كشفت تغريدة من جملتين لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي عن حجم المعضلة الحادة التي تواجهها إسرائيل والغرب في تعاملهما مع قطر، الدولة التي فرضت نفسها كوسيط في مختلف الصراعات حول العالم، بدايةً من الخرطوم ووصولاً إلى كابول. إذ كتب تساحي هنغبي: "يسرني القول إن قطر صارت طرفاً أساسياً وصاحبة مصلحة رئيسية في تسهيل الحلول الإنسانية. وجهود قطر الدبلوماسية حاسمةٌ في هذا الوقت".
ارتباك إسرائيلي من جهود قطر في الحرب الأخيرة على غزة
تقول صحيفة Financial Times البريطانية، إن قطر تستخدم دفتر اتصالاتها الدبلوماسية الضخم للتوسُّط لدى حماس من أجل إطلاق سراح أكثر من 200 أسير إسرائيلي، الذين أسرتهم المقاومة الفلسطينية عندما ضربت إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري. ولا يُغرِّد هنغبي كثيراً، لكنه فعل هذه المرة وكتب تغريدته بالإنجليزية وليس العبرية، حتى يضمن أن تكون الرسالة مفهومةً على نطاقٍ واسع.
وقد فسّر البعض تصريحاته ببساطةٍ على أنها تلميح إلى الشائعات حول الإفراج الوشيك عن 50 أسيراً، وهي وجهة النظر التي تدعمها التصريحات المتفائلة الصادرة عن الدبلوماسيين القطريين. بينما رأى البعض الآخر في التغريدة مؤشراً على شعور هنغبي بضرورة استدراك الهجوم الدبلوماسي الصادر عن وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي استغل منصة مجلس الأمن في نيويورك لانتقاد قطر قائلاً إنها "تُموِّل وتؤوي قادة حماس".
فيما رأت مجموعة ثالثة أن التغريدة تمثل شكلاً من أشكال "الإهانة الوطنية"، لأن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي انبطح أمام الدولة التي تدعم الحكم الفلسطيني في غزة، والتي تتفاوض الآن من أجل إصلاح بعض الأضرار التي تورَّط فيها وكلاؤها.
إذ قال جوناثان شانزر، من مؤسسة Foundation for the Defense of Democracies: "هذا أكثر تصريح مقلق قرأته من مسؤول إسرائيلي منذ بداية هذه الحرب. قطر هي دولة راعية لحماس ومعادية لإسرائيل (حتى نكون واضحين)، وتحاول التأثير على توقيت المناورات البرية الإسرائيلية في غزة"، حسب تعبيره.
هل تنجح قطر بكبح جماح الحرب على غزة؟
تقول صحيفة Financial Times البريطانية إن الأنظار في جميع الأحوال تتجه إلى دور قطر المحوري باعتبارها النسخة الخليجية من الأمم المتحدة، وكذلك دوافعها، وطرق عملها، ومدى نجاح جهودها على مدار الأعوام الـ20 الماضية. ومن المرجح أن تكون قطر أقل انشغالاً بالنقاش الدائر داخل إسرائيل، وأكثر اهتماماً بإيجاد أصداءٍ لجهودها داخل صفوف إدارة بايدن.
حيث تستضيف قطر قاعدة عسكرية أمريكية أمامية في العديد، كما حصلت على وضعية "الحليف الكبير من خارج دول الناتو"، وذلك بفضل عملها في مساعدة أفراد الخدمة الأمريكيين واللاجئين الأفغان على الفرار من طالبان.
لكن قطر تواجه معضلة اليوم وهي تحاول تقديم نفسها كوسيط أمام العالم. وتتمثل المعضلة في أنها لم تعد مجرد دولة متحالفة مع القوى التي لم يعد بإمكان الولايات المتحدة التساهل معها -بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول-، بل صارت دولةً شديد القرب من تلك القوى أيضاً.
وتلعب قطر لعبة الوساطة منذ أكثر من 20 عاماً. ومن الواضح لقطر أن صورتها لن تتعرض لأية أضرار إذا قدمت نفسها كصانعة للسلام وكدولةٍ محايدة تحل المشكلات، كما تفعل سويسرا والنرويج. وهناك دول أخرى تفعل الشيء ذاته في الشرق الأوسط، ومنها عُمان التي تستضيف محادثات الوساطة بعيداً عن الأضواء المُفسدة في كثيرٍ من الأحيان. وتلعب الكويت أيضاً دور المعالج النفسي حين يقع الخلاف بين الدول الخليجية، كما فعلت أثناء الخلاف السعودي مع قطر بين عامي 2017 و2020.
لكن قطر تظل الوسيط الأبرز في المنطقة. إذ تفضّل قطر أن تكون مفيدةً وتُظهر قيمتها للقوى الكبرى المحيطة، سواء من خلال المساهمة في حل الحروب الأهلية أم إطلاق سراح الرهائن.
التحدي الأكبر هو نجاح قطر في عقد صفقة تبادل للأسرى بين حماس وإسرائيل
وبحسب الصحيفة الأمريكية، تواجه قطر اليوم أكبر اختباراتها. فإذا نجحت في تأمين إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين من غزة بالثمن الذي ستكون إسرائيل مستعدةً لدفعه مهما كان كبيراً؛ فسوف يصعد نجم قطر في المنطقة. لكن حسم مصير الأسرى لا يمكن أن يأتي بشكلٍ منفرد، بل يجب أن يكون جزءاً من صفقةٍ أوسع نطاقاً.
حيث تُدرك قطر -بصفتها مدافعةً عن القضية الفلسطينية- أن تحرير الأسرى، ربما يترك غزة مفتوحةً على مصراعيها أمام الغزو البري الإسرائيلي. وإذا انهارت مفاوضات الأسرى بالكامل، فإن مزاعم قطر بأنها قررت استضافة جناح حماس السياسي لعقد كامل بهدف إبقاء النفوذ وخطوط الاتصال مفتوحة ستبدو غير مقنعة، بحسب الفاينانشيال تايمز.
وتؤكد قطر أن مفاوضي طالبان حصلوا على مكاتب في الدوحة باقتراح من الأمريكيين، وكذلك هو حال مسؤولي حماس الذين انتقلوا من دمشق إلى قطر بموافقة أمريكية عام 2012 بعد أن دخلت سوريا في حرب أهلية.
المبررات الغربية التي سمحت بالتعامل مع حماس
بالنسبة لأولئك الذين يقولون إنه ما كان يجب على قطر التعامل مع حماس من الأساس، فتجدر الإشارة إلى أن العديد من الأصوات الغربية المحترمة أعلنت تفضيلها للتعامل مع حماس، وذلك في أعقاب فوز الأخيرة في انتخابات غزة عام 2006 بشكل ديمقراطي.
حيث حذرت تلك الأصوات من أن حماس ليست أسوأ الكيانات الموجودة، بما في ذلك وزير الخارجية الأسبق كولين باول ومدير الموساد الأسبق إفرايم هليفي ورئيس وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية الأسبق مايكل فلين. حيث قال فلين: "إذا تم تدمير حماس والقضاء عليها، فمن المرجح أن ينتهي بنا المطاف إلى جماعةٍ أسوأ بكثير"، وهو التلميح الذي يُشير إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
بينما دعم توني بلير، كمبعوث للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط، دعوة إسرائيل لمقاطعة حماس عام 2006. لكنه عاد بعد عقدٍ كامل ليعترف بأنه ارتكب خطأً، وقال: "كان يجب أن نسحبهم للحوار".
وفي الدوحة عام 2017، أعلنت حركة حماس عن مجموعة من المبادئ التي قرّبت الحركة من قبول إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، بعد أربع سنوات من النقاش وبتشجيع قطري، ما ساعد في تقارب وجهات نظر حماس مع مصر أكثر من إيران.
ومع ذلك كان موقف إسرائيل متناقضاً فيما يتعلق بالتقارب بين قطر وحماس. إذ أعجبها تقديم قطر للتمويل اللازم من أجل منع وصول غزة إلى نقطة الغليان على سبيل المثال. لكن العلاقات بين البلدين تتدهور منذ سنوات. حيث رفض أمير قطر الحالي، تميم بن حمد آل ثاني، الانضمام إلى مسار التطبيع مع إسرائيل الذي سلكه بعض شركائه الخليجيين.
فيما تحوّل محمد العمادي، مبعوث قطر إلى غزة ورئيس لجنة إعادة إعمار غزة، إلى نقطة اتصال رئيسية بين إسرائيل وحماس منذ عام 2012. ويقول إن رسالته الأساسية كانت محاولة إقناع الطرفين بالاتفاق على وقف إطلاق نار طويل الأمد، بحيث يمتد إلى 5 أو 10 سنوات، ويتضمن رفع إسرائيل لحصارها. أما رسالة قطر الأساسية الأخرى فهي الوحدة الفلسطينية.
"قطر تريد إنقاذ حماس"
من ناحية اقتصادية فإن حجم الأموال التي ضختها قطر في غزة على وجه التحديد غير معروف، قبل أن يُعاد تدمير البنايات وتشييدها مرةً أخرى. لكن قطر نفسها تُقدِّر أن الرقم يصل إلى 2.55 مليار دولار. ورغم كل هذا السخاء، سنجد أن متوسط دخل الفرد الفلسطيني عام 2022 لم يتجاوز نسبة الـ8% من دخل نظيره الإسرائيلي.
وبعد هجوم حماس مطلع الشهر الجاري، شعر الإسرائيليون الذين أدانوا دعم قطر لحماس بأنهم على حق. حيث خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت ليقول في الأسبوع الجاري: "يتمثل هدف إسرائيل المُعلن في تدمير حماس. أما هدف قطر فهو العكس تماماً: حيث تريد "إنقاذ حماس".
وتوقّع بينيت أن قطر "ستُقدم صفقات رهائن محدودة كل بضعة أيام لإرباك إسرائيل وعرقلة جهودها للقضاء على حماس" حسب تعبيره. ويُشير منتقدو قطر إلى أن إدانتها الصريحة لإسرائيل بعد هجوم حماس هي مؤشر واضح على سياساتها.
لكن الدكتور كريستيان أولريشسن، زميل أبحاث الشرق الأوسط في Baker Institute for Public Policy، قال إن نجاح الإفراج عن 4 رهائن أظهر احتفاظ قطر بالقدرة على التعامل مع حماس.
ثم أضاف: "سيتمثل التحدي فيما سيحدث لاحقاً، سواء بعد حل أزمة الرهائن أو شن إسرائيل لغزوها البري على غزة، لأنه من الصعب على إسرائيل أن تعود للوضع الراهن السابق قبل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بالنظر إلى حجم ونطاق هجوم حماس".
وأردف: "هناك عمقٌ في وزارة الشؤون الخارجية القطرية يحتوي على عدد من المبعوثين المختصين بإعادة الإعمار والوساطة وحل الصراع في غزة. وتمثل هذه الأوقات اختباراً لاستراتيجية قطر القائمة على تطوير علاقات فعالة مع عدد من الجماعات والحفاظ عليها، حتى تتمكن من تقديم نفسها كوسيط بين الأطراف التي لا يمكن التفاعل معها بشكلٍ مباشر".
وقد سُئِلَ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الـ13 من أكتوبر/تشرين الأول عما إذا كان قد ضغط على قطر لإغلاق مكتب حماس السياسي في الدوحة. وتفادى بلينكن الإجابة عن السؤال، لكنه قال: "لم يعد بالإمكان أن تعود المياه إلى مجاريها مع حماس". ولم يتضح ما سعينيه ذلك تحديداً بالنسبة لحماس وقطر حتى الآن.