أعلنت إسرائيل دخول حربها على غزة "المرحلة الثانية"، فماذا يعني ذلك؟ ولماذا تراجعت قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية عن "الاجتياح البري"؟
كانت إسرائيل قد أعلنت، منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول"، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي وحشدت جيشها لاجتياح القطاع برياً من أجل تنفيذ هذا الهدف.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
إسرائيل تواصل استهداف المدنيين في غزة
قطعت إسرائيل الاتصالات والإنترنت بشكل كامل عن قطاع غزة وعزلته تماماً عن العالم، وأعلن وزير الدفاع يوآف غالانت، السبت 28 أكتوبر/تشرين الأول، أن "مرحلة جديدة في الحرب" على حركة حماس في قطاع غزة قد بدأت، وذلك بعد 22 يوماً من القصف الهمجي المتواصل للقطاع المحاصر، أدى إلى ارتقاء أكثر من 8 آلاف شهيد، ما يقرب من نصفهم من الأطفال.
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد حشد الدبابات والقوات البرية على تخوم القطاع، وواصل هجماته المدفعية المكثفة والقصف الجوي على مختلف أنحاء القطاع، تمهيداً "لاجتياح بري شامل"، هدفه القضاء تماماً على المقاومة الفلسطينية المسلحة هناك، بحسب تقرير لمجلة The Foreign Policy الأمريكية.
ووجه جيش الاحتلال تهديدات متكررة لسكان القطاع، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم والبالغ عددهم أكثر من 2.3 مليون نسمة، بإخلاء شمال القطاع والتوجه نحو الجنوب، وهو ما عاد وأكد عليه، الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول، حيث قال الجيش الإسرائيلي إن دعواته للفلسطينيين في قطاع غزة للتوجه إلى الجنوب بعيداً عن مركز الحرب على حماس صارت الآن أمراً ملحاً.
وقال الأميرال دانيال هاغاري المتحدث باسم الجيش: "على مدى الأسبوعين الماضيين، كنا ندعو سكان شمال قطاع غزة ومدينة غزة إلى الانتقال جنوباً مؤقتاً.. من أجل سلامتهم الشخصية"، وأضاف: "نؤكد اليوم أن هذا نداء عاجل".
لكن أحداً لم يعد يصدق ما يردده قادة الاحتلال من أكاذيب، فلا مكان آمناً في القطاع، والرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء، ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.
"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.
الدكتور يوسف العقاد، مدير مستشفى غزة الأوروبي الذي يقع في جنوب غزة، قال لصحيفة نيويورك تايمز إن الضربات الإسرائيلية "محاولة لإشباع غريزة الثأر وشهوة الانتقام داخل المجتمع الإسرائيلي بزيادة أعداد الشهداء إلى درجات غير مسبوقة".
الاجتياح الشامل.. كابوس "تهرب" منه إسرائيل
قطع إسرائيل الشامل للاتصالات والإنترنت عن غزة السبت 28 أكتوبر/تشرين الأول كان إيذاناً بما سمته إسرائيل "المرحلة الثانية" من الحرب على القطاع، ولوحظ تخلي بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، ووزير دفاعه وقادة جيشه عن "الاجتياح البري الشامل".
ولا يُعرف بعد الموعد الرسمي لهذه العملية التي أعلن عنها جيش الاحتلال، لكن إسرائيل تعمل باطراد على زيادة توغلاتها البرية في غزة، وتشن غارات على القطاع، وتقطع الاتصالات السلكية واللاسلكية هناك.
ومنذ أن بدأت إسرائيل في التحول من نهج الاعتماد الكامل على القصف الجوي الهمجي والمتواصل إلى نهجٍ يشمل الاستعانة بالقوات البرية، وكما كان متوقعاً تواجه قوات الاحتلال تحديات جمة ومعضلات يتعلق بعضها بالأخطار التي تُحدق بقوات الاحتلال الإسرائيلية، وبعضها بصعوبة بلوغ الأهداف الاستراتيجية للمعركة، فضلاً عن تعذر التحكم في التكلفة الإنسانية. وهي المعوقات نفسها التي يبدو أن إسرائيل وقادتها كانوا يتذرعون بها لتأخير الاجتياح الواسع لغزة، وترى مجلة فورين بوليسي أن هذه الأسباب قد تدفع قادة الاحتلال إلى تضييق نطاق العمليات العسكرية أو تقليص مداها في نهاية المطاف.
التحدي الأول هنا هو طبيعة القتال ذاتها، لأن غزة قطاع حضري من المناطق المبنية والمكتظة بالسكان، كذلك فإن شوارعه الضيقة ومبانيه المزدحمة بالسكان تخلع عن جيش الاحتلال كثيراً من مزاياه المتعلقة بكثافة التسليح والاتصالات والمراقبة، والقوة النيرانية البعيدة المدى. وسيضطر جيش الاحتلال إلى تجزئة قواته، ما يجعلها عرضة للإغارة عليها، وهو ما يبدو أنه حدث بالفعل حتى اليوم الإثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول.
إذ تعرضت قوات الاحتلال إلى كمائن وفخاخ متعددة أعدتها لها المقاومة، وكان استهداف عناصر من المقاومة الفلسطينية لتوغل إسرائيلي من ناحية بيت حانون، وإشعال النيران في مدرعات العدو وتطويق قواته من خلال مهاجمة معبر إيرز تجسيداً لافتاً لمدى استعداد المقاومة لأي توغل بري إسرائيلي في القطاع.
كما أن الأنقاض التي خلفها القصف الإسرائيلي توفر للمجموعات الصغيرة من المقاتلين غطاء لمهاجمة قوات الاحتلال، وإقامة مواقع للقناصة، وزرع الأفخاخ المتفجرة.
وتقارن مجلة فورين بوليسي بين ما كابده الجيش الأمريكي من صعوبات جمة وتكاليف هائلة في العمليات العسكرية بالمناطق الحضرية، مثل الفلوجة بالعراق، وبين ما يواجهه جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. لكن الأكيد أن المقارنة لا محل لها من الإعراب من الأساس، فالقتال في غزة أصعب، إذ كانت المقاومة المسلحة التي تصدت للقوات الأمريكية الغازية في الفلوجة عام 2004، حديثة عهدٍ بالسيطرة على المدينة، أما حماس فتُسيطر على غزة منذ عام 2007 وتصدت لأكثر من عدوان إسرائيلي هناك بنجاح. كما أن حماس توقعت رداً إسرائيلياً عنيفاً بعد عملية طوفان الأقصى العسكرية، وأعلن قادتها بالفعل أنهم مستعدون منذ مدة طويلة لأي توغل الإسرائيلي.
أنشأت فصائل المقاومة شبكة واسعة من الأنفاق، التي يُقال إنها أكبر من مترو أنفاق لندن، وتُستخدم هذه الأنفاق في إخفاء الإمدادات والذخائر، وتتيح لقادة المقاومة التخفي والتواصل أثناء الصراع. وقال الجنرال جوزيف فوتيل، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية، لفورين بوليسي إن القتال في الأنفاق كابوس على من يشارك فيه.
وحذر قوات الاحتلال من أن القتال "سيكون دموياً وشرساً"، وقد يستخدم مقاتلو حماس الأنفاق لمهاجمة جنود الاحتلال من الخلف، ونصب الكمائن لهم ، وربما الإيقاع بمزيدٍ من الأسرى، وهو ما حدث بالفعل عند معبر إيرز، وقد حاولت إسرائيل قصف هذه الأنفاق، لكن لا يزال من الصعب العثور عليها وتدميرها من الجو.
لماذا تراجع نتنياهو وجيشه؟
يقول نتنياهو إن إسرائيل تسعى إلى تدمير حماس، لكن رسائله وما يقوم به جيشه يؤكد أن الهدف هو القضاء تماماً على كل ما هو فلسطيني، داخل القطاع وفي باقي أراضي فلسطين. لكن السؤال هنا هو ماذا يعني عملياً تدمير حماس؟ قتل قادتها؟ ربما لا يكون الأمر بالسهولة التي يتوقعها الاحتلال، فالعثور على مقاتلي المقاومة وقادتهم داخل قطاع غزة ليس مهمة سهلة، كما تعتمد الحركة على تنظيم هيكلي جيد، ولم تتوقف إسرائيل أصلاً عن استهداف قادة المقاومة من قبل.
لكن ما يزيد من صعوبة ما يتمنى الاحتلال تنفيذه هذه المرة هو أن فصائل المقاومة لديها ما قد يزيد عن 239 أسيراً، منهم من يحملون جنسية أخرى غير الجنسية الإسرائيلية، فالمبنى الذي يختبئ فيه قادة حماس قد يكون فيه أسرى، وكذلك الأنفاق التي تخزن فيها المقاومة إمداداتها، ومن ثم فإن إرسال قوات لمهاجمة هذه المواقع، فضلاً عن تفجيرها، قد يؤدي إلى مقتلة لهؤلاء الأسرى.
وفي الوقت نفسه، تجد دولة الاحتلال نفسها في مواجهة غضب عالمي عارم بسبب جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها كل لحظة في قطاع غزة، وبالتالي سيكون في الاعتبار التكلفة والخسائر البشرية والمادية في غزة، وقالت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة إن الغارات الإسرائيلية قد أدت إلى استشهاد ما يزيد على 8 آلاف فلسطيني، وأصابت أكثر من 18 ألفاً. ومن المتوقع أن يفضي الاجتياح البري إلى عدد أكبر بكثير من الضحايا.
علاوة على ذلك، قطعت إسرائيل عن غزة إمدادات الوقود والكهرباء وأساسيات الحياة، تحت زعم أن حماس تستخدمها في أغراض عسكرية، وقد أدى ذلك إلى أزمة إنسانية هائلة، وستزداد هذه الأزمة تفاقماً مع مرور الأيام. ومع إصرار إسرائيل على منع الغذاء والدواء والخدمات الأساسية عن أهالي القطاع، فإن التكلفة البشرية -الفادحة بالفعل- ستزداد فداحةً، ويدفع الثمن الأطفال وكبار السن وسكان القطاع ممن لا صلة لهم بالقتال. لكن أليس هذا ما تريده إسرائيل بالفعل؟ وزير الدفاع وصف أهالي غزة بأنهم "وحوش بشرية" ونتنياهو استدعى مقاربة توراتية تخص "العماليق" وتنادي بقتل الرجال والنساء والأطفال والطيور والحيوانات!
ومن وجهة نظر مجلة فورين بوليسي، فعلى الرغم من أن مصالح إسرائيل الاستراتيجية ورغبة قادتها في تهدئة الرأي العام الإسرائيلي وتخفيف غضبه، هي العوامل الأساسية في تحديد مسار العمليات العسكرية لدولة الاحتلال، فإن على القادة الإسرائيليين أن يهتموا كذلك بالرأي العام الدولي، وخاصة الرأي العام الأمريكي. فقد أدى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى احتجاجات في جميع أنحاء العالم العربي، ومنها بعض الدول التي أقامت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، مثل البحرين ومصر. والتطبيع هدف دبلوماسي بالغ الأهمية لإسرائيل، ويستبعد أن تخاطر بخسارته، لا سيما أن السعودية، التي كانت تجري مفاوضات مكثفة مع الولايات المتحدة لتعزيز اتفاق التطبيع مع إسرائيل قُبيل الحرب، أصدرت بيانات شديدة اللهجة في إدانة تصرفات إسرائيل في غزة.
الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته جاهروا بتأييد إسرائيل، لكن يبدو الآن أنهم يحثون سراً على ضبط النفس، والسعي للحدِّ من التكلفة البشرية بين المدنيين الفلسطينيين. ويتخوف المسؤولون في واشنطن من الأخطار التي يتعرض لها الأسرى الأمريكيون، وخطر انتشار الصراع في جميع أنحاء المنطقة وتهديد القوات الأمريكية وحلفائها. ومع تصاعد هذه المخاوف، قد تتزايد الضغوط الأمريكية على إسرائيل لكبحِ عملياتها البرية.
ومن الصعوبات الجوهرية كذلك التي تعترض إسرائيل في أمنياتها باجتثاث حماس، هو العجز عن توفير بديل لها في السيطرة على قطاع غزة، فالسلطة الفلسطينية لا تسيطر أصلاً على الضفة الغربية المحتلة، وإذا تعاونت مع إسرائيل في إدارة غزة بعد أي غزو بري-حال نجاحه، فإن ذلك سيحطم ما تبقى لها من مصداقية. أما مصر وغيرها من الدول العربية، فهم مترددون في استقبال اللاجئين الفلسطينيين، ومن المستبعد أن يوافقوا على الاضطلاع بمهمة إدارة الأمور في غزة.
أما إذا ضربت إسرائيل أهدافها بقوة ثم انسحبت، فإن حماس ستعود للسيطرة على القطاع من جديد، لا سيما أن منافسيها الفلسطينيين أقل شعبية منها، وأنهم يفتقرون إلى الأصول العسكرية والشبكات الاجتماعية والاقتصادية التي تستند إليها حماس في حكم غزة.
لكن ربما يكون السبب الرئيسي وراء "التهرب" الإسرائيلي من الاجتياح البري الشامل لقطاع غزة يكمن في أنه على الرغم من الغضب العارم في إسرائيل، والإلحاح على تدمير حماس، فإن قادة الاحتلال الإسرائيلي يدركون أن المعارك في قطاع غزة محفوفة بالأخطار، ومن الممكن أن تتسبب في خسائر أكبر في صفوف جيشهم المترهل للغاية. لذلك فإن الرهبة من وقوع المزيد من القتلى الإسرائيليين، وغير ذلك من المخاوف، ربما تدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه إلى التصرف بحذر.
والخلاصة أن إسرائيل قد تلجأ إلى بعض عمليات التوغل البرية مع التمسك بالحذر عموماً، وأن تتجنب الغزو الشامل والاحتلال طويل الأمد الذي بدا مرجحاً في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وهذا المسار لن يقضي على حماس ولن يحقق أياً من الأهداف المعلنة للاحتلال، لكنه يبدو المسار الأقل تكلفة لإسرائيل في الوقت الراهن.