يبدو رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو مصمماً على مواصلة الحرب على غزة مهما كانت التكلفة، فهل يفقد حليفه جو بايدن، المحاصر بالضغوط داخلياً وخارجياً، صبره؟
كان الرئيس الأمريكي قد أعلن الثلاثاء 7 نوفمبر/تشرين الثاني، أنه طلب من نتنياهو وقفاً مؤقتاً للحرب على قطاع غزة لـ"أسباب إنسانية"، وهو تحول واضح في خطاب بايدن، الذي يدير العدوان الإسرائيلي على القطاع كتفاً بكتف مع نتنياهو منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.
كانت إسرائيل قد شنّت، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
بايدن يطالب بوقف مؤقت للحرب على غزة
زار بايدن إسرائيل لتقديم الدعم المطلق وأرسل حاملات الطائرات وغواصة نووية إلى المنطقة لتزويد إسرائيل بالأسلحة والعتاد، وفي الوقت نفسه "ردع" أي أطراف أخرى، وتحديداً إيران، عن الدخول في الصراع لمساندة المقاومة الفلسطينية.
وظل بايدن يرفض بشكل قاطع أي حديث عن وقف إطلاق النار، متبنياً الموقف الإسرائيلي بشكل متطابق، رغم ما يرتكبه جيش الاحتلال من مجازر بحق المدنيين في قطاع غزة المحاصر، وارتقاء أكثر من 10 آلاف شهيد، نحو 40% منهم من الأطفال.
لكن الغضب الشعبي العارم في المنطقة وحول العالم في الداخل الأمريكي نفسه بدأ يدق ناقوس الخطر بالنسبة للرئيس الأمريكي العجوز، الذي تنتظره انتخابات شرسة للغاية بعد عام من الآن يريد من خلالها الظفر بفترة رئاسية ثانية؛ إذ تعالت الأصوات داخل أروقة الإدارة الأمريكية نفسها مطالبة بموقف أمريكي "أكثر توازناً"، واستقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية وقدم موظفون في الوزارة اعتراضات علنية على الانحياز الأعمى لإسرائيل والتغاضي عما ترتكبه من جرائم "عقاب جماعي" واستهداف متعمد ومتكرر للمدنيين في قطاع غزة.
وهكذا بدأ البيت الأبيض، الذي تشير التقارير الإعلامية والتصريحات العلنية لكبار المسؤولين فيه إلى أن أمريكا توجه انتقادات لإسرائيل خلف الأبواب المغلقة، في الحديث علناً عما وصفه تقرير لصحيفة The Daily Telegraph البريطانية بأنه "إحباط أمريكي من نتنياهو".
وكان متحدث باسم البيت الأبيض قد قال إن بايدن ونتنياهو ناقشا إمكان "التوقف التكتيكي" في القتال بغزة لأسباب إنسانية واحتمال إطلاق سراح الرهائن خلال محادثتهما مساء الإثنين.
كما ذكر تقرير لموقع أكسيوس الإخباري الأمريكي الثلاثاء، نقلاً عن مسؤولين أحدهما أمريكي والآخر إسرائيلي، أن الرئيس الأمريكي أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذات الاتصال الهاتفي بأن وقف القتال لمدة ثلاثة أيام قد يساعد في ضمان إطلاق سراح بعض الرهائن.
وأفاد موقع أكسيوس، نقلاً عن المسؤول الأمريكي، بأنه بموجب اقتراح تجري مناقشته بين الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر، ستطلق حماس سراح أسرى يترواح عددهم بين عشرة و15 شخصاً وتستخدم فترة التوقف للتحقق من هويات جميع الرهائن وتقديم قائمة بأسماء المحتجزين الذين ستطلق سراحهم.
وقال بيان البيت الأبيض إن بايدن ونتنياهو ناقشا "إمكانية التوقف التكتيكي للقتال لإتاحة فرص للمدنيين للمغادرة بأمان من مناطق الصراع المستمر ولضمان وصول المساعدات إلى المدنيين المحتاجين والتمكن من إطلاق سراح الرهائن المحتملين".
ثم أعلن البيت الأبيض الثلاثاء صراحة أن الولايات المتحدة ستعارض إعادة احتلال الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة في مرحلة ما بعد الصراع، وذكر المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي أن إسرائيل والولايات المتحدة صديقتان وليس عليهما الاتفاق على كل قضية.
موقف سلطة عباس من قطاع غزة
يوم الأحد 5 نوفمبر/تشرين الثاني، أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، زيارة مفاجئة لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في الضفة الغربية، وهي خطوة كبيرة بالنسبة لكبير الدبلوماسيين الأمريكيين في خضم الحرب.
ولا يبدو أنَّ الموضوع الرئيسي للمناقشة بين بلينكن وعباس كان وقف إطلاق النار، سواء مؤقتاً أو غير ذلك، بل كان الحديث عن الحكم المستقبلي لقطاع غزة، وهو أمر لم يفكر فيه نتنياهو وائتلافه القومي الديني بشكل واضح، لكن الولايات المتحدة ترغب بشدة في معرفة إجابة هذا السؤال، هذا بطبيعة الحال إذا ما تمكن جيش الاحتلال من القضاء على المقاومة في غزة، وهو ما لا يبدو وارداً حتى الآن.
أراد بلينكن أن يعرف هل ستتولى السلطة الفلسطينية إدارة غزة بمجرد توقف القتال. وأوجز مسؤول أمريكي: "يجب أن تسهم (السلطة) بدور مركزي فيما سيأتي بعد ذلك في غزة"، لكن ما هي وجهة نظر عباس؟ فهل سيكون هو والسلطة الفلسطينية مستعدين للتحرك في ظل الدعم المناسب من الدول العربية المحيطة؟
وجاء الرد بـ"نعم". مع مراعاة الأمر نفسه الذي حاول نتنياهو دائماً تجنبه، ألا وهو إجراء محادثات منظمة حول دولة فلسطينية تكون غزة "جزءاً لا يتجزأ منها".
ونقلت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية عن عباس قوله لبلينكن: "سنتحمل مسؤولياتنا بالكامل في إطار حل سياسي شامل يشمل كامل الضفة الغربية [المحتلة]، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة".
ويعد هذا تحولاً كبيراً بالنسبة لعباس (87 عاماً)، العاجز أصلاً عن منع تعديات المتطرفين الإسرائيليين المستمرة، والعنيفة في كثير من الأحيان، على الأراضي والمواطنين الفلسطينيين.
لكن الواضح هنا هو أن أمريكا تسعى الآن إلى إعادة عباس اللعبة، وهكذا صار نتنياهو من يجد نفسه الآن خاضعاً للعبة "فرّق تسُد". وإذا فشل في الانخراط مع الأمريكيين بشأن مستقبل غزة، فسوف يخسر الدعم الأمريكي ودعم الواقعيين في حكومته الائتلافية الهشة. وإذا قدم ما مقداره "نانومتر واحد" من تنازلات، فإنَّ المتطرفين اليمينيين الذين يعتمد عليهم سوف يسقطونه، وربما يفعلون ما هو أسوأ من ذلك.
فبنيامين نتنياهو لديه تحدياته الخاصة التي تجعله مرتبكاً وغير قادر على تلبية ما يريده ساكن البيت الأبيض. البروفيسور مانويل تراغتنبرغ، المدير التنفيذي لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، قال للصحيفة البريطانية: "نتنياهو الآن عالق بين مطرقة وسندان؛ فهو يرغب في الحفاظ على الائتلاف الحكومي لكنه يمنعه من فعل أية خطوة. ولهذا السبب لم نسمع منه عمّا سيحدث لغزة بعد الحرب".
إلى أين يتجه إحباط أمريكا من إسرائيل؟
في الأيام الأخيرة، ورد أنَّ الإدارة الأمريكية تزداد إحباطاً تجاه القيادة الإسرائيلية. ويتعلق الأمر جزئياً بسير الحرب -إذ يرغب الأمريكيون في رؤية القليل من المشاة وضربات جوية أقل- لكن يتعلق إحباطها أيضاً برفض إسرائيل التفكير فيما سيأتي بعد ذلك.
ويبدو أن ما تفكر فيه إسرائيل لا يعني سوى مزيد من المتاعب، فقد تم تسريب وثيقة استخباراتية إسرائيلية الأسبوع الماضي تبحث في تهجير جماعي لسكان غزة إلى مصر، والأمر نفسه ينطبق على اقتراح وزير التراث عميحاي إلياهو في نهاية هذا الأسبوع بأنَّ إسقاط قنبلة نووية على غزة هو أحد الخيارات المطروحة، أو دعوة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، يوم الإثنين 6 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى إنشاء مناطق "عازلة" محظورة على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
ووصف شخص مطلع على تفكير الإدارة الأمريكية لصحيفة The Washington Post الوضع قائلاً: "كما لو أنهم يشاهدون قطاراً يُسرِع نحو الاصطدام، ولا يمكنهم فعل أي شيء لوقفه. وحطام القطار في غزة، لكن الانفجار في المنطقة بأكملها".
واضطر بلينكن إلى قضاء جزء من جولته الدبلوماسية، التي شملت الأردن والعراق وتركيا بالإضافة إلى الضفة الغربية، في إخماد الحرائق غير الضرورية. إذ ذكرت صحيفة The Jerusalem Post أنَّ بلينكن أخبر عباس، خلال لقائهما في رام الله يوم الأحد 5 نوفمبر/تشرين الثاني، بأنَّ الإدارة الأمريكية تعارض "الترحيل القسري للفلسطينيين من غزة إلى مصر المجاورة". وأضافت الصحيفة أنهما تحدثا أيضاً عن "ضرورة وقف العنف المتطرف ضد الفلسطينيين ومحاسبة المسؤولين عنه".
وقال البروفيسور تراغتنبرغ إنَّ الأمريكيين لن يكونوا قادرين على فرض إنشاء ائتلاف إسرائيلي يكون أكثر قابلية للتغيير، لكن يمكنهم "زيادة فرص حدوث ذلك بدرجة كبيرة".
وأضاف للصحيفة البريطانية: "إنهم يتمتعون بنفوذ حقيقي، ربما للمرة الأولى، ليس فقط فيما يتعلق بالمساعدات المالية التي تبلغ حوالي 4 مليارات دولار سنوياً. بل يسهمون بدور مهم للغاية في الحرب. فنحن نعتمد على أنظمتهم وذخائرهم وعلى قوات الردع في سفنهم. بمعنى أنَّ لهم صوتاً في تحديد ما يحدث".
والسؤال بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي هو: إلى متى سيبقى في مقعده، وما إذا كان عباس، الذي يكبره بثلاثة عشر عاماً، سيتمكن من الاستمرار في منصبه حتى بعد رحيل نتنياهو؟