سعت إسرائيل منذ عملية "طوفان الأقصى" إلى إضفاء صبغة دينية على حربها غير الإنسانية على قطاع غزة، فلماذا فشلت دعاية نتنياهو الساعية للربط بين حماس وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؟
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
حرب نتنياهو الدينية
تركّز رد فعل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، منذ اللحظة الأولى للهزيمة غير المسبوقة في تاريخ الدولة العبرية، على إضفاء صبغة دينية على الصراع السياسي البحت، فرفع شعاراً يقول إن "حماس هي داعش"، وحرص على الربط بين ما قام به مقاتلو حركة التحرير الوطني الفلسطينية خلال هجومهم على الاحتلال من جهة وبين الخراب الذي اتُّهم "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا" (داعش) بإحداثه في المدن التي اجتاحها قبل 10 سنوات.
وهكذا، ذهبت وجهة النظر الإسرائيلية إلى أن حماس تستحق رداً مماثلاً. وقال نتنياهو: "مثلما اتحدت قوى الحضارة لهزيمة داعش، فإن على قوى الحضارة أن تدعم إسرائيل الآن للقضاء على حماس".
وتحولت هذه العبارة إلى وسم ولازمةٍ لا ينفك يرددها المسؤولون والسياسيون الإسرائيليون بمختلف أطيافهم، ويكررها كذلك حلفاء إسرائيل، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن.
ومع استمرار الحرب الهمجية التي يشنها جيش الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة المحاصر، وصف وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن ما فعلته حماس بأنه "أسوأ مما فعلته داعش"، ثم ظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب نتنياهو، يوم الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول، وزايد في تأييد هذه السردية بالقول إن التحالف الدولي الذي قاتل تنظيمي "القاعدة" و"داعش" عليه أن يحتشد الآن مع إسرائيل لهزيمة عدوها. وقال إن إسرائيل ليست وحدها، وأن "فرنسا مستعدة للمشاركة في حشد التحالف الذي قاتل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق سوريا، لقتال حماس أيضاً".
لا أحد يعرف بعد ما الذي تعنيه تلك الدعوات عملياً، باستثناء أن إسرائيل تستعد للمرحلة التالية من هجومها على قطاع غزة الذي تديره حماس، وقال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، يوم الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول، إنه "يجب أن تُمحى حماس من فوق وجه الكوكب".
القصف الإسرائيلي الهمجي المتواصل على قطاع غزة المحاصر أدى إلى استشهاد أكثر من 7 آلاف فلسطيني حتى صباح الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول، نحو نصفهم من الأطفال وغالبيتهم الساحقة من المدنيين، وتفاقمت الأزمة الإنسانية في القطاع بفعل الحصار المطبق الذي تفرضه دولة الاحتلال على غزة، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بأنه "عقاب جماعي" يجرمه القانون الدولي.
هل أقنعت إسرائيل العالم بروايتها؟
صحيفة The Washington Post الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "إسرائيل تقول إن "حماس هي داعش".. لكنها ليست كذلك"، رصد الفشل الذريع الذي يواجه الرسالة الإسرائيلية التي يبدو أنها لم تقنع أحداً، باستثناء داعميها التقليديين في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية.
فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تحاول إسرائيل جاهدة أن تروّج لأن ما قامت به حماس في ذلك اليوم كان حملة قتل موجهة إلى اليهود، وأن عدد القتلى من الإسرائيليين في يوم واحد هو الأكبر في تاريخ الدولة العبرية منذ محارق الهولوكوست في ألمانيا النازية.
وبعد مرور نحو 3 أسابيع، لا يزال الصحفيون يتلقون من السلطات الإسرائيلية المزاعم تلو المزاعم عن مقاتلي حماس الذين "ذبحوا الأطفال والرضع، واغتصبوا النساء، وحرَّقوا المدنيين المذعورين في منازلهم"، دون تقديم دليل واحد يؤيد تلك المزاعم.
وتعهّد المسؤولون الإسرائيليون بحملةٍ انتقامية لا هوادة فيها على من وصفوهم بـ"الحيوانات البشرية"، وعمدوا خلال ذلك إلى وضع أفعالهم -التي أسفرت عن استشهاد عدد هائل من المدنيين الفلسطينيين حتى الآن وتدمير غير مسبوق للقطاع- في "الإطار الأخلاقي" ذاته الذي استُخدم لتسويغ الانتقام من النازيين، فضلاً عن الحملة العالمية للقضاء على "داعش"، فإلى أي مدى نجح الاحتلال في إقناع العالم بروايته تلك؟!
بحسب تقرير واشنطن بوست، وهي صحيفة أمريكية كبيرة تنتمي إلى الإعلام الغربي ذاته الذي روج ويروج للرواية الإسرائيلية دون تدقيق أو مهنية، فإن الباحثين في شؤون الشرق الأوسط يؤكدون أن الخطاب الإسرائيلي يتعمد طمس مجريات الواقع العميقة والمؤثرة على الأرض.
وقالت مونيكا ماركس، بروفيسور سياسة الشرق الأوسط في جامعة نيويورك أبوظبي، إن القول بأنه لا فرق بين حماس وتنظيم داعش هو "وسيلة فعالة لتصوير حماس -وجميع سكان غزة، بمقتضى خطاب التعميم الذي يستعمله كثير من القادة الإسرائيليين- على أنها مجرَّدة من الإنسانية، وشريرة على نحو يستحيل إصلاحه، ومن ثم فهي هدف مشروع للانتقام بوحشية".
وترى مونيكا أن الأيديولوجية الإسلامية لحركة "حماس" وقناعاتها العقائدية أقل تأثيراً في أفعالها من تصور الحركة عن ذاتها أنها تحمل لواء التحرير الوطني الفلسطيني المسلح.
والمقصود هنا من كلام مونيكا ماركس هو أن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" هي حركة تحرر وطني فلسطينية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، وليست حركة دينية في المطلق تشن حرباً هجومية ضد اليهود حول العالم.
ويتفق مع ذلك الرأي إسحق وايزمان، المؤرخ الإسرائيلي للحركات الإسلامية في جامعة حيفا الإسرائيلية، إذ قال لصحيفة Haaretz الإسرائيلية الأسبوع الماضي، إن "هناك ميلاً للزعم أن [حماس] لطالما كانت مثل داعش، لكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة. إنه تنظيم منفتح على الواقع"، والدليل أن حماس تقبلت الجماعات الدينية الأخرى في غزة. فقد "عملت على استيعاب جميع سكان غزة، أما تنظيم داعش فكان يقتل أي مسلم لا يقيم الصلاة في وقتها. ومن ثم لا يمكنك أن تقول: (داعش ذبحت الناس، وكذلك فعلت حماس، فهما الشيء نفسه إذاً!)، هذا رأي شديد السطحية".
وأشار آرون زيلين، الزميل البارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إلى ثغرة أخرى تدحض هذه الفرضية، وهي أن داعش "ترى (حماس) مرتدة عن الإسلام" لعلاقاتها مع النظام الديني الشيعي في إيران.
هل يمكن أن تقضي إسرائيل على حماس؟
من جهة أخرى، شكّك خبراء في إمكان أن تقضي إسرائيل على حماس على النحو الذي أعلنته وترغب فيه، لأن ذلك الأمر يقتضي حرباً برية وحشية أكثر صعوبة وتعقيداً بكثير من الحملة التي شُنت لطرد تنظيم داعش من معاقله في العراق وسوريا، لا سيما أن التنظيم، وإن طُرد من الأراضي التي اتخذها مقراً لـ"خلافته"، فإن أيديولوجيته لم تندثر، ولا تزال فروع داعش منتشرة في أرجاء العالم.
أما أندرو إكسوم، وهو مسؤول كبير سابق بوزارة الدفاع الأمريكية في عهد باراك أوباما وشارك في صياغة استراتيجية مكافحة داعش، فنبَّه إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمدنيين أثناء استيلاء قوات التحالف على معاقل داعش في الموصل العراقية، والرقة في سوريا. وكتب إكسوم: "كانت التكاليف البشرية لاستعادة الرقة والموصل هائلة"، و"الرقة والموصل، مثل غزة، مناطق حضرية كبيرة، ومن ثم كان تجنب الإيقاع بعددٍ كبير من الضحايا بين المدنيين أمراً مستحيلاً".
وحتى لو سُحقت حماس وجُرِّدت من قدراتها على تهديد إسرائيل، فإن ذلك لن يطمس السياق الذي أسهم في نشأتها، ولن يعالج الأسباب التي أدت إلى صعودها، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية. وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في كلمته بمجلس الأمن يوم الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول، إلى بعض هذه الأسباب، حين أرجع الأمر إلى أكثر من 5 عقود من الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وانتهاكات مشروع الاستيطان الإسرائيلي الذي شجعته حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، علاوة على انهيار أية عملية سياسية ما دامت تتجاهل مطلب الدولة الفلسطينية والحقوق السياسية الفلسطينية داخل إسرائيل.
لكن تصريحات غوتيريش، التي وضعته على الفور في مرمى النيران الإسرائيلية وتعالت المطالب باستقالته، ليست سوى مؤشر على عمق الفشل الإسرائيلي في إقناع العالم بأن ما يجري هو حرب دينية، فطوفان الأقصى لم تحدث من فراغ، بل جاءت نتيجة طبيعية للتواطؤ الأمريكي والغربي مع سياسات الاحتلال الاستيطانية والقمعية بحق الفلسطينيين جميعاً، وليس فقط داخل القطاع المحاصر.
بايدن نفسه، ورغم تبنيه للرواية الإسرائيلية المضللة، أقر في مؤتمر صحفي عقده قبل يومين بأن هجوم حماس لم يحدث من فراغ، وأنه لا يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، مطالباً بالعمل على تحقيق "حل الدولتين" على الفور بعد انتهاء الحرب. صحيح أن بايدن يرفع شعار نتنياهو "القضاء على حماس"، لكن الرئيس الأمريكي نفسه يتخبط في تسويق الرواية، فمرة يربط بين "هجوم حماس والهجوم الروسي على أوكرانيا"، وتارة يشبه 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بما تعرضت له بلاده من هجمات يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001.
بناءً على ذلك، كتب المؤلف والناقد اليهودي الأمريكي آدم شاتز، في مقال له بمجلة London Review of Books البريطانية: "على الرغم من كل هذه الجهود التي تبذلها إسرائيل لتصوير حماس على أنها الفرع الفلسطيني للدولة الإسلامية، وعلى الرغم من اتهامها بالرجعية والعنف، فإن حماس منظمة قومية إسلامية، وليست طائفة عدمية، وهي جزء من نسيج المجتمع السياسي الفلسطيني"، ومن ثم "لا يمكن التخلص منها بهذه السهولة المزعومة".
وعلى المستوى الشعبي والرأي العام الغربي نفسه، بدأت إسرائيل تفقد جانباً كبيراً من التعاطف معها مقابل زيادة الدعم والتعاطف مع الفلسطينيين، وأصبحت التظاهرات الحاشدة حدثاً حاضراً في العواصم والمدن الأمريكية والغربية بشكل شبه يومي، كما أصبحت منصات التواصل الاجتماعي تعج بالدعم لفلسطين وغزة والدعوات لوقف الحرب الإسرائيلية على القطاع.