تواصل إسرائيل العدوان على قطاع غزة، وسط تزايد الغضب والتنديد الإقليمي والعالمي بما ترتكبه من جرائم بحق المدنيين، لكن ماذا عن الضفة الغربية المحتلة؟
وكانت إسرائيل قد أعلنت، منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول"، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، وحشدت جيشها لاجتياح القطاع برياً من أجل تنفيذ هذا الهدف.
"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ماذا يحدث في الضفة الغربية؟
شهدت مدن وبلدات الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما يمكن وصفه بحالة "هستيريا العنف المنفلت" من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، جيشاً وشرطة ومستوطنين، علماً بأن العنف في الضفة والقدس كان العنوان الأبرز هذا العام، وحتى قبل عملية "طوفان الأقصى" العسكرية في غلاف غزة.
فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، يشنّ الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية المحتلة طالت نحو 2000 فلسطيني، بحسب مؤسسات معنية بشؤون الأسرى. كما يقوم جيش الاحتلال بمداهمات يومية لمدن ومخيمات الضفة ويشتبك مع التظاهرات السلمية الداعمة لقطاع غزة.
واقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي، ليل الأحد/الإثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مدينة جنين ومخيمها، واندلعت مواجهات نتج عنها استشهاد 4 وإصابة 9 فلسطينيين بالرصاص الحي. وقالت مصادر طبية في مستشفى خليل سليمان، الحكومي في جنين، لوكالة الأناضول، إن "4 فلسطينيين استشهدوا الليلة وفجراً، خلال مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة جنين"، وأوضحوا أن جرافات إسرائيلية هدمت الجدران الخارجية لمستشفى خليل سليمان الحكومي.
وقال شهود عيان إن "قوات الاحتلال اقتحمت مدينة جنين بأكثر من 100 مركبة عسكرية من عدة محاور، برفقة جرافتين عسكريتين، وتحاصر محيط مستشفى ابن سينا، بالتزامن مع تحليق طائرة استطلاع مسيرة فوق المدينة". وأضافوا أن "القوات نشرت قناصتها على أسطح البنايات المحيطة بمستشفى ابن سينا، وأطلقت الرصاص الحي بشكل كثيف صوب المواطنين".
كذلك استهدفت قوات الاحتلال المحول الكهربائي في محيط مستشفى جنين الحكومي بالرصاص الحي، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء عن محيط المستشفى، كما دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي أيضاً شوارع وهدم النصب الرئيسي لمدخل مخيم جنين، وفجّر محالات تجارية، وحطّم عدداً من مركبات المواطنين، كما استولت قوات الاحتلال على مركبتين.
واقتحمت قوة إسرائيلية مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، وشرعت بمداهمة عدد من منازلها واعتقلت 6 مواطنين على الأقل، وقال شهود إن من بين المعتقلين أيضاً الصحفي نواف العامر.
وقبل أيام قام جيش الاحتلال بتخريب جدارية ونصب تذكاري باسم الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي تعرضت للاغتيال برصاص الاحتلال في جنين في مايو/أيار 2022، كما جرفت الجرافات الإسرائيلية الشارع الذي يحمل اسم مراسلة قناة الجزيرة الراحلة.
وهناك عدة نقاط تم رصدها في تعامل جيش الاحتلال مع الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة:
– كان جيش الاحتلال، قبل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، يستخدم الرصاص المطاطي في تفريق التظاهرات الفلسطينية، لكنه أصبح يستخدم الرصاص الحي والإصابات المسجلة جميعها تكون في الأجزاء العلوية من الجسد، إما في الرأس أو الصدر، وهو مؤشر واضح على أن الهدف هو القتل.
– منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت قوات الاحتلال في تجريف الشوارع وتخريب النصب التذكارية وإزالة الأشجار وتطبيق سياسة الأرض المحروقة، في رسالة "إرهاب" واضحة" لجميع الفلسطينيين في الضفة والقدس الشرقية.
حكومة نتنياهو ومخطط ضم الضفة
هذه الصورة القاتمة لما تشهده الضفة الغربية من ممارسات إجرامية بحق الفلسطينيين هناك تؤكد على واحدة من أبرز اللحظات الفارقة في قصة الوصول إلى "طوفان الأقصى" من الأساس.
شكّل بنيامين نتنياهو الحكومة الحالية في إسرائيل، يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2022، ولها جدول أعمال معلن وغير سري، وهو جدول أعمال متسق مع الكثير من تطلعات وطموحات شركاء هذا الائتلاف الحكومي الأيديولوجية، وبصفة خاصة الأحزاب الحريدية وتحالف الصهيونية الدينية والأحزاب الممثلة للمستوطنات غير الشرعية، وجميعها تسعى إلى ترسيخ مبدأ "يهودية الدولة"، على حساب أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وذلك في جميع أراضي فلسطين التاريخية.
فعلى الرغم من الخلافات بين هذه الأحزاب على المناصب الوزارية، وتوزيع الصلاحيات الأمنية والمدنية، فإنها اتفقت فيما بينها على أمر واحد معلن وغير سري أيضاً، ألا وهو قمع الفلسطينيين مع تعزيز الهُوية "اليهودية والقومية" لدولة إسرائيل.
وقبل أن تكمل تلك الحكومة شهرها الأول أزعجت قراراتها وقمعها المستمر للفلسطينيين البيتَ الأبيض نفسه، ونشرت صحيفة The New York Times تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعُد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، ووضع الحكومة الاستيطان في طليعة ملفاتها.
تسبَّب الاعتداء المتكرر على المسجد الأقصى، وسياسة التهجير والقمع في الضفة الغربية المحتلة، وإطلاق يد جنود وشرطة الاحتلال والمستوطنين في التنكيل بالفلسطينيين في اقتراب الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
زار بلينكن المنطقة لتوجيه رسالة إلى نتنياهو وحكومته، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، وأعلن بلينكن عن "ضرورة عدم اتخاذ تل أبيب أي إجراءات من شأنها التأثير على حل الدولتين"، وتحدث تحديداً عن ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. غادر بلينكن، وبعد أقل من أسبوعين، أعلنت حكومة نتنياهو منح تصريحات بأثر رجعي لبؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح ببناء وحدات استيطانية جديدة.
وكان الكاتب الإسرائيلي، يريف أوفنهيمر، قد نشر مقالة في موقع Ice كتب فيها، قبل أن تتولى الحكومة الأكثر تطرفاً المسؤولية بالفعل، إن حكومة نتنياهو القادمة ستطبق شعار "الموت للعرب"، وذلك من خلال منح جنود الاحتلال حرية مطلقة لقتل الفلسطينيين، والمقصود هنا هو أنه رغم أن الحكومات السابقة كانت تفعل ذلك أيضاً، فإن أحزاب حكومة نتنياهو معنية بتقنين القتل على الهوية القومية.
بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية في الحكومة التي وصفها كاتب أمريكي شهير هو توماس فريدمان بأنها "الأكثر تطرفاً دينياً وقومياً"، طالب علناً بـ"إبادة" قرية حوارة الفلسطينية، الواقعة في الضفة الغربية المحتلة. ولم يمر يوم تقريباً إلا وارتقى شهيد فلسطيني أو أكثر برصاص الاحتلال- سواء من جنوده أو شرطته أو مستوطنيه- في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، وفي قطاع غزة المحاصر.
كما استشهد 38 طفلاً فلسطينياً في الضفة الغربية المحتلة برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر التسعة الأولى من 2023 (تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيةOCHA)، وفي عام 2022، استشهد 35 طفلاً فلسطينياً بنفس الرصاص، طبقاً للتقرير ذاته.
إطلاق يد المستوطنين
وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، والهادف بشكل واضح إلى إيقاع أكبر عدد ممكن من الشهداء وتدمير القطاع بشكل كامل، تتواصل اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية وتتسارع سياسة التهجير هناك.
وفي هذا السياق، أجبر 200 من الفلسطينيين في خربة وادي السيق شرق مدينة رام الله على إخلاء أراضيهم في الضفة الغربية يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر، ولجأوا إلى قرية الطيبة القريبة بعد أن أمهلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي ساعة واحدة لتركها، فيما قدم عشرات المستوطنين يرافقهم شرطيون وجنود إسرائيليون إلى القرية، بحسب تقرير لموقع فرانس24 الفرنسي.
ترك الفلسطينيون منازلهم وغادروها سيراً على الأقدام مع ماشيتهم، ووصل العشرات من المستوطنين إلى القرية، بعد رفض جيش الاحتلال الاستجابة لعدة طلبات قدمت لتأجيل الإخلاء. أبو بشار، وهو أحد اللاجئين مع عشرات العائلات إلى الطيبة وسط الضفة الغربية، أكد للموقع الفرنسي: "ندفع ثمن ما يحدث (في غزة)".
أما علياء مليحات التي تقطن قرية المعرجات البدوية بين رام الله وأريحا فتؤكد "لم نعد ننام، هذا كابوس"، وتخشى مليحات على سكان قريتها من التهجير. وتقول "منذ بداية الحرب أصبحنا نرى المستوطنين يحملون المزيد من الأسلحة (…) الأمر صعب جداً"، وتضيف: "نسأل أنفسنا ماذا سيحدث (…) نعيش نكبة ثانية بسبب المستوطنين والجيش" في إشارة إلى النكبة الفلسطينية في 1948، "ليس لديَّ مكان آخر أذهب إليه.. دمروا كل شيء".
وبعد أسبوع على طردهم، سمح الجيش للسكان بالعودة لجمع أمتعتهم، لكن عند وصولهم وجدوا كل شيء مدمراً، ويقول أبو بشار: "دمروا كل شيء (…) أكياس علف الحيوانات مرمية على الأرض".
ورصدت وكالة الأنباء الفرنسية منازل منهوبة وخزائن ملابس فارغة وأسرَّة أطفال محطمة وستائر ممزقة وأوراقاً وأحذية وألعاباً متناثرة على الأرض. وأشار طاقم الوكالة إلى وجود سيارات مدنية في الخربة وحولها وقد رفع العلم الإسرائيلي على عدد منها.
الناشط الإسرائيلي في مجال حقوق الإنسان، غاي هيرشفيلد، أكد لوكالة الأنباء الفرنسية أن المستوطنين يكثفون جهودهم لطرد الفلسطينيين من أراضيهم منذ بداية الحرب على غزة: "يستغل المستوطنون الحرب لإنهاء تطهير المنطقة (ج) من غير اليهود" في إشارة إلى الأراضي المصنفة (ج) أو (سي) وفق اتفاقية أوسلو الموقعة في 1993 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إذ تشكل تلك الأراضي 61% من أراضي الضفة الغربية.
ويبدو أن العربدة التي تمارسها إسرائيل في الضفة سببت "قلقاً" لدى أبرز داعميها الغربيين، الرئيس الأمريكي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون. فقد قالت وزارة الخارجية الفرنسية، الأحد، إن هناك حاجة لوقف عنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة والذي تسبب في مقتل وتشريد العديد من المدنيين الفلسطينيين في الأيام القليلة الماضية. وأضافت الوزارة في بيان: "فرنسا تطالب السلطات الإسرائيلية باتخاذ إجراءات عاجلة لحماية السكان الفلسطينيين".
وهناك في واشنطن، قال جيك سوليفان، المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض: "من غير المقبول تماماً ممارسة العنف من المستوطنين ضد الأبرياء في الضفة الغربية"، مضيفاً أن "أمريكا تعتقد أن نتنياهو مسؤول عن كبح جماح المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية".