئيس للوزراء، سأعود إلى المقاعد الخلفية كعضوٍ في البرلمان نيابةً عن ويتني، وذلك طيلة ما تبقى من حياتي". لكن كاميرون لم يخدم سوى لثمانية أسابيع فقط في المقاعد الخلفية قبل أن يترك البرلمان في الواقع. وكان بإمكانه أن يقدم فائدة أكبر خلال سنوات الصراع حول الخروج من الاتحاد الأوروبي بين عامي 2016 و2019، لكنه اختار التخلّي عن منصبه. وقد عاد كاميرون اليوم بعد أن ملّ حياته الخاصة.
لماذا عاد إذاً؟
لقد عاد كاميرون لأن سوناك يشعر باليأس بنسبةٍ كبيرة. وربما يُطمئن بعض الناخبين المحافظين الذين يشعرون بالتردد في الجنوب، والذين يمثلون القاعدة الانتخابية الضيقة الخاصة بكاميرون. ولحسن الحظ أن أضراره كوزير للخارجية ستكون أقل من أضراره عندما كان رئيساً للوزراء. لكن واقع الأمور يقول إن كاميرون يحتفظ بسمعته الطيبة داخل بعض الأوساط بسبب المظهر الذي يبدو عليه، وليس بسبب الأشياء التي يفعلها. مما يعني أن ارتداء الثياب المناسبة يفيد المرء في منصبه.