شهر من القصف الهمجي على غزة، فشلت خلاله إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها العسكرية، فكيف جاءت فاتورة العدوان بشرياً واقتصادياً على أهل القطاع؟
كانت إسرائيل قد شنت، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
فاتورة الخسائر البشرية في غزة
حتى مساء الأحد 5 نوفمبر/تشرين الثاني، تسبب القصف المسعور من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي في استشهاد 9770 فلسطينياً، منهم 4800 طفل و2550 سيدة، وأصيب أكثر من 24 ألفاً آخرين.
تظهر هذه الأرقام المرعبة للفاتورة البشرية بين المدنيين في غزة عمق التضليل الإسرائيلي. فالجيش الإسرائيلي الذي "يعمل وفقاً لأعلى معايير القانون الدولي" كما يزعم نتنياهو، وبدعم عسكري ولوجيستي من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، يقصف قطاع غزة منذ شهر بشكل متواصل. يقصف البنايات السكنية ويهدمها على رؤوس ساكنيها. يقصف المستشفيات والمدارس والملاجئ. يقصف النازحين الفارين من صواريخه ويحولهم إلى أشلاء.
لكن أحداً لا يصدق ما يردده قادة الاحتلال من أكاذيب، فلا مكان آمناً في القطاع، والرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء، ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.
"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل، شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية، على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.
فمنذ أن بدأ العدوان، تستيقظ غزة على يوم جديد من أيام الحرب اللا إنسانية المستمرة على القطاع منذ 31 يوماً، تحول فيها القطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم إلى مساحات من الدمار، يخيم على سمائها بالنهار لون الغبار والدخان الرمادي القاتم، ويصبغ القصف العنيف ليلها بلون النيران، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
الدمار والنيران الناجمة عن الغارات ليس كل ما يمكن رؤيته في غزة، فجنازات الشهداء لا تتوقف، ونزيف دماء الجرحى يسيل في كل مكان، وطوابير المياه والخبز والطعام والدواء توزع عشوائياً في طرق وأزقة محاطة بأكوام الحجارة.
المتحدث باسم وزارة الصحة بقطاع غزة، أشرف القدرة قال، مساء الأحد، إن "70% من ضحايا العدوان (الإسرائيلي) من الأطفال والنساء. تلقينا 2660 بلاغاً عن مفقودين تحت الأنقاض، منهم 1270 طفلاً، منذ بدء العدوان على غزة. استشهد 175 من الكوادر الصحية، وتم تدمير 31 سيارة إسعاف وخروجها عن الخدمة جراء العدوان الإسرائيلي".
وقال القدرة إن "الاحتلال استهدف أكثر من 110 مؤسسة صحية، ما أدى إلى خروج 16 مستشفى عن الخدمة، و32 مركزاً للرعاية الأولية بسبب الاستهداف الإسرائيلي ونفاد الوقود".
ولم ينج من تلك المذابح الإسرائيلية حتى الصحفيين الذين ينقلون ما يجري، فحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة فإن القصف الإسرائيلي خلف 46 قتيلاً من الصحفيين. وقال المكتب الحكومي في بيان إن "الاحتلال يتعمد استهداف الصحفيين بشكل مباشر، ومنهم من استشهد جراء هدم منازلهم فوق رؤوسهم هم وعائلاتهم".
حتى الحجر تستهدفه إسرائيل، إذ بلغ عدد المنازل التي دمرت على رؤوس الصحفيين وعائلاتهم وآلاف الفلسطينيين بقطاع غزة نحو 220 ألف منزل، تضم 40 ألف وحدة سكنية باتت غير صالحة للسكن، وهو رقم يمثل نحو 60% من إجمالي الوحدات بالقطاع.
وهذا ليس كل شيء، فوفق تصريحات سلامة معروف، رئيس المكتب الإعلامي الحكومي بغزة للأناضول، قال إن "الاحتلال الاسرائيلي دمر بشكل كلي 55 مسجداً، إضافة إلى تضرر 112 مسجداً بشكل جزئي. كنيسة القديس برفيريوس، ثالث أقدم كنيسة بالعالم، تعرضت للقصف أيضاً، كما دمرت وتضررت كنيستان أيضاً، بحسب معروف. كما طال القصف الهمجي على غزة 15 مرفقاً صحياً و51 عيادة صحة أولية تم تدميرها بالكامل، فيما تضررت 150 سيارة إسعاف وأغلق 16 مستشفى رئيسي من أصل 35 في القطاع. ونالت المدارس نصيبها من القصف أيضاً بعدد 220 مدرسة، منها 38 تم تدميرها كلياً، حسب بيانات "الإعلام الحكومي".
وتعرضت 42 منشأة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) للتدمير، بما في ذلك أماكن لجأ إليها النازحون من المناطق المدمرة.
5 تحديات تواجه إسرائيل
على الجانب الآخر، رصد تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية أبرز التحديات التي تواجهها دولة الاحتلال مع مرور 30 يوماً على عدوانها على غزة، أو ما توصف عبرياً بالحرب على "حماس".
فبعد مرور 30 يوماً على اختراق المقاومة للاحتلال، تجد إسرائيل نفسها متورطة في صراع لا تلوح له نهاية واضحة في الأفق، بينما تستمر خسائر جيش الاحتلال في الارتفاع، ولا تزال البلاد تحت نيران صواريخ المقاومة، ولا يزال الاحتلال يعاني من صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول.
أما أبرز التحديات التي تواجهها إسرائيل حالياً فتتمثل أولاً في تراجع الدعم الدبلوماسي: ففي اليوم التالي لطوفان الأقصى كان السياسيون من جميع أنحاء العالم الغربي يسارعون إلى الإعلان عن إدانتهم لحماس والتعهد بتقديم الدعم الثابت لدولة إسرائيل. وكانت الرواية الإسرائيلية الكاذبة والقائمة على التضليل تتردد على ألسنة زعماء الغرب، وبخاصة الرئيس الأمريكي جو بايدن والفرنسي ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك ومستشار ألمانيا أولاف شولتس وغيرهم.
لكن بعد مرور 30 يوماً، ومع استمرار إسرائيل في قصفها الهمجي وغير الإنساني على قطاع غزة واستشهاد الآلاف من المدنيين، دون أن يحقق جيش الاحتلال أية إنجازات عسكرية تذكر، بدأ المشهد العالمي في التحول، حتى وإن كان ذلك يحدث ببطء.
إذ بدأ بايدن، الذي كان أول من أدان هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، مناقشات حول "هدنة إنسانية"، وهو الموقف الذي يتعارض مع موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ويتأثر هذا التحول في النهج بالضغوط المتزايدة من الناخبين الأمريكيين، وبخاصة المسلمين، الذين أعربوا عن نيتهم الامتناع عن التصويت في انتخابات عام 2024 بسبب دعم الرئيس القوي لإسرائيل.
ويرجع ذلك أيضاً إلى أنَّ الناخبين الأمريكيين الشباب أكثر تأييداً للفلسطينيين من تأييدهم لإسرائيل. وأظهر استطلاع حديث من مركز الدراسات السياسية الأمريكي التابع لجامعة هارفارد (CAPS/Harris) أنَّ ما يقرب من نصف الشباب (48%) يقولون إنهم يقفون إلى جانب المقاومة الفلسطينية وليس مع الاحتلال الإسرائيلي في هذا الصراع، وتقول النسبة نفسها إنهم يرفضون بشدة سياسة بايدن المؤيدة لإسرائيل. كما تواجه إسرائيل نداءات متكررة من الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية.
انتشار ما يوصف بأنه "معاداة السامية"
كانت هناك زيادة غير مسبوقة بنسبة 1200% في الدعوات عبر الإنترنت للعنف ضد إسرائيل والصهاينة واليهود، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لتقرير صدر الشهر الماضي عن نظام مراقبة معاداة السامية عبر الإنترنت. وحذرت إسرائيل مواطنيها من السفر للخارج، بحسب تقرير الصحيفة العبرية.
لكن من المهم هنا توضيح أن أية انتقادات يتم توجيهها لدولة الاحتلال باتت توصف بأنها معاداة للسامية، وهو ما يرفضه حتى بعض من السياسيين الغربيين والأمريكيين أنفسهم، من أمثال السيناتور الديمقراطي البارز بيرني ساندرز، ناهيك عن أغلب دول العالم وشعوبه الذين تكشفت أمامهم مدى بشاعة جرائم الاحتلال وعمق أكاذيبه ومحاولات قلب الحقائق.
أما التحدي الثالث فهو الصدمة الجماعية العميقة التي أصابت إسرائيل، والتي عبر عنها أحد زعماء المعارضة يائير لابيد نفسه بقوله إن "إسرائيل لم تعد مجتمعاً آمناً ولا يتمتع بالسلطة الأخلاقية". فحتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وجدت دراسة نُشِرَت في مجلة الطب النفسي الدولي أنَّ ما يصل إلى 27% من الأطفال الإسرائيليين اليهود في بعض مناطق البلاد قد شُخِّصوا باضطراب الإجهاد اللاحق للصدمة. وأظهرت دراسة أجرتها جامعة تل أبيب والكلية الأكاديمية والتكنولوجيا في تل حاي عام 2021 أنَّ مستوى المرونة الشخصية بين المواطنين انخفض باستمرار طوال فترة جائحة "كوفيد-19″، واستمر في الانخفاض، وعلى الأخص خلال عملية إسرائيل العسكرية ضد غزة في 2021 المسماة "حارس الجدران".
وكتبت مراسلة الصحة والعلوم في صحيفة The Jerusalem Post جودي سيغل-إيتزكوفيتش هذا الأسبوع: "سيؤثر هذا الصراع بلا شك في الإسرائيليين عاطفياً لعقود وربما لأجيال قادمة؛ ما سيترك بصمة من الصدمة والغضب والحزن، خاصةً على أولئك الذين تأثرت أسرهم وأصدقاؤهم تأثراً مباشراً".
إسرائيل تواجه ركوداً اقتصادياً
توقع اقتصاديون بارزون أنَّ الاقتصاد الإسرائيلي على وشك الانزلاق إلى الركود مع استمرار الصراع واستدعاء أكثر من 360 ألف جندي احتياط من وظائفهم للخدمة العسكرية. ففي الأسبوع الماضي، أصدرت مجموعة من 300 من كبار الاقتصاديين رسالة إلى نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش مع نداء عاجل للتعليق الفوري لجميع النفقات غير الضرورية في ميزانية الدولة، وإعادة تقييم شامل لأولويات الإنفاق لمعالجة الأزمة الاقتصادية الوشيكة بفعالية.
وجاء في الرسالة: "إنَّ الضربة القاسية التي تلقتها إسرائيل.. تتطلب تغييراً جذرياً في ترتيب الأولويات الوطنية وتحويلاً هائلاً للميزانيات لمعالجة الأضرار التي سببتها الحرب، ومساعدة الضحايا، وإعادة تأهيل الاقتصاد".
وراجع بنك إسرائيل الشهر الماضي توقعاته للنمو للعام الحالي والعام التالي، مشيراً إلى أنه من المتوقع الآن أن يتوسع الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 2.3% في عام 2023 و2.8% في 2024، وهو ما يمثل تراجعاً عن التقديرات السابقة البالغة 3% للعامين.
إسرائيل متورطة في حرب لا نهائية
وتعد أبرز التحديات التي تواجه إسرائيل هي عدم قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أي من الأهداف العسكرية، مما يشير إلى أنه لا توجد نهاية واضحة للعدوان. وقال وزير الدفاع يوآف غالانت، مساء السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني، "في نهاية الحرب، لن تكون هناك حماس في غزة". لكن هذه التصريحات تبدو بلا معنى حقيقي.
ففي حين تبدو هذه الفكرة جذابة بالنسبة للاحتلال وداعميه، إلا أنَّ التطبيق العملي لتحقيق هذا الهدف والعواقب المحتملة لا تزال أمورا أقرب للمستحيل. فحماس حركة تحرر وطني متجذرة بعمق في الحياة الاجتماعية والمدنية، ليس فقط في قطاع غزة ولكن بين الفلسطينيين جميعا. وحتى إذا ما نجح القصف والجنون الإسرائيلي المدعوم أمريكيا من تحقيق أي من أهدافه العسكرية تجاه الجناح العسكري للحركة، سيظل تفكيك بنيتها التحتية المدنية أمرا آخر. وأخيراً، إذا فُكِّكَت حماس، فما الذي يضمن ألا ينشط فصيل مقاوم آخر؛ مثل حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية؟
وكما قال مصدر دبلوماسي إسرائيلي كبير يوم الأحد، 5 نوفمبر/تشرين الثاني، من المستبعد أن يكون لإسرائيل سلطة أمنية عليا على غزة حتى لو انتصرت.