يشهد العالم من أقصاه لأدناه تظاهرات واسعة وجارفة تضامناً مع قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة جماعية من قبل الاحتلال الإسرائيلي مدعوماً بضوء أخضر أمريكي وغربي وتسليح غير مسبوق.
ولا شك في أن الوقوف بوجه عدوان على بلدك أو فصيلك أو الجانب الذي تنتمي إليه له تأثيرات تنتقل أيضاً في موجات واسعة لا يمكن التنبؤ بها عبر المكان والزمان. وغالباً ما يبدو الأمر عديم الجدوى، فكما لا يستطيع أحد أن يدرك النتائج المعقدة لنهاية الحرب، لا يستطيع أحد أن يرى الآثار الدقيقة لمقاومة الحرب عبر ضغط الشارع.
احتجاجات غزة يمكنها إنقاذ الأرواح
يقول الكاتب جون شوارتز في مجلة The Intercept الأمريكية: "إذا كنت تفكر في المشاركة في مظاهرات الغد ضد الهجوم الأمريكي الإسرائيلي على غزة، آمل أن تفعل ذلك. عليك فقط أن تتصالح مع حقيقة أنك قد لا تعرف أبداً ما أنجزته. الحقيقة المروعة هي أنك قد لا تتمكن من إنقاذ حياة أي فلسطيني. ومع ذلك، من المحتمل جداً أن تشارك في إنقاذ حياة شخص ما، رغم أنك لن تعرف أبداً من هو، ورغم أنه لن يعرف أبداً أنه على قيد الحياة بسببك. سيكون هذا هو الحال أيضاً إذا كان الشخص الذي أنقذت حياته هو أنت.
إليكم قصة غريبة عن تأثير التظاهرات في وقت الحروب، خلال الثمانينيات، ساعدت إدارة ريغان في قتل ما يقرب من 200 ألف شخص في جميع أنحاء أمريكا الوسطى من خلال دعم الحكومات الحليفة لنا في السلفادور وغواتيمالا والمتمردين الذين يحاولون إطاحة الحكومة في نيكاراغوا. كان العنف بشعاً بشكل لا يوصف.
كان هذا، بقدر ما يبدو مريراً، نصراً عظيماً لحركات السلام في الولايات المتحدة. لقد أصبح هذا الأمر منسياً الآن، لكن إدارة ريغان تولت السلطة في عام 1981 على أمل شن حرب واسعة النطاق في أمريكا الوسطى. كان هدف أحد فصائل إدارة ريغان هو محاصرة كوبا، والإطاحة بالحكومة الساندينية في نيكاراغوا مباشرةً، وربما استخدام ثقل الجيش الأمريكي بالكامل في إدارة السلفادور.
ومع ذلك، بمجرد أن بدأ الصقور في التعبئة، احتشدت فلول الحركة المناهضة للحرب في فيتنام رداً على ذلك، ولم تنطلق خطط ريغان قط. وكما قال المشاركون في الحركة، فإن القصف الشامل على الطريقة الفيتنامية كان سيكون أسوأ.
إذا سألنا من يمكن أن يكون قد أُنقِذَ بسبب ذلك، فالإجابة مستحيلة، لكن بالنظر إلى الطريقة التي تابعت بها الولايات المتحدة حرب فيتنام، فمن المعقول أن يصل عدد أولئك الذين نجوا من الموت إلى مئات الآلاف أو الملايين.
وقد حدثت ديناميكية مماثلة في عامي 2002 و2003 في الفترة التي سبقت حرب العراق. خرج الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم لمعارضة الحرب وأطلقت عليها صحيفة New York Times الأمريكية، أنها "قوة عظمى أخرى"، أي إضافة إلى الولايات المتحدة نفسها. ثم اندلعت الحرب على أي حال، ومات مئات الآلاف من العراقيين.
لكن ما لم يحدث هو المزيد من الحروب كما يقول جون شوارتز في مجلة The Intercept الأمريكية. ونُقل عن أحد كبار المسؤولين بإدارة جورج دبليو بوش في ذلك الوقت قوله: "يمكن لأي شخص أن يذهب إلى بغداد. الرجال الحقيقيون يذهبون إلى طهران". وليس طهران فقط، إذ كشف ويسلي كلارك، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، في وقت لاحق، أن مسؤولاً عسكرياً أمريكياً كبيراً أخبره عن خطط للتدخل في سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان.
نتائج ضغط الاحتجاجات المتواصل على الحكومات
ونظراً إلى الدمار الذي لحق بالعراق، يشعر العراقيون بعدم الاحترام للأمريكيين، وقد يكون الأمر نفسه صحيحاً في ما يتعلق بغزة. تجاوز عدد الضحايا في غزة 10 آلاف، وفي ظل الوضع الراهن، يبدو من المؤكد أن آلافاً آخرين سيقتلون على يد الجيش الإسرائيلي المدعوم بكل ما يريد من واشنطن.
ومع ذلك، بقدر ما هو مرعب، فمن المرجح أن إسرائيل مقيدة عن قتل مزيد من الناس بسبب الضغط الناتج عن الاحتجاجات في الولايات المتحدة وأوروبا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم. علاوة على ذلك، فإن كثيرين في كتلة السياسة الخارجية الأمريكية يدفعون بحماسة لتوسيع الحرب لتشمل إيران. كلما زادت المعارضة للهجوم على غزة، قل احتمال حدوث ذلك.
ثم هناك سبب آخر يجعل الناس في الولايات المتحدة والدول الحليفة يعارضون الحرب الحالية: المصلحة الذاتية الأكثر مباشرةً وعمقاً.
بعد وقت قصير من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ومقتل ثلاثة آلاف شخص، قال بوش للكونغرس: "إن الأمريكيين يتساءلون: لماذا يكرهوننا؟ إنهم يكرهون ما يرونه هنا في هذه القاعة… إنهم يكرهون حرياتنا". ويدرك الأشخاص الذين يديرون الولايات المتحدة جيداً أن هذا كان هراءً غير معقول.
وكان دافع تنظيم القاعدة هو السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصاً دعم إسرائيل، وليس الاعتراض على حريتنا. والواقع أن أسامة بن لادن قال في بيان له عام 2004، مازحاً: "خلافاً لادعاءات بوش بأننا نكره الحرية… فليخبرنا لماذا لم نهاجم السويد على سبيل المثال".
كيف تتولد كراهية العرب والمسلمين ضد الغرب والأمريكيين؟
إن جزءاً كبيراً من كراهية العرب والمسلمين للسياسة الخارجية الأمريكية ينطوي على دعم أمريكا الذي لا يتزعزع لإسرائيل، بغض النظر عما تفعله. وما كان صحيحاً قبل 22 عاماً يظل صحيحاً اليوم، خاصةً أن العالم الإسلامي يشاهد الرئيس جو بايدن وهو يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالمعنى الحرفي والمجازي. ربما هناك أشخاص يرون هذا ويريدون محاولة قتل المسؤولين الأمريكيين انتقاماً.
مع ذلك، فإن ما يمكن أن يجعل هؤلاء الناس يتوقفون هو أن يشهدون أعداداً كبيرة من الأمريكيين يخرجون ليقولوا لا لبايدن ونتنياهو. في الواقع، وجدت التقارير في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن هذا قد حدث في مظاهرات مناهضة الحرب على العراق. نُقِلَ عن أحد الجهاديين المسلمين البريطانيين قوله: "سترى بوش على شاشة التلفزيون وهو يبني معسكرات التعذيب ويقصف المسلمين، وتعتقد أن أي شيء مبرر لوقف هذا". ولكن بعد أن شاهدت مليوناً من غير المسلمين يحتجون على حرب العراق في لندن، خلصت إلى: "كيف يمكننا شيطنة الأشخاص الذين عارضوا بوضوح العدوان ضد المسلمين؟".
ينطبق الأمر نفسه اليوم بشكل أكبر على الاحتجاجات الكبيرة والمثيرة للإعجاب بشأن غزة والتي قادها على وجه التحديد اليهود الأمريكيون. وقد نُظِّمَت احتجاجاتٌ أصغر حجماً حتى في إسرائيل نفسها للمطالبة بوقف إطلاق النار، وقد تم قمعهم من قبل الدولة بعنف شديد.
إذا كنت ستشارك في الاحتجاجات غداً، فهذا بالضرورة عمل إيماني. لكنك ستُكافَأ على ذلك. ولا يمكن أن يذهب ذلك سُدى. لكننا فقط لا نفهم بالضبط كيف يحدث تأثير ذلك.