يتساءل إسرائيليون عما قد تتحول إليه إسرائيل في اليوم التالي لانتهاء هذه الحرب الرهيبة على غزة. فيوم الخميس 9 نوفمبر/تشرين الثاني، اعتُقل محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العرب في الداخل المحتل، والزعيم السابق لحزب الجبهة اليساري، الذي كان عضواً في الكنيست 16 عاماً. واعتقل أيضاً اثنان من أبرز الشخصيات السياسية العربية، هما سامي أبو شحادة، زعيم حزب التجمع الوطني الديمقراطي والعضو السابق في الكنيست، وحنين زعبي، عضوة الكنيست السابقة أيضاً.
وكانت جريمة كل هؤلاء الدعوة إلى مظاهرة في مدينة الناصرة، احتجاجاً على الحرب على غزة. ومن المؤكد أن مشاهدة أخبار المقاومة عبر قنواتها على التليغرام تعتبر الآن جريمة جنائية في إسرائيل، وبسببها قد تقضي سنة في السجن، حيث تُشن حالياً حملة تطهير على الطلاب والمحاضرين الفلسطينيين في الجامعات والكليات الإسرائيلية وأي متعاطفين مع غزة على منصات التواصل الاجتماعي.
عقاب جماعي لفلسطينيي الداخل
يقول ميرون رابوبورت، الكاتب الإسرائيلي في موقع Middle East Eye البريطاني، إن مركز عدالة القانوني الحقوقي الفلسطيني، وثق أكثر من 100 حالة لطلاب ومعلمين طردوا بإجراءات مختصرة، بسبب ما كتبوه على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى في مجموعات الواتساب الخاصة عن غزة. وبحسب مركز عدالة، فبعض هذه المنشورات لا تضم إلا آيات من القرآن أو أسماء الصحفيين الموجودين على الأرض في غزة.
وقال حسن جبارين، مدير عام مركز عدالة، إن معلمة استدعيت للتحقيق لنشرها عبارة "لا إله إلا الله". وأوضحت المعلمة أن عمتها ماتت، ولم تصفح عنها المدرسة إلا بعد أن اطلعت على شهادة وفاة عمتها!
وفي اليوم نفسه الذي وقع فيه هجوم حماس تلقت إحدى الطالبات في جامعة حيفا رسالة من العميد، يخبرها فيها بأنها موقوفة عن الدراسة، وأن عليها مغادرة السكن الجامعي في اليوم التالي. وكانت تهمتها "دعم الهجوم الإرهابي على المستوطنات القريبة من غزة وقتل الأبرياء"، وهو ما نفته نفياً قاطعاً.
وكانت وردة سعادة، الأستاذة في كلية كي للتربية، وهي كلية لتدريب المعلمين في بئر السبع، كتبت في منشور أن غزة تحت الحصار منذ 16 عاماً، دون أن تبرر حتى هجوم حماس، بل إنها أدانت "قتل المدنيين"، فتم فصلها بعد 30 عاماً من العمل في الكلية.
عقاب انتقامي بأثر رجعي
وبحسب الكاتب ميرون رابوبورت، يحدث الشيء نفسه في القطاع الصحي في إسرائيل، الذي يشكل فيه الفلسطينيون 40% من العاملين في المستشفيات والمراكز الطبية والصيدليات.
وتحدثت نهاية داوود، باحثة الصحة العامة في جامعة بن غوريون في النقب ورئيسة اللجنة الفرعية للصحة التابعة للجنة المتابعة العليا، عن حملة لطرد الأطباء والعاملين في القطاع الصحي، وأحياناً بسبب أشياء كتبوها قبل بدء الحرب.
إذ طُرد عابد سمارة، طبيب قلب من مستشفى هشارون من العمل دون تحقيق، لأنه نشر- قبل عام من الهجوم- راية الإسلام وعليها حمامة تحمل غصن زيتون.
وقالت داود إن الفلسطينيين العاملين في الخدمة الصحية يواجهون مضايقات من بعض زملائهم اليهود، ولم تتخذ نقابات الأطباء أي إجراءات.
ويحيط الإفلات من العقاب أيضاً بالعريضة التي وقعها مئات الأطباء اليهود الإسرائيليين، والتي طالبوا فيها بقصف مستشفى الشفاء في مدينة غزة، وهي دعوة غير مسبوقة سواء في إسرائيل أو في بقية العالم، وفقاً لداود. وزعمت أن هذا كان انتهاكاً مباشراً لاتفاقيات جنيف وقسم أبقراط.
قرار جماعي بمعاقبة العرب في الداخل المحتل
على أن الأكثر إثارة للقلق هو أن الكثير من هذا ليس مصدره السلطات العليا، من حكومة مليئة باليمين المتطرف، بل إن عمليات التطهير تلك تنفذها سلطات الجامعة أو المستشفى نفسه، مع زملاء يهود للمحاضرين والأطباء الفلسطينيين.
فما الذي يحدث؟
أولاً، يقول الصحفي الإسرائيلي ميرون رابوبورت، يبدو هذا قراراً جماعياً واعياً، على المستويين الرسمي وغير الرسمي في إسرائيل، للهروب من الواقع.
فعدد كبير جداً من اليهود الإسرائيليين يريدون أن يهربوا من واقع أن مليوني فلسطيني يعيشون في إسرائيل يتضامنون مع شعب غزة. بالطبع يفعلون، فالكثير منهم، وخاصةً في يافا أو الرملة، لديهم أقارب في غزة، لاجئون فروا من هذه المدن عام 1948.
لكن إسرائيل تتصرف وكأن هذا الارتباط القوي بين هذه الأجزاء المختلفة من الشعب الفلسطيني سيختفي إن لم يتحدث أحد عنه.
ونفس هذا العالم الخيالي يحيط بقضية الأسرى. فقبل أسبوعين، وقبل بدء الهجوم البري، كان الجانبان على وشك التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح النساء والأطفال والمواطنين الأجانب، مقابل إطلاق سراح النساء والأطفال الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وفشلت الصفقة حين بدأ الغزو البري بقرار من نتنياهو.
وخرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، وبعده جميع المعلقين العسكريين والمراسلين، ليقولوا إن الغزو البري يزيد من الضغوط على حماس لإطلاق سراح الرهائن.
ومن الواضح أن بعض عائلات الرهائن اعترضت على ذلك، لكنها لم تجرؤ على إبداء اعتراضها كي لا توصم بعدم "الوطنية". وأصبح لا أحد حتى يطرح السؤال: "كيف يمكن لغزو بري أن يزيد الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن؟ بأي طريقة؟ ولماذا؟".
تحريف متعمد الحقائق
هذا مجرد سؤال آخر مدفون تحت أنقاض هذه الحرب، وكذلك حال ما يراه ويسمعه اليهود الإسرائيليون عما يحدث في غزة. فلا تنشر أي لقطات تقريباً للفظائع التي تُرتكب هناك.
وتُصوَّر المظاهرات الأسبوعية الحاشدة في لندن وواشنطن وأماكن أخرى على أنها "يسارية دولية تدعم المذبحة التي يتعرض لها المدنيون الإسرائيليون".
ولا يُذكر شيء عن الرفض العالمي المتنامي لما تفعله إسرائيل في غزة، وإن حدث يكون بطريقة ملتوية تماماً، كما لو كانت مؤامرة ضخمة معادية للسامية على اليهود وإسرائيل.
ويقول ميرون رابوبورت، لا يقتصر التطهير على الفلسطينيين. فالمعارضون اليهود يعانون من حكم الدهماء. إذ تم استدعاء عيران رولنيك، الطبيب النفسي الذي كتب لسنوات في صحيفة هآرتس، يوم الأربعاء 8 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى جلسة تأديبية من جانب لجنة الخدمة المدنية بسبب المقالات التي انتقد فيها نتنياهو.
واعتقل مئير باروشين، مدرس التربية المدنية الذي ينشر أسماء وصور المدنيين الفلسطينيين الذين تقتلهم القوات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، يوم الخميس بتهمة "التآمر للخيانة".
ولا يزال الصحفي اليساري اليهودي المتطرف، إسرائيل فراي، الذي كتب أنه يترحم على الأطفال من ضحايا الكيبوتسات وغزة على السواء، مختبئاً، بعد فراره من منزله حين تجمعت حشود من الغوغاء أمامه. لكن السؤال الكبير، والخوف الأكبر، هو ماذا سيحدث بعد ذلك؟
يقول ميرون رابوبورت: لك أن تضع أجواء الرعب السائدة في سياق من الخوف والرغبة في الانتقام. ورغم أن هذه المشاعر مفهومة فإنها قد تتضخم، مدفوعة بهجمات حماس التي لم يعد أي يهودي إسرائيلي يشعر بالأمان في منزله بعدها.
ولكن هل سيتبدد نظام تكميم الأفواه والترهيب الداخلي هذا حين تنتهي الحرب؟ أم أننا نقف على عتبة قمع شامل للفلسطينيين والمعارضين الإسرائيليين؟ هل إسرائيل على أعتاب الفاشية؟ ليس بوسع أحد أن يقدم إجابة مريحة.