أصبحت التساؤلات الآن تتمحور حول مدى قدرة الرئيس الأمريكي جو بايدن على إقناع إسرائيل وقادتها بوقف العدوان الهمجي على غزة قبل فوات الأوان، فهل يتحرك بايدن فعلاً لأسباب انتخابية بحتة؟
صحيفة The Economist البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه "هل ستُوقِف أمريكا الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة؟"، يرصد موقف إدارة بايدن من العدوان الإسرائيلي المستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حين شن جيش الاحتلال، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
زيارات بلينكن المكوكية للمنطقة
انطلق تحليل الصحيفة البريطانية من الوقت الطويل الذي أمضاه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في رحلات مكوكية عبر الشرق الأوسط، ملقياً الضوء على غياب الترحيب برأس الدبلوماسية الأمريكية، وهو ما لم يكن مفاجئاً بلا شك.
إذ قام بلينكن خلال الأيام القليلة الماضية برحلته الثانية من نوعها منذ بداية العدوان على غزة. وفي عمَّان، طلب نظيره الأردني أيمن الصفدي "وقف هذا الجنون". وكانت اللغة التي سمعها بلينكن على انفراد في جميع أنحاء المنطقة أكثر صرامة. واستمر لقاؤه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أقل من ساعة، وانتهى دون إصدار بيان مشترك. بينما لم يُكلِّف رئيس تركيا، رجب طيب أردوغان، عناء مقابلته على الإطلاق.
وكان الاستقبال الفاتر لبلينكن علامة على الغضب المتزايد من العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة وأهلها. ومع دخول شهرها الثاني الآن، تسببت الحرب في سقوط أكثر من 10800 مدني فلسطيني، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، كما ألحقت أضراراً أو دمرت أكثر من نصف المباني في القطاع، وأثارت تلك الهجمات المسعورة غضب العالم العربي كما ألهبت العواصم الغربية وأثارت إدانة العديد من زعماء العالم.
وقد نشرت شبكة CNN الأمريكية الجمعة 10 نوفمبر/تشرين الثاني تقريراً يرصد تحذيرات الدبلوماسيين الأمريكيين في المنطقة العربية من تنامي حالة العداء والكراهية تجاه واشنطن، وأرسل بعض سفراء أمريكا برقيات تحذير واضحة للخارجية.
لكن حتى قبل أن يتحرك السفراء ويرسلوا برقياتهم التي اطلعت CNN على البعض منها، وبخاصة برقية سفير أمريكا لدى سلطنة عمان، كان موقف بايدن المنحاز بشكل صارخ لإسرائيل منذ اللحظة الأولى وترديده أكاذيب نتنياهو ومتطرفيه قد تسبب في ارتفاع حاد في المشاعر العدائية لأمريكا في المنطقة.
وكان تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية قد تناول كيف أثار الموقف الأمريكي غضباً عارماً في الشرق الأوسط، لا يقتصر على إسرائيل فحسب، بل موجه نحو الولايات المتحدة أيضاً باعتبارها القوة العالمية التي أعلنت دعمها الثابت لحليفتها الرئيسية في المنطقة. وتأججت مشاعر الغضب تجاه أمريكا أكثر بعد قصف إسرائيل المستشفى المعمداني في غزة (17 أكتوبر/تشرين الأول)، بسبب ترديد بايدن وكبار المسؤولين في إدارته للأكاذيب الإسرائيلية بشأن ما حدث فعلاً.
لكن حتى قبل ذلك، كان كثيرون في المنطقة قد بدأوا ينظرون إلى ما تقوم به إسرائيل باعتباره مذبحة برعاية أمريكية للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، فقد قطعت إسرائيل الماء والدواء والكهرباء عن القطاع، وواصلت استهداف غزة بغارات جوية دموية استهدفت المستشفيات والمباني السكنية وأي نوع آخر من المباني بل الأراضي الزراعية ولم يسلم بشر ولا حجر من هذا الجنون غير الإنساني.
وينظر العديد من العرب إلى الحكومة الأمريكية على أنها لا تكترث لمعاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن كونها شريكةً في تلك المعاناة أيضاً. ولا شك أن التعهدات الأمريكية بالحفاظ على الدعم "الثابت" وتقديم المساعدات الأمنية بلا شروط لإسرائيل قد أججت تلك المشاعر، وكان ذلك قبل أن تبدأ إسرائيل في اجتياح قطاع غزة برياً.
ماذا يريد نتنياهو من غزة؟
لكنَّ قادة الحرب والتطرف في إسرائيل لا يزالون يتحدثون عن شن حملة برية طويلة على القطاع قد تستمر لمدة عام. ففي 7 نوفمبر/تشرين الثاني، صرح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لشبكة ABC News بأنَّ إسرائيل ستكون مسؤولة عن الأمن في غزة "لأجل غير مسمى".
لكن من الناحية العملية، فإنَّ ما يسميه الضباط الإسرائيليون "نافذتهم الشرعية" ربما تكون أقصر بكثير. وتعتمد سرعة إغلاق هذه النافذة إلى حد كبير على أمريكا، التي تزود إسرائيل بالذخائر والدعم الدبلوماسي وحزمة مساعدات ربما تبلغ قيمتها 14 مليار دولار. وإذا أراد جو بايدن إنهاء الحرب، فسيكون من الصعب على إسرائيل أن تتجاهله، هكذا ترى صحيفة الإيكونوميست البريطانية وغيرها أيضاً.
وفي مقال له بصحيفة نيويورك تايمز، طالب توماس فريدمان صراحةً وبشكل مباشر بالرحيل الفوري لبنيامين نتنياهو وتحالفه الحكومي المتطرف حتى لا يتعرض بايدن للضرر جراء دعمه المطلق لـ"إسرائيل نتنياهو" ويفقد الرئيس الأمريكي فرصته في الفوز بفترة رئاسية ثانية العام المقبل.
لكن من ناحية أخرى، سيكون على نتنياهو مواجهة ما هو أكثر من مستقبله السياسي حال تقديم استقالته الآن، فرئيس الوزراء الإسرائيلي يحاكم بتهم متعددة كتلقي الرشاوى والفساد وخيانة الأمانة واستغلال النفوذ، وبالتالي على الأرجح سينتهي به الأمر خلف القضبان.
أما حلفاء نتنياهو المتطرفون، من أمثال وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش وغيرهما، فقد لا تتاح لهم فرصة أخرى للوصول إلى السلطة في الدولة العبرية إذا ما انتهى هذا التحالف الأكثر تطرفاً على الإطلاق، خصوصاً أن الهزيمة المذلة التي تعرض لها الاحتلال يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وتسببت في فقدان الإسرائيليين لأي إحساس بالأمن لن يمحوها شلال الدماء المسفوك من الأبرياء المدنيين في غزة مهما طال الزمن.
وفي هذا السياق، أوضح مسؤولو الإدارة الأمريكية، في سلسلة من التسريبات، أنهم يشكون في أنَّ تكون لدى إسرائيل إستراتيجية خروج منسقة من غزة. وهم يشكون من أنَّ نتنياهو لديه استعداد ضئيل لمناقشة الموضوع، ويقولون إنهم يريدون تسجيل مخاوفهم الآن خشية أن تنتهي الحرب نهاية سيئة. ويمثل الاعتقاد بأنَّ الحرب قد تتحول إلى معضلة، ومع ذلك مواصلة دعمها، موقفاً لا يمكن الدفاع عنه، خاصة إذا كان الناخبون الأمريكيون يتفقون مع هذا الرأي.
هل يُجبَر بايدن على الضغط على إسرائيل فعلاً؟
لكن حتى الآن، لا يبدو أنَّ بايدن يريد إنهاء الحرب، وإن كانت لهجته وموقفه بدآ في التحول ولو قليلاً مؤخراً، ليس خوفاً على سفك المزيد من دماء الفلسطينيين بطبيعة الحال، ولكن لأسباب انتخابية داخلية محضة. فالرئيس الأمريكي بات يدعم "وقفات إنسانية" للسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة، برغم رفضه الدعوات لوقف إطلاق النار بالكامل.
وأظهر استطلاع أجرته مجلة The Economist وYouGov أنَّ عدداً كبيراً من الأمريكيين (41%) يعتقدون أنَّ الرئيس بايدن يدير الحرب إدارة سيئاً. ووجد استطلاع أجرته Quinnipiac للناخبين المسجلين أنَّ 51% من المستقلين و66% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً لا يوافقون على سياسته.
كما انخفضت معدلات تأييد بايدن بين الناخبين الأمريكيين من أصول عربية، الأمر الذي قد يضر به في العام المقبل في الولايات المتأرجحة الحاسمة مثل ميشيغان. وتعتقد مصادر في واشنطن أنَّ الأمر سيستغرق عدة أسابيع أخرى قبل أن يتحول بايدن إلى الحديث عن هدنة، لكنها متأكدة من أنه سيجري مثل هذا التحول، بحسب تحليل الإيكونوميست.
ومن المؤكد أنَّ الدول العربية تأمل ذلك. وقد تراجعت المخاوف من اندلاع حرب متعددة الجبهات، التي كانت حادة في الأيام التي تلت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وتواصل جماعة حزب الله اللبنانية، إطلاق الصواريخ يومياً على إسرائيل، لكن حسن نصر الله، زعيم الجماعة، أشار في خطاب ألقاه يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني إلى أنه غير مهتم بعد بحرب شاملة. وأطلقت جماعة الحوثيين في اليمن طائرات بدون طيار وصواريخ على إسرائيل، لكنها أبعد من أن تشكل تهديداً استراتيجياً.
وترى الصحيفة البريطانية أن العديد من الحكام العرب سيكونون "سعداء برؤية إسرائيل تسحق حماس"، لكنهم يشعرون بالقلق أيضاً من أنَّ الحرب سوف تحشد رعاياهم، الذين يشعر العديد منهم بالفعل بالقلق إزاء الظروف الاقتصادية السيئة. وهذا يزيد من الضغوط على كل من أمريكا، التي استمعت لمخاوفهم منذ أسابيع، وإسرائيل الحريصة على الحفاظ على ما حققته من مكاسب دبلوماسية مؤخراً في العالم العربي.
ثم هناك إسرائيل نفسها. فالجمهور غاضب من رئيس الوزراء الذي يهتم ببقائه السياسي أكثر من اهتمامه باستراتيجية ساحة المعركة. وتجمع متظاهرون أمام منزل نتنياهو يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني للمطالبة باستقالته.
وهناك مسألة أخرى وهي الاقتصاد. فقد كلفت حرب لبنان التي استمرت لمدة شهر في عام 2006 حوالي 9.5 مليار شيكل (2 مليار دولار في ذلك الوقت أو 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي)، في حين أنَّ الصراع الكبير الأخير في غزة في عام 2014 كلّف 7 مليارات شيكل (0.6% من الناتج المحلي الإجمالي). وقد يكون الحالي أكثر تكلفة. ويعتقد بنك إسرائيل أنَّ العجز الحكومي سيرتفع إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل، مقارنة بفائض بنسبة 0.6% في عام 2022. كما أدت تعبئة 360 ألف جندي احتياطي إلى ترك أجزاء من الاقتصاد الإسرائيلي تعاني من نقص في العمال، حتى لو أعيد بعضهم الآن.
ويأمل المسؤولون الإسرائيليون أن يفسح القصف العنيف خلال الشهر الأول من الحرب المجال الآن لمرحلة جديدة؛ فمدينة غزة محاطة بالقوات الإسرائيلية، وتقترب القوات البرية والمدرعات من المنطقة التي يقول الجيش الإسرائيلي إنَّ المقر الرئيسي لحركة حماس موجود بها، حيث تتحصن نواة من مقاتليها وقيادتها تحت الأرض.
وإذا تمكن الجيش الإسرائيلي قريباً من تدمير هذه المنشآت وقتل أعداد كبيرة من أعضاء حماس، فإنَّ بعض الضباط يعتقدون أنَّ إسرائيل ستكون قد حققت جزئياً مهمتها المتمثلة في استنزاف قدرة حماس على إدارة غزة. وستنتقل الحرب بعد ذلك إلى حملة محدودة من الغارات البرية.
وهذا يمكن أن يخفف الضغط الدولي، الذي يرتفع في كل مرة تقصف فيها الطائرات الإسرائيلية مخبزاً أو مخيماً للاجئين أو مستشفى، ويخفف الضغط على الاقتصاد من خلال السماح للجيش بالتخلي عن بعض جنود الاحتياط. ويدرك الإسرائيليون أيضاً أنَّ تخفيف الأزمة الإنسانية في غزة قد يكسبهم المزيد من الوقت. ويقول نتنياهو الآن إنه منفتح على "فترات توقف تكتيكية صغيرة، ما بين ساعة هنا، وساعة هناك" للسماح بدخول المزيد من المساعدات.
ومع ذلك، يمكن القول إنَّ التحدي الأكبر الذي يواجه الشرعية الدولية لإسرائيل هو نتنياهو نفسه، وحكومته مليئة بالراديكاليين. فقد اقترح عميحاي إلياهو، وزير التراث، مؤخراً إسقاط قنبلة نووية على غزة.
وعندما التقى وزير الخارجية الأمريكي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله، أخبر عباس بلينكن أنَّ السلطة الفلسطينية، التي تسيطر على أجزاء من الضفة الغربية، يمكن أن تعود إلى غزة لتحكم القطاع بعد الحرب. ومثل هذه النتيجة من شأنها إرضاء الجيش الإسرائيلي والأمريكيين.
لكن عباس أضاف أنَّ ذلك لن يحدث إلا "في إطار حل سياسي شامل"؛ وبعبارة أخرى، اتخاذ خطوة نحو حل الدولتين، الذي أمضى نتنياهو حياته السياسية بأكملها في محاربته. وإذا بقي في منصبه، فلن يدور أي حديث جدي عن نهاية القتال في غزة. وسوف ينفد صبر أمريكا، وستجد إسرائيل أنَّ الحيز المتاح لها للمناورة يزداد ضيقاً، تقول الإيكونوميست.