قد تكون عملية طوفان الأقصى أقسى ضربة منفردة وجهت لإسرائيل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ولا يشابهها إلا حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولكن مع تصاعد وحشية الانتقام الإسرائيلي وتحوله لحرب إبادة ضد غزة، يعود للواجهة تساؤل جوهري حول أهداف عملية طوفان الأقصى، وهل تحققت وهل تستحق كل هذه التضحيات؟
وتمثل عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان على غزة حدثاً تاريخياً قد يغير مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل شكل الشرق الأوسط حدث قريب في أهميته من مستوى النكبة وحربي 1967، و1973، وقد يفوق في أهميته الغزو الإسرائيلي لبنان عام 1982 والحرب بين حزب الله وإسرائيل عام 2006.
قبل طوفان الأقصى كان الشرق الأوسط يعاد تشكيله بشكل مغاير عن ذي قبل، فدخلت أطراف إقليمية هامة مثل تركيا والسعودية وإيران في مصالحات سياسية وتفاهمات اقتصادية كبيرة وعلى نفس الخط دخلت إسرائيل هي الأخرى في تفاهمت مع هذه القوى عدا إيران وكانت قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق تاريخي مع المملكة العربية السعودية.
ولكن الأخطر بالنسبة للشعب الفلسطيني أن عمليات التهدئة والمصالحة هذه جاءت في ظل تحدّ غير مسبوق للقضية الفلسطينية، حيث باتت الاقتحامات الإسرائيلية المتصاعدة بحق الأقصى والانتهاكات بحق الأسرى واعتداءات المستوطنين على فلسطيني الضفة الغربية جزءاً من الروتين اليومي لحياة الفلسطينيين، وباتت هذه الأحداث التي كانت تهز المنطقة والعالم تتذيل نشرات الأخبار.
كانت القضية الفلسطينية تموت ببطء أمام الجميع ودون أن يحرك أي طرف ساكناً وتيقنوا أن حماس قد قنعت بالسير في محاولة تخفيف الحصار على غزة وزيادة نصيبها من العمالة بإسرائيل، ولكن هذا لم يكن صحيحاً، وأرسلت حماس عبر الوسطاء لتل أبيب تحذيرات بضرورة وقف الانتهاكات بحق الأقصى وأهل الضفة والأسرى، ولكن لم يكن هناك من مجيب.
أول أهداف عملية طوفان الأقصى.. ردع محاولة هدم الأقصى
اسم هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يكشف بلا مواربة أهداف عملية طوفان الأقصى.
فعندما أعلن محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة "حماس" الفلسطينية، إطلاق العملية، قال في كلمة مسجلة: "إن العدو دنس الأقصى وتجرأ على مسرى الرسول، واعتدى على المرابطات، ودنس جنوده الأقصى وسبق أن حذرناهم".
ومما فاقم الخطر على الأقصى قبل الطوفان، انشغال الإدارة الأمريكية بحرب أوكرانيا، وبالتعديلات القضائية المثيرة للجدل في إسرائيل، إضافة إلى أن المجموعة المتطرفة الحاكمة في تل أبيب، كانت تحاول صرف الانتباه عن دورها في الأزمة الداخلية عبر إشعال الأوضاع في القدس والضفة، متخيلة أن المقاومة بقطاع غزة باتت مدجنة، حتى بات يوجه اللوم لحماس من قبل أهالي الضفة على تركهم هم والأقصى فريسة لإسرائيل.
كما أن التفاهمات الإقليمية جعلت قضية المسجد الأقصى في آخر أولويات الدول الإسلامية الكبرى التي بدأت بعضها في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ووصل الأمر إلى البدء في تعاون اقتصادي قوي بين بعض هذه الدول ودولة الاحتلال، رغم أن حكومة الاحتلال الحالية هي أشد الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل وتكشف عن نيتها الواضحة للتقسيم المكاني والزماني للأقصى، بل قد يكون أكثر من ذلك الاستيلاء عليه واحتمال هدمه.
إذ تسعى العديد من جماعات المستوطنين المتطرفين لهدم الأقصى، وأصبحت تتحدث عن ذلك علناً بشكل متكرر قبل عملية الطوفان.
فهناك معتقد في الديانة اليهودية يقوم على أنه يمكن هدم المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس المحتلة، عند ظهور البقرة الحمراء.
وتسعى جماعات الهيكل المزعوم المتطرفة، من خلال دعم حكومات الاحتلال المتعاقبة لاستيراد بقرات ذات لون أحمر، كما حدث مؤخراً أنه تم استيراد 5 بقرات من الولايات المتحدة، لذبحها في جبل الزيتون وبناء الهيكل المزعوم.
وفي يوليو/تموز 2023، كشفت القناة 12 الإسرائيلية، النقاب عن وجود تنسيق وتعاون بين العديد من الوزارات الحكومية لرصد ميزانيات وبذل الجهود من أجل تنفيذ رؤية ترميم "الهيكل" المزعوم في ساحات المسجد الأقصى الشريف.
وفي مايو/أيار 2023، قال وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير بعد أحد اقتحاماته المتكررة للأقصى: "نحن أصحاب السيادة هنا"، حسب زعمه.
وقال: "كل تهديدات حماس لن تنجح، كوننا نحن أصحاب السيادة على القدس وعلى أرض إسرائيل كلها".
وبين اعتياد العالم بما فيه العالم الإسلامي على الانتهاكات بحق الأقصى، وما يصاحبها من قمع للمرابطين به، مع انشغاله بحرب أوكرانيا، وزخم التطبيع، كان واضحاً أن الأقصى في خطر حقيقي.
بدا ذلك واضحاً في نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2023، قبيل عملية طوفان الأقصى بنحو أسبوعين، عندما اعتدت قوات الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين الفلسطينيين داخل البلدة القديمة في القدس المحتلة، وطاردت تلك القوات النساء لمنعهن من الوصول إلى المسجد الأقصى، بينما سمحت للمتطرفين اليهود باقتحام باحات الحرم القدسي الشريف.
الاعتداء على المسيحيين الفلسطينيين
وإضافة إلى مقدسات المسلمين، طالت اعتداءات المستوطنين في مدينة القدس المسيحيين ومقدساتهم. مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بصق متطرفون إسرائيليون على الأرض أثناء خروج مسيحيين، وهم يحملون الصليب من كنيسة بالبلدة القديمة في طريق الآلام بالقدس، وتم توثيق ذلك من قبل نشطاء بشريط فيديو، حسبما ورد في تقرير لموقع "الجزيرة.نت".
وقال مجلس الكنائس العالمي في القدس، في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الجاري إن المسيحيين يتعرضون لـ"الاضطهاد" من قبل جماعات إسرائيلية متطرفة، منتقداً صمت الحكومة الإسرائيلية إزاء ذلك.
وتعقيباً على ذلك، قال بن غفير إنه لا يعتقد أن التقليد اليهودي بالبصق عند مرور المسيحيين يعد مخالفة أو جناية.
ضم الضفة بات أمراً واقعاً تم تقنينه إسرائيلياً
من الناحية الواقعية كانت إسرائيل قد باشرت فعلياً بضم الضفة قبل طوفان الأقصى، عبر تغيير بيروقراطي لم يستقطب أي اهتمام يذكر، يحول الضفة من منطقة محتلة خاضعة بالأساس لسلطة الجيش إلى منطقة خاضعة لسلطة الداخلية التي يترأسها إيتمار بن غفير، إضافة لدور كبير لوزير المالية ومنافسه في التطرف بتسلئيل سموتريتش، وهما يقودان حزبين يمثلان المستوطنين اليهود المتطرفين في الضفة الغربية.
إذ إن العامل المشترك بين حزبيهما حزب الصهيونية الدينية والقوة اليهودية الذين يسيطران على أكثر الوزارات نفوذاً في البلاد هو سعيهما لتحويل إسرائيل إلى دولةٍ يهودية تمتد من نهر الأردن وصولاً إلى البحر المتوسط.
وبالفعل، حصل بن غفير وسموتريتش لأول مرة على السلطة والأموال التي يحتاجانها لضم الضفة الغربية أحادياً.
ففي فبراير/شباط 2023، اتفقت حكومة الائتلاف القومية المتطرفة على واجبات الوزير الجديد: سيتسلم بعض السلطات المدنية الناظمة لأوجه الحياة في الضفة الغربية، بعد أن كانت في السابق من اختصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي حصراً. يرقى هذا التغيير الإداري إلى مستوى إعلان إسرائيل سيادتها على الضفة الغربية، في انتهاك لما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة من حظر لغزو الأراضي وقضمها. وشددت ثلاث منظمات إسرائيلية رائدة في مجال الحقوق المدنية وحقوق الإنسان على أن هذا التغيير البيروقراطي يرقى إلى قوننة ضم الضفة الغربية [بعد ضمها بحكم الأمر الواقع]، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندنت عربية".
سوف يؤثر تغيير سلطة الاحتلال على سير الحياة اليومية للفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وسيفضي لتعزيز الممارسات العنصرية الحالية بما في ذلك الاستيطان والاستيلاء على الأرض وموارد المياه.
وفي أغسطس/آب 2023، دعا عميحاي إلياهو وزير شؤون القدس والتراث من حزب "القوة اليهودية" اليميني المتطرف إلى ضم الضفة الغربية في أسرع وقت ممكن.
واعتبر أن "لا وجود للخط الأخضر، الذي يحدد الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 ووصفه بأنه وهمي"، حسب زعمه.
وسبق أن قال وزير المالية الإسرائيلي المتطرف أيضاً في العاصمة الفرنسية باريس في 19 من شهر فبراير/شباط 2023، إنه "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني".
ونتنياهو الذي يعتمد في بقائه في الحكم بل بقائه خارج على السجن على هذه المجموعة المتطرفة، ليس لديه القدرة ولا الرغبة في التصدي لهذا التطرف، خاصة أن رد الفعل الأمريكي كان باهتاً إذا وجد أصلاً.
المستوطنون يتسلحون ويوسعون اعتداءاتهم على مزارعي الضفة
إحراق الأطفال تحول إلى تسلية مفضلة للمستوطنين على ما يبدو.
ففي 22 سبتمبر/أيلول 2023، أصيب طفل فلسطيني بحروق، جراء رشه بغاز الفلفل السام من قبل المستوطنين في مسافر يطا جنوب الخليل، وقبل ذلك أفادت تقارير بمحاولة إحراق طفل من الخليل جرى إنقاذه.
يعيد ذلك للأذهان الجريمة التي وقعت في عام 2015، عندما أشعل مستوطنون النيران في منزل عائلة الدوابشة خلال نومهم؛ ما أسفر عن مقتل طفل (18 شهراً) على الفور، ومقتل الوالدين لاحقاً، وبعد ذلك تم إحراق منزل الشاهد الوحيد في الحادث في العام التالي.
ولكن الحرق لا يستهدف الأطفال فقط، إذ طالب وزير المالية الإسرائيلي المتطرف في مارس/آذار 2023 بمحو قرية حوارة الفلسطينية بالضفة الغربية، وذلك قبل أقل من يومين من قيام حشد من المستوطنين بإضرام النار في عشرات المنازل والسيارات الفلسطينية في نفس البلدة، مما أسفر عن استشهاد شخص وإصابة المئات.
وفي المقابل اكتفت واشنطن بالإعراب عن اشمئزازها، ولكنها سمحت للوزير الإسرائيلي بدخول أراضيها بعد تصريحه.
ومنذ مطلع العام الجاري 2023، قتلت إسرائيل خلال اقتحاماتها أكثر من 220 فلسطينياً في الضفة الغربية والقدس وغزة بينهم نحو 40 طفلاً و11 امرأة، وفقاً لمعطيات وزارة الصحة الفلسطينية، وذلك قبل اندلاع "طوفان الأقصى".
وفي تقرير صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في أغسطس/آب الماضي، قالت المنظمة إن "الجيش وشرطة الحدود في إسرائيل يقتلون الأطفال الفلسطينيين دون أي سبيل فعلي للمساءلة"، مطالبة سلطات الاحتلال "بإنهاء الاستخدام الروتيني وغير القانوني للقوة القاتلة ضد الفلسطينيين، منهم الأطفال"، حسبما نقل عنه تقرير لموقع"الجزيرة.نت"
في أغسطس/آب 2023، دعا إيتمار بن غفير، إلى تسليح أكبر عدد من الإسرائيليين، رداً على إلى إطلاق نار من قبل فلسطينيين على المستوطنين في الضفة الغربية.
مخطط لتهجير الفلسطينيين من الضفة وتوسيع الاستيطان
تعهدت إسرائيل مرتين على الأقل بتجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية خلال العام الجاري، لكن هذه الفترة سجلت "ارتفاعاً قياسياً" بالأنشطة الاستيطانية غير الشرعية، بل أطلقت الحكومة الإسرائيلية الحالية أكبر عملية استيطان على الأقل منذ عام 2012، بالتوازي مع مساعٍ لتهجير الفلسطينيين على الأقل من المناطق الأقل كثافة من الضفة.
ويتزعم إيتمار بن غفير حزب "القوة اليهودية" اليميني المتطرف المنبثق عن حركة "كاخ" الإرهابية، والذي طالما دعا إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم التاريخية.
واكتسب بن غفير شهرته من دفاعه عن المستوطنين المتهمين بجرائم ضد الفلسطينيين وكذلك عرف باقتحاماته للأقصى، واستفزازاته لسكان حي الشيخ جراح بالقدس ضمن مساعٍ أوسع لطردهم من بيوتهم.
قبل أن يصبح وزيراً للأمن القومي في حكومة نتنياهو، لوح المتطرف اليميني إيتمار بن غفير بمسدس في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية المحتلة وسط مواجهات بين الفلسطينيين من جهة وقوات الاحتلال التي ترافق مؤيديه.
وفي اليوم التالي من الحادثة، نشر بن غفير صورته واقفاً بجانب اثنين من أطفاله حاملين بنادق ألعاب. وكتب على منصة إكس (تويتر سابقاً) "بعد أعمال الشغب.. أقوم بتعليم الأطفال كيفية التعامل مع الإرهابيين".
خلال الفترة الماضية وقبل طوفان الأقصى، غادر العديد من الفلسطينيين مجتمعاتهم بسبب عنف المستوطنين، أوضح التقرير أنه خلال العام 2022 جرى تهجير أكثر من 1100 فلسطيني من 28 تجمعاً سكانياً؛ بسبب تصاعد أعمال العنف ومنعهم من الوصول إلى أراضي الرعي على يد المستوطنين الإسرائيليين.
ولتنفيذ مشروع استيطاني كبير شرقي القدس، استناداً إلى الضوء الأخضر الذي أعطته المحكمة العليا الإسرائيلية -قبل سنوات- عمل تل أبيب على هدم وإخلاء قرية الخان الأحمر.
الاعتداء على الأسرى طال خطاً أحمر فلسطينياً بوصوله للأسيرات
"لا يكاد يخلو بيت فلسطيني من أسير أو أسير محرر، أي أنها قضية تمس بشكل شخصي الفلسطينيين كلهم"، حسبما يقول المحلل السياسي بلال الشوبكي لـموقع "الشرق"، مشدداً على أن "قضية الأسرى تعتبر عاملاً أساسياً في رسم مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"
وتابع: "معظم الأسرى انخرطوا في النضال بأشكاله المختلفة، ومن ثم فإن الحركات الفلسطينية تعتبر أن من مسؤوليتها الدفاع عن أبنائها، فتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم يعني أنها تخلت عنهم".
واكتسب ملف الأسرى حساسية خاصة بسبب جرائم بن غفير ضدهم، ويمكن القول إن الرغبة في تحرير الأسرى هي من أهم أهداف عملية طوفان الأقصى، وظهر ذلك في سعي الفصائل الفلسطينية لمحاولة الحصول على أكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين والحفاظ عليهم أحياء.
ويوجد أكثر من 5 آلاف فلسطيني أسير لدى الاحتلال، من بينهم 160 طفلاً، بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو/تموز، مع وجود نحو 1100 أسير تم اعتقالهم من دون توجيه أي اتهامات، ما يجعل الملف واحداً من أعقد الملفات وأكثرها حساسية.
وهناك "أكثر من مليون فلسطيني، من بينهم آلاف الأطفال، جرى أسرهم منذ احتلال إسرائيل للقدس الشرقية والضفة الغربية وغزة في عام 1967، حسب الأمم المتحدة.
في سبتمبر/أيلول 2023، وسَّع بن غفير إجراءاته التقييدية ضد الأسرى وقبل ذلك نفذ إجراءات انتقامية بحقهم شملت حرمانهم من الخبز والطعام الطازج وكثيراً من الحقوق المتواضعة التي حققوها في نضالاتهم، وكذلك قمع احتجاجاتهم وتشتيتهم بين السجون بشكل مستمر، وممارسة سياسة تعذيب بحقهم.
ثم كشف عن مخطط لتبني قانون يفرض عقوبة الإعدام على الأسرى المتهمين بقتل مستوطنين أو بمحاولة قتلهم.
ويمكن معرفة تأثير هذا الملف من خلال قراءة رسالة الأسرى التي صدرت من داخل السجون ووجهت للفصائل وصدرت في فبراير/شباط 2023، حيث دعوا إلى خوض معركة كبرى ضد بن غفير وضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات والاحتشاد في الساحات.
ولكن ما لا يمكن لأي فلسطيني أو عربي تحمله هو الانتهاكات بحق الأسيرات، والتي توسعت فيها سلطات الاحتلال رغم التحذيرات من أنها هذا بمثابة برميل بارود، ولقد وصلت إلى إغلاق المخابز التي تمدهن بالخبز بشكل يومي، والاعتداء على الأسيرات بالضرب وبإطلاق الغاز المسيل للدموع والكلاب البوليسية.
واعتقلت إسرائيل 1100 سيدة فلسطينية منذ بداية العام 2015.
التطبيع يفاقم تهميش محنة فلسطين ومقدساتها
عملية طوفان الأقصى أعادت ترتيب الأوراق في المنطقة، وجلبت قضية المسجد الأقصى والأراضي المحتلة إلى الواجهة مرة أخرى وجعلت البعض يتحدث من جديد عن ضرورة إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية التي كادت أن تندثر.
فقد شهدت الأشهر الأخيرة قبل عملية طوفان الأقصى زخماً أحاط بمبادرة أمريكية من أجل الوساطة في اتفاقية تطبيع بين إسرائيل والسعودية، وكان من المتوقع أن تُعيد المبادرة تشكيل الهيكلة الأمنية للشرق الأوسط، حسبما ورد في تقرير لمنصة أسباب المعنية بالتحليل السياسي.
قرار عملية طوفان الأقصى كان قراراً فلسطينياً خالصاً، حيث إن إيران وحزب الله اعترفا بأنهما لم يكونا يعلمان بها، بل إن الولايات المتحدة أقرت بأن طهران والحزب على الأرجح لم يعرفا بالعملية التي أحيطت بسرية شديدة؛ لدرجة أن أغلب قادة حماس بمن فيهم قادة عسكريون والمشاركون في العملية لم يعلموا بها إلا لحظة وقوعها، بل حتى رفيقة حماس وشريكتها في المقاومة حركة الجهاد الإسلامي يبدو أنها لم تكن تعلم بالعملية.
إلا أنه يبدو أن إيران قد تستفيد من هذه العملية بسبب رغبتها في عدم دمج إسرائيل في الشرق الأوسط وإفشال التطبيع بين الرياض وتل أبيب.
وبحسب "أسباب" فإن لا شك أن اتفاق سلامٍ بهذا الحجم سيفتح الباب أمام مشروعات اقتصادية جديدة في المنطقة؛ مما سيجعل إسرائيل أكثر اندماجاً في محيطها ويخقق لها رخاءً اقتصادياً خاصة مع ربط التطبيع بما يعرف بمبادرة الممر الهندي التي طرحت في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي برعاية أمريكية وقيل إنها تتضمن إنشاء خطوط نقل بحري وبري وسككي من الهند لدول الخليج مروراً بالأردن ومنها لإسرائيل وصولاً لأوروبا؛ لمنافسة طريق الحرير الصيني.
يمثل تطبيع العلاقات مع العالم العربي هدفاً استراتيجياً بعيد المدى داخل إسرائيل لأن بقاء الدولة يتطلب منها العثور على سبلٍ لإقامة وإصلاح العلاقات مع الدول المجاورة، ولأنها تخشى من تغيير ديمقراطي بالدول العربية يؤدي لشكل من أشكال الوحدة أو التكتل مع تطور اقتصادي يهدد تفوق الدولة العبرية إذا لم تصلح علاقاتها مع العرب قبل حدوث ذلك.
هل تمتد الحرب إلى الضفة الغربية؟
مع تفاقم الهيجان والتوحش الإسرائيلي، قد يفسر وزراء اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو ذلك باعتباره الضوء الأخضر لضم الضفة الغربية، وقد يعني ذلك محاولة تهجير 3 ملايين فلسطيني بالضفة الغربية إلى الأردن.
هذا سيمثل كارثة للأردن الذي اعتبر ذلك بمثابة إعلان حرب في أقوى موقف عربي في الأزمة.
ويفوق هذا حتى موقف مصر التي تواجه خطراً أكبر في ظل حديث مسؤولين إسرائيليين سابقين في بداية الحرب عن السعي لتهجير أهل غزة لسيناء ذات الكثافة السكانية المحدودة والمضطربة أصلاً، إضافة إلى تقارير تفيد بأن هذا الخيار طرح وراء الكواليس مقابل تصفير ديون مصر، ووسط مزاعم عن أن القاهرة ناقشت الفكرة، ولكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يلبث أن حذر من خطورتها؛ لأنها قد تؤدي لحرب بين مصر وإسرائيل؛ لأن الفلسطينيين المهجرين قد يهاجمون تل أبيب (مما يفتح موجة من الاضطرابات والمعارك تشبه التي حدثت في الأردن في الستينيات ولبنان في السبعينيات والثمانينات).
ويؤشر حديث بعض الوزراء الإسرائيليين المتطرفين عن تهجير أهل غزة لأوروبا لأن الإسرائيليين قد يكونون قد صرفوا النظر عن مخطط التهجير لسيناء خوفاً من السيناريو الذي حذر منه الرئيس المصري.
ما هو مصير الأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين؟
أعلنت إسرائيل عزمها القضاء على حركة حماس وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين والتفكير في مستقبل القطاع بعد هذه العملية.
إلا أن الأحداث الجارية على الأرض تؤكد عكس ذلك.
فيما يتعلق بعودة الأسرى فإن حركة حماس لديها سجل حافل من احتجاز الأسرى لفترات مُطوّلة وإبرام صفقات ناجحة مثل صفقة جلعاد شاليط التي انتهت بخروج 1027 أسيراً فلسطينياً بعد سنوات من التمنع الإسرائيلي.
وحتى الآن ليس هناك تقارير موثقة عن أن إسرائيل حررت أسيراً واحداً، بل على العكس، فإن حماس أبلغت بموت عدد كبير من الأسرى.
وبدا أن ملف الأسرى اقترب من الحلحلة؛ حيث ذكرت تقارير إخبارية غربية أن هناك تقدماً قد حدث على صعيد المفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل لإتمام صفقة تبادل الأسرى بين الطرفين.
وتشمل الصفقة "المقترحة" الإفراج عن أطفال ونساء فلسطينيين من سجون إسرائيل وإدخال وقود لغزة مقابل إطلاق حماس لسراح حوالي 80 امرأة وطفلاً، أغلبهم من حملة الجنسيات الأجنبية مع هدنة إنسانية قيل إنها ستصل لخمسة أيام.
ولكن تفيد تقارير بأن حماس علقت الصفقة بسبب المساومات الإسرائيلية.
وكل يوم مر يهدد بقتل إسرائيل لمزيد من الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية.
كيف ستنتهي الحرب؟
لا يمر يوم إلا وتعلن فصائل المقاومة عن تدمير العديد من الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية وأيضاً قتل عدد من الجنود الإسرائيليين في هذه العملية، رغم محاولة إسرائيل السيطرة الكاملة على شمال القطاع إلا أن الأمر لم يحدث وقد لا يحدث بسبب شراسة المقاومة.
تحاول حكومة الاحتلال خلق إنجازات وهمية، إذا جعلت من مستشفى الشفاء رمزاً لغزة وزعمت أن تحته يقع مقر حماس الرئيسي رغم دعوة الحركة لتشكيل لجنة دولية للتثبت من الأمر.
والحقيقة أن الادعاءات الإسرائيلية واهية ويشكك فيها العقلاء من المحللين الإسرائيليين.
أصلاً افتراض أن هناك مركزاً رئيسياً للعمليات لحماس حالياً، يبدو ساذجاً، فحماس ليست حكومة دولة ولا القسام جيش نظامي ليكون له مقار قيادة أو سيطرة أو إمداد وتموين مركزية، في ظل تأهب الفصائل دوماً لاجتياح إسرائيلي وفي ظل القصف الهائل الذي فاقت قنابله في الأسبوعين الأولين ما ألقته أمريكا على أفغانستان في عام.
ولذا فإن الفصائل الفلسطينية على الأرجح نشرت أصولها ومقاتليها على مساحات واسعة أغلبها في شبكة الأنفاق الواسعة تحت الأرض، ووضعت في حسبانها إمكانية سيطرة إسرائيل على أرض غزة بينما هي لها ما تحت الأرض.
وعلى الأرجح في شبكة الأنفاق هذه كميات من الذخائر والأسلحة الموزعة في مناطق عدة بعيداً عن أعين الاحتلال، وتحسباً لتقطيعه لأوصال القطاع.
فمعركة غزة الكبرى لم تبدأ بعد، فحتى لو سيطر الاحتلال على شمال القطاع أو معظمه، فإن قوات المقاومة الرئيسية متحصنة في الأنفاق، وهي لن تخوض معركة نهائية مع الاحتلال بل تستدرجه لمعارك استنزاف مطولة تجعل بقاءه مكلفاً وبلا جدوى، وهي تسعى في الأغلب للاحتفاظ بأصولها واحتياطاتها وقواتها وأسلحتها التي هي أثمن ما لديها في ظل الاجتياح والحصار.
هل يتحول الصراع لحرب إقليمية واسعة؟
كانت هناك مخاوف كبيرة لدى كل الأطراف من توسع الصراع ليشمل حزب الله ووكلاء إيران الآخرين والولايات المتحدة، ولكن يبدو أن حزب الله قنع بتصعيد متوسط، تحملته إسرائيل برد أوسع قليلاً دون شن حرب شاملة، مما قلل حتى الآن مخاطر اندلاع حرب إقليمية، رغم أن إيران وحزب الله قلقان من هزيمة المقاومة؛ لأنها قد تؤدي لتحول إسرائيلي أمريكي نحوهما.
ولكن كلمة هزيمة المقاومة، هي أمر يصعب تعريفه، تحاول إسرائيل توصيف نجاحها للوصول لمدينة غزة وتطويقها الجزئي بأنها هزيمة لحماس، رغم أن المصادر الإسرائيلية تعترف على مضض بأن بنية حماس الأساسية لم تتأثر كثيراً.
كما يبدو أنه من الواضح أن إسرائيل لم تدمر قطاعاً كبيراً من الأنفاق ولم تدخلها، وهي حتى لا تعرف مقدار ما دمرته بدقة.
نافذة الوقت تنفد أمام إسرائيل
مع تصاعد الغضب الشعبي العالمي، باعتراف وزير خارجية إسرائيل إيلي كوهين بأن بلاده بات لديها نافذة أسبوعين أو ثلاثة لإنهاء الحرب، بسبب الضغوط الدولية، ومع استنزافها لرصيد الدعم الغربي عبر استهداف المدنيين بالأساس، تبدو إسرائيل ستبحث عن انتصارات وهمية مثل حصار مستشفى الشفاء أو القول إن حماس فقدت السيطرة على غزة.
بينما تواصل المقاومة الفلسطيني اختيار أماكن وتوقيت المعارك.
وفي الوقت ذاته اشتعل أول خلاف بين واشنطن وتل أبيب منذ بداية الحرب وذلك حول مصير القطاع بعد سقوط حماس المنتظر.
تريد واشنطن دوراً، للسلطة الفلسطينية مع تلميحها إلى دور لقوات عربية ودولية، بينما تريد إسرائيل إعادة احتلال قطاع غزة مع دعوات من المتطرفين إلى إعادة الاستيطان إلى شمال القطاع.
من يطول عمره السياسي أكثر حماس أم نتنياهو؟
ولكن قادة إسرائيل ينتقلون من خطة لأخرى دون أن يفعلوا الكثير على الأرض، وقد يكون عمر نتنياهو في حكم غزة أقصر من عمر حماس في حكم غزة.
إذ يتصاعد الغضب ضده؛ سواء بسبب الإخفاق الأمني أو بسبب الأسرى، ومع فقدان العمليات لزخمها، فقد يحين وقت الحساب لنتنياهو الذي طلب غريمه وشريكه في السلطة حالياً بيني غانتس تأجيله إلى حين انتهاء الحرب.
وهي النهاية التي لا يعلم أحد شكلها، يحلم الإسرائيليون بالقضاء على حماس، ويتساوق معهم الأمريكيون في هذا المطلب، وهم الذين ذهبوا للعراق لإنهاء حكم صدام فقضوا على نظام بعثي علماني لتشتعل تحت أقدامهم مقاومة متعددة المشارب بعضها سني سلفي وبعضها شيعي، ومنها ما هو بعثي وانتهت الحرب بخروجهم وظهور داعش، وتكرر الأمر في أفغانستان.
والأمر قد يكون أسوأ للإسرائيليين، فحماس أعمق جذوراً في غزة من البعث في العراق وطالبان في أفغانستان، وقد يسيطر الإسرائيليون لأشهر على ما فوق على الأرض في أغلب غزة، ولكن قد تخرج لهم المقاومة من تحت الأرض.
وقد ينضم مزيد من الشبان الذين فقدوا ديارهم وأهاليهم لهذه المقاومة.
السيناريو اللبناني هو الأرجح لغزة
وعلى الأرجح سينتهي الأمر بخروج إسرائيل من غزة، بعد بضعة أشهر كما فعل أشد زعمائها تطرفاً وشراسة أرئيل شارون في عام 2005 بـ"عملية فك الارتباط"، برعاية أمريكية والتي كانت أول انسحاب إسرائيلي من أرض فلسطينية محتلة.
وقد يعقب ذلك عودة حماس من جديد للسيطرة على أرض غزة حتى لو تعرضت لخسائر كبيرة في الأفراد والمعدات.
ولمنع حدوث ذلك، قد تحاول أمريكا إدخال قوات تابعة للسلطة الفلسطينية لتمسك بزمام الأمن بغزة لصالح إسرائيل، مع احتمال وجود قوات أممية في المناطق الحساسة، ولكن قوات السلطة هذه قد تبدو للفلسطينيين أنها جاءت فوق ظهور الدبابات الإسرائيلي التي قتلت أهاليهم للتو، وهي في الأغلب لن تستطيع حكم قطاع غزة إلا برضا ضمني من حماس.
وقد يعني ذلك أننا أمام سيناريو مشابه للوضع في لبنان بعد حرب 2006، حيث نشرت قوات اليونيفيل الدولية في جنوب لبنان لمنع وجود حزب الله وتهريب السلاح، بينما الواقع أن الحزب هو القوة الأكبر في الجنوب وكل لبنان.
وقد تظل حماس هي الحاكم الفعلي لغزة مثل حزب الله في لبنان، بينما السلطة مثل حكومات لبنان الضعيفة المتوالية تتحمل مسؤولية إعاشة الناس والتعامل مع الاحتلال وبقية العالم، وقد يؤدي ذلك لمزيد من تحرر حماس لتتفرغ للمقاومة، في حين ستتحمل السلطة سخط العائلات التي دمر الاحتلال بيوتها.
قد تكون غزة قد دُمرت وذُبحت بعد طوفان الأقصى، ولكن القضية الفلسطينية عادت لتصبح عنوان الضمائر الحرة في العالم، والأقصى عاد ليصبح خطاً أحمر، والأسرى قد يُفرَج عن بعضهم، وفلسطين باتت تُسقط وزراء بريطانيين من السلطة، وتفجر الخلافات داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، وأصبحت هي القضية المركزية للعالم وليست أوكرانيا.
قد تكون طوفان الأقصى وما تبعها هي التضحية الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني، في سبيل قضيته ومقدساته، ولكن على الأرجح أنها ستكون نقطة فارقة في تاريخ الاحتلال وقد تدفعه ليعيد حساباته قبل أن يدنس هذه المقدسات مجدداً.