"ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية هو أحد الخيارات".. هكذا صرح وزير في حكومة إسرائيل، التي تدك القطاع المحاصر وتسفك دماء المدنيين فيه دون رادع، فكيف جاء رد الغرب "المتحضر" على هذه التصريحات الفاشية؟
وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، قال، الأحد 5 نوفمبر/تشرين الثاني، في مقابلة إذاعية، إن ضرب غزة بقنبلة نووية هو "أحد الخيارات المتاحة"، مضيفاً أن فقدان حياة الأسرى الإسرائيليين هو ثمن "يجب أن تدفعوه"، موجهاً حديثه على ما يبدو إلى عائلات الأسرى.
تصريحات الوزير الإسرائيلي، الذي ينتمي إلى أحد الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي برئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تأتي بعد شهر من القصف الهمجي الذي يشنه جيش الاحتلال على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ضربة نووية على غزة.. كيف ردت إسرائيل؟
على المستوى الرسمي في دولة الاحتلال، سارع نتنياهو إلى "عقاب" الوزير إلياهو، وكان القرار الذي أعلنه مكتب نتنياهو في بيان، بحسب رويترز، هو تعليق مشاركة وزير التراث في اجتماعات مجلس الوزراء "حتى إشعار آخر".
الجدير بالذكر هنا هو أن لا إلياهو ولا زعيم حزبه يشاركان في المجموعة الوزارية المصغرة التي تدير العدوان الهمجي على قطاع غزة. وجاء في بيان مكتب نتنياهو أن "تصريحات إلياهو لا تستند إلى الواقع. إسرائيل وجيش إسرائيل يعملان وفقاً لأعلى معايير القانون الدولي لتفادي إيذاء الأبرياء. سنواصل القيام بذلك حتى انتصارنا".
الجيش الإسرائيلي الذي "يعمل وفقاً لأعلى معايير القانون الدولي" كما يزعم نتنياهو، وبدعم عسكري ولوجيستي من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، يقصف قطاع غزة منذ شهر بشكل متواصل. يقصف البنايات السكنية ويهدمها على رؤوس ساكنيها. يقصف المستشفيات والمدارس والملاجئ. يقصف النازحين الفارين من صواريخه ويحولهم إلى أشلاء.
لكن أحداً لا يصدق ما يردده قادة الاحتلال من أكاذيب، فلا مكان آمناً في القطاع، والرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء، ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.
"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.
أما رد الفعل الإسرائيلي بشكل عام على دعوة الوزير إلياهو، وهو لا يزال وزيراً في الحكومة ولم تتم إقالته على أقل تقدير، فقد تركز على الاستنكار والرفض لضرب غزة بالقنبلة النووية، لكن ليس لأن هكذا خطوة ستقتل 2.3 مليون فلسطيني هم سكان القطاع، وإنما لأسباب أخرى تكشف، مرة أخرى، طبيعة هذا المجتمع.
بيني غانتس، الجنرال السابق المنتمي إلى تيار الوسط والذي انضم من المعارضة إلى نتنياهو المنتمي للتيار المحافظ في مجلس الحرب المصغر، وصف تصريحات إلياهو بأنها "مضرة"، مضيفاً أن "الأسوأ أنها زادت من آلام عائلات الرهائن في الداخل".
"والرهائن" الذين يشير إليهم غانتس وباقي رموز المعارضة والإعلام الإسرائيلي كله هم الأسرى لدى المقاومة في غزة، والذين سيقتلون بطبيعة الحال إذا ما تم تنفيذ سيناريو القنبلة النووية الذي يعتبره الوزير إلياهو "أحد الخيارات" بالفعل.
كيف جاء رد الفعل الغربي؟
إذا كان هذا رد الفعل الإسرائيلي على هذا التصريح، الذي يعد اعترافاً رسمياً بأن دولة الاحتلال تمتلك أسلحة نووية بالفعل، وأنها تفكر في استخدامها بحق الفلسطينيين، فاللافت أيضاً هو رد الفعل الغربي، أو بمعنى أدق الغياب التام لرد الفعل من الأساس، وكأن الاعتراف بامتلاك قنبلة نووية والاستعداد لضرب المدنيين بها أمر "عادي" لا يستحق التعليق.
"مسؤول كبير" بوزارة الخارجية الأمريكية قال لرويترز إنه "واضح أن هذا تصريح مرفوض، ورئيس الوزراء أوضح تماماً أن (إلياهو) لا يتحدث نيابة عن الحكومة. ويبدو أن هذا "المسؤول الكبير" ودفاعه عن تل أبيب وحكومتها كان هو رد الفعل الوحيد الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام الغربية أيضاً وبالكلمات نفسها.
يثير رد الفعل الصامت هذا سؤالاً بديهياً: إلى أين يمكن أن يصل هذا التواطؤ الأمريكي والغربي مع إسرائيل في عدوانها الهمجي وغير الإنساني على قطاع غزة؟ وكيف يتسق هذا التواطؤ مع الموقف الأمريكي المعلن من عدم الرغبة في توسيع "نطاق" العدوان ليشمل أطرافاً أخرى في الشرق الأوسط؟ فهذا الموقف الأمريكي المعلن لم يعد بحاجة إلى تفسير، حيث الهدف هو إطلاق يد الاحتلال ومساعدته عسكرياً وليس سياسياً فقط على "محو" المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من الوجود مهما كان الثمن.
ففي ظل العجز الإسرائيلي والأمريكي الواضح على إلحاق الهزيمة عسكرياً بالمقاومة، رغم مرور شهر ورغم الفوارق الضخمة في العدد والعتاد بين الطرفين، يصبح السؤال المنطقي: هل تصريح ضرب غزة بالقنبلة النووية "مجازي" بالفعل كما زعم صاحبه لاحقاً هرباً من الانتقادات التي طالته بسبب ما يعنيه ذلك لحياة الأسرى الإسرائيليين في القطاع؟
السؤال الآخر هنا هو: هل أصبح التلويح باستخدام الأسلحة النووية أمراً عادياً بالنسبة للغرب؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فكيف يمكن تفسير رد الفعل الهستيري تجاه أية تلميحات روسية باستخدام الأسلحة النووية، منذ اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"؟
بايدن نفسه لم يفوّت أية فرصة لتحذير موسكو من الإقدام على هذه "الجريمة" حتى لو كان الحديث النووي صادراً عن "صحفي أو محلل أو حتى مواطن روسي"، وليس وزيراً في الحكومة، فلماذا "تجاهل" بايدن هذا "الجنون الإسرائيلي" بهذا الشكل؟
نعم، كشف طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي الهمجي، الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 9700 مدني فلسطيني بينهم أكثر من 4800 طفل وإصابة أكثر من 24 ألفاً آخرين خلال شهر، عن مدى عمق ازدواجية المعايير الغربية والأمريكية ومدى التناقض واللاإنسانية في الخطاب السياسي الغربي، لكن أن تصل الأمور إلى حد تجاهل اعتبار "الضربة النووية لغزة أحد الخيارات"، فهو بالتأكيد انحطاط جديد في تلك السياسة، وفتح لأبواب الجحيم على مصراعيها، في المنطقة وحول العالم.
ماذا إذا استمر فشل الاحتلال في "كسر" المقاومة؟
تصدرت تصريحات الوزير الإسرائيلي عناوين الصحف في وسائل الإعلام العربية، وكتب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط عبر منصة التواصل الاجتماعي إكس: "تصريحات الوزير الإسرائيلي إلياهو العنصري كاشفة. فهو ليس فقط يعترف بامتلاكهم سلاحاً نووياً، وهو السر الذي يعرفه الجميع.. لكنه يكرس حقيقة النظرة العنصرية المقيتة للإسرائيليين تجاه الشعب الفلسطيني. هذا هو الوجه الحقيقي لحكومة الاحتلال لكل من يدافع عنها في الغرب".
وقال متحدث باسم حركة حماس إن إلياهو يمثل "الإرهاب الإسرائيلي الإجرامي غير المسبوق الذي يشكل خطراً على المنطقة بأكملها والعالم". وأدانت أغلب الدول العربية، في بيانات صادرة عن كبار دبلوماسييها، تلك التصريحات.
لكن المؤكد هنا هو أن إسرائيل لا تلقي بالاً للتصريحات ولا التنديد، وتواصل إبادتها الجماعية الممنهجة بحق أهالي قطاع غزة، في محاولة يائسة لترميم صورة جيشها الذي تحطمت أسطورته تماماً يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وهو الجيش نفسه الذي يحقق فشلاً ذريعاً على المستوى العسكري، في ظل عدم قدرته على كسر المقاومة أو وقف إطلاق الصواريخ من القطاع أو حتى إنقاذ جنوده وضباطه ومدرعاته ودباباته من القتل والإصابة والتدمير خلال اجتياحه البري للقطاع، والذي بدأ قبل ما يقرب من أسبوعين.
ومن الطبيعي أن يثير هذا الفشل العسكري الإسرائيلي التساؤلات بشأن ما قد يقدم عليه جيش الاحتلال لتحقيق أي من أهدافه المعلنة، خصوصاً أن استمرار المجازر بحق المدنيين في غزة يثير مزيداً من الغضب الشعبي حول العالم، وقد وصل هذا الغضب إلى أسوار البيت الأبيض عندما تظاهر عشرات الآلاف، مساء السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني، في العاصمة الأمريكية واشنطن، مطالبين بوقف العدوان على غزة فوراً.
يستخدم جيش الاحتلال بالفعل كثيراً من الأسلحة المحرمة دولياً، ومنها قذائف الفوسفور الأبيض وقذائف اليورانيوم المنضّب، دون أن ينجح في تحرير أسراه أو الحد من القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية في داخل القطاع المحاصر، فهل يمكن أن تقدم دولة الاحتلال على هذا السيناريو الذي صرّح به الوزير إلياهو؟ ربما يرى البعض أن هذا الاحتمال يبدو مستحيلاً، لكن ألا يعتبر "الصمت الغربي" تشجيعاً للاحتلال المسعور والمنفلت كي يرتكب هذه الجريمة، خصوصاً أنه يرتكبها بالفعل وإن كان بشكل تدريجي؟!