من أعلى جدران وأبراج مراقبة يبلغ ارتفاعها 10 أمتار، يتابع الجنود المصريون في سيناء الحرب الجارية في غزة. ويتحرك أكثر من نصف سكان القطاع الساحلي الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة، مع تقدم الدبابات الإسرائيلية داخل القطاع من الشمال والشرق، وتواصل طائراتها الحربية ومدفعيتها قصفه. ويتطلع العديد من الفلسطينيين نحو الحدود مع مصر أملاً في وصول الغذاء والكهرباء والمياه والأمان.
ولم تلقَ الدعوات المصرية لإسرائيل لفتح معبر رفح للسماح بدخول المساعدات الإنسانية آذاناً مصغية إلى حد كبير. ويقول الصليب الأحمر المصري إنَّ 84 شاحنة محملة بالأدوية والأغذية دخلت غزة منذ بدء القتال.
وفي الوقت نفسه، تعمل مصر على تعزيز المنطقة الحدودية بالدبابات والقوات، عاقدة العزم على إبعاد الفلسطينيين، حسبما ورد في صحيفة The Economist البريطانية.
وقال أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري السابق والأمين العام لجامعة الدول العربية: "لن يعاني الفلسطينيون والعرب من نكبة ثانية".
ومع تصاعد القتال، تواجه مصر ثلاثية من المخاوف. أولاً، كيفية إدارة الضغوط المتزايدة لاستيعاب الفلسطينيين. إذ قد يؤدي تدفق اللاجئين من غزة إلى إشعال الصراع في مصر من جديد مع البدو في سيناء وإحياء جماعة الإخوان المسلمين، التي شكّلت لفترة طويلة أكبر تهديد داخلي لعبد الفتاح السيسي، المشير المصري الذي تحول إلى رئيس، حسب قول الصحيفة البريطانية.
ويمكن للمخاوف من عدم الاستقرار أن تلحق الضرر بالاقتصاد المصري المُتعثِر بالفعل. ويُضاف إلى ذلك الشعور بأنَّ رئيسهم يحول بلادهم من دولة ذات ثقل إقليمي إلى مجرد متفرج، حسب الصحيفة.
وقد بدأ بالفعل يشعر بتأثير الأزمة في مصر. إذ يتواجد بدو مصر في سيناء، بجوار غزة، وقد تعرضوا للتهميش منذ فترة طويلة من حكام البلاد. وشن تنظيم داعش الذي يعتقد أن أغلب أعضائه من البدو تمرداً استمر عشر سنوات ضد الحكومة المركزية، وقتل مئات الجنود. ويزعم المسؤولون المصريون أنهم تمكنوا أخيراً من قمع ثورتهم، لكن البدو بدأوا في الاحتجاج مرة أخرى.
وتقول الصحيفة البريطانية إن البعض يتهم السيسي بالتحضير لتنفيذ نسخة جديدة من "صفقة القرن"، وهي خطة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين طرحتها إدارة ترامب، التي تضمنت، بحسب بعض المصادر، توطين بعض الفلسطينيين في سيناء. واليوم هناك شائعات بأنَّ عملية إعادة التوطين هذه قد تحدث في مقابل إعفاء مصر من مبلغ كبير من الديون، وهي خطوة تشتد الحاجة إليها (وتُتداوَل أرقام تتراوح بين 20 إلى 30 مليار دولار)، حسبما ورد في تقرير The Economist.
مصر تقول إن سيناء خط أحمر، ولكن هناك مزاعم عن تهجير للبدو
بيد أنَّ رجال الرئيس المصري يقولون إنَّ هذه الخطة غير قابلة للتنفيذ. ويقول محمد رشاد، الرجل الاستخباراتي المصري السابق، إنَّ سيناء "خط أحمر لا يمكن شراؤه بالمال". ويصر السيسي على أنه سيقاوم "تصفية القضية الفلسطينية". لكن البدو يصرون على أنَّ الحقائق على الأرض تحكي قصة مختلفة، حسب الصحيفة البريطانية.
ويقولون إنَّ السيسي حوّل أراضيهم إلى منطقة عسكرية مغلقة، وأخرج نحو 50 ألف بدوي من منطقة تمتد على بعد 13 كيلومتراً جنوب الحدود، وطوّقها بجدران إسمنتية ونقاط تفتيش عسكرية. ويقول النشطاء البدو إنه بنى مدينة بأكملها –وهي رفح الجديدة– لاستيعاب تدفق الفلسطينيين، لكنه منع المصريين والبدو من العيش هناك. وأوضح أحد الناشطين المحليين: "تعتقل الحكومة أي شخص يحاول العودة. للبدو الحق في العودة أيضاً"، حسبما ورد في تقرير The Economist.
ثم هناك خصوم السيسي القدامى، الحركات الإسلامية. قبل عقد من الزمان، أطاح السيسي بالرئيس المنتخب محمد مرسي المدعوم من الإسلاميين، وسجن عشرات الآلاف من أعضائهم، وطارد الكثيرين في الخارج. لكن مصداقية حماس، وهي فرع من جماعة الإخوان المسلمين، ارتفعت في أجزاء من الشرق الأوسط منذ اخترقت دفاعات إسرائيل واجتاحت مدنها. وإذا تدفق فلسطينيو غزة إلى مصر، فإنَّ ما يقلق السيسي هو أنَّ العديد من أعضاء حماس بينهم سوف يجلبون معهم أيديولوجيتهم، حسب زعم الصحيفة البريطانية.
وقد حذر السيسي بالفعل من أنَّ مخيمات اللاجئين الجديدة في سيناء يمكن أن تكون بمثابة قاعدة لهجمات على إسرائيل. وقد تحصل الحركات الإسلامية التي تعرضت للقمع منذ فترة طويلة في مصر على دفعة أيضاً، كما يتوقع المحللون في القاهرة، مما يعيد تنشيط مفاهيم "المقاومة" ضد الظالمين، بما في ذلك السيسي. ويقول أحمد عبودة، المستشار في شؤون مصر في تشاتام هاوس، وهي مؤسسة بحثية مقرها لندن: "يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تستعيد شرعيتها"، حسبما نقلت عنه The Economist.
المتظاهرون في الشارع لأول مرة منذ سنوات
إضافة إلى ذلك، تقترب المشكلات أيضاً من القاهرة. حتى الآن كانت الاحتجاجات ضد القصف الإسرائيلي لغزة أصغر في المدن العربية منها في الغرب. وتشعر السلطات المصرية بالقلق من عواقب الاضطرابات واسعة النطاق. وعززت القوات الأمنية تواجدها.
ومع ذلك، وبعد عقد من الهدوء، أعادت القضية الفلسطينية بعض المصريين إلى شوارع القاهرة. وكما هو الحال في الضفة الغربية والأردن، يخشى المسؤولون من أن تتحول احتجاجات دعم الفلسطينيين إلى معارضة النظام. وبعد صلاة الجمعة في مصر يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر، تحولت هتافات "فلسطين حرة" إلى صرخات من أجل "رغيف الخبز". وتجاوز المتظاهرون الأعداد الكبيرة من رجال الشرطة لدخول ميدان التحرير، قلب الثورة المصرية في عام 2011. واعُتقِل العشرات من المتظاهرين. لكنها مسألة وقت فقط قبل أن تحتشد المزيد من الاحتجاجات.
الاقتصاد الضعيف قد يتعرض لمزيد من الأزمات
وقد تضر الاضطرابات الإقليمية أيضاً بالاقتصاد المصري المُحاصَر. وحذر صندوق النقد الدولي من أنَّ الحرب قد تثير قلق المستثمرين الأجانب وخفض مرة أخرى توقعات النمو في البلاد. وكانت السياحة مزدهرة، لكن الحركة الجوية إلى مصر في أكتوبر/تشرين الأول انخفضت بمقدار الربع على أساس سنوي عن العام الماضي. وفي السوق السوداء، يواصل الجنيه المصري تراجعه الطويل مقابل الدولار.
وفي الوقت الحالي، يحاول السيسي تهدئة شعبه. ويقول البعض إنه بدأ بالفعل حملته الانتخابية، قبل الانتخابات المقررة في ديسمبر/كانون الأول. وفي خطاباته المثيرة أمام قواته المسلحة، وصف فلسطين بأنها "القضية الأهم في منطقتنا"، وحذر من أنَّ الحرب قد تُعرِّض السلام القائم بين مصر وإسرائيل للخطر. لكن إذا اكتفى السيسي بموقف المتفرج من الحرب على غزة، فإنَّ هذه الحرب قد تؤدي إلى إضعاف صورته كرجل قوي.
وامتنع السيسي عن الرد عندما أُصيِب جنود مصريون في غارة قرب معبر رفح وصفتها إسرائيل بأنها حادثة. كما أحجم عن إرسال المساعدات عبر الحدود إلى غزة، وقَبِل بدلاً من ذلك بالقيود المشددة التي فرضتها إسرائيل على التدفق. ويبدو أنَّ المسؤولين المصريين غير راغبين في فعل أي شيء من شأنه تهديد معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل منذ 44 عاماً، وتوفير المساعدات العسكرية الأمريكية التي تضمنها، حسب الصحيفة البريطانية.
ومع عزوف مصر عن الانخراط، يبدو موقفها في المنطقة ضعيفاً. وصارت قطر الآن الراعي الرئيسي لحماس وغزة. وقادت الإمارة الخليجية الصغيرة المفاوضات بشأن إطلاق سراح الرهائن. إضافة إلى ذلك، عرّضت الإمارات العربية المتحدة دور مصر للخطر باعتبارها المحاور الرئيسي للعالم العربي مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، فقدت مصر الكثير من ثقلها الدبلوماسي السابق. ولم تسفر "قمة السلام" التي نظمتها في 21 أكتوبر/تشرين الأول عن شيء، بعد رفض المشاركين الغربيين لدعوات وقف إطلاق النار.
ومع ذلك، لا يزال البعض يعتقد أنَّ مصر يمكن أن تسهم بدور في القضية. ومع احتمال سيطرة الجيش الإسرائيلي على شمال غزة، الذي صار خالياً إلى حد كبير من سكانه، يشير دبلوماسيون غربيون إلى أنَّ الدول العربية، بما في ذلك مصر، قد تتولى المسؤولية عن الأزمة الإنسانية في جنوب القطاع على المدى المتوسط. ويناقشون أيضاً ما إذا كانت دول الخليج قد تُموِّل مجموعة من وكالات الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام بقيادة مصر لملء الفراغ الذي قد يحدث إذا تحقق هدف إسرائيل بانهيار حكم حماس.
لكن يبدو أنَّ مصر ليست في عجلة من أمرها للانجرار إلى مستنقع غزة في الوقت الذي تواجه فيه الكثير من المشكلات في الداخل.