تواصل إسرائيل قصفها الهمجي على قطاع غزة لليوم السادس عشر، وسط تنامي المؤشرات على احتمال اتساع رقعة الحرب، فلماذا تعتبر أمريكا هي السبب الجذري في هذه الحرب؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "أمريكا هي السبب الجذري للحرب الأخيرة بين إسرائيل وفلسطين"، رصد 5 تطورات شهدتها المنطقة خلال العقود الأربعة الماضية أدت إلى ما تشهده فلسطين اليوم، وتتحمل الولايات الأمريكية المسؤولية الكاملة عنه.
والأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول، ازدادت المؤشرات على توسع نطاق الحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر "بشكل مطبق" منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عندما أطلقت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" عملية "طوفان الأقصى" العسكرية.
هل يتسع نطاق الحرب على غزة؟
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي بفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هجوم عسكري.
بدأ جيش الاحتلال قصفاً همجياً وجنونياً على قطاع غزة بصورة غير مسبوقة، واستهدف الحجر والبشر والشجر حرفياً وليس مجازياً. لم تسلم البيوت والبنايات والأبراج في القطاع الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني، وهو المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. لم تسلم المستشفيات وعربات الإسعاف والطواقم الطبية من هذا القصف، وكان قصف المستشفى الأهلي المعمداني مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، نموذجاً صارخاً لما توصف بأنها "جريمة حرب" متكاملة الأركان ترتكبها إسرائيل دون أي قلق من مساءلة من أحد.
وتم التمهيد لما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال حملة ممنهجة ومنظمة تشارك فيها العواصم الغربية، خاصةً واشنطن ولندن وباريس وبرلين، من خلال الترويج للتضليل والأكاذيب الهادفة إلى تشويه ليس فقط حركة المقاومة الفلسطينية "حماس"، ولكن أيضاً الفلسطينيين داخل القطاع وخارجه، وحتى العرب جميعاً، باعتبارهم متعاطفين مع ما يصفه الاحتلال وداعموه بأنه "إرهاب".
الآن وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل دك قطاع غزة؛ مما أدى إلى استشهاد نحو 4500 فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، شن جيش الاحتلال ضربات جوية استهدفت مطاري دمشق وحلب الدوليين وأخرجتهما من الخدمة، بحسب وسائل إعلام رسمية في سوريا، بينما تواصل تبادل النيران المتقطعة بين جيش الاحتلال وحزب الله اللبناني.
وقالت إسرائيل إن طائراتها قصفت أهدافاً لحزب الله في لبنان، السبت، وإن أحد جنودها أصيب بصاروخ مضاد للدبابات في قتال عبر الحدود، قالت الجماعة المدعومة من إيران إنه أسفر عن مقتل ستة من مقاتليها.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنه وسط تزايد المخاوف الدولية من احتمال اتساع الصراع إلى حرب إقليمية، حذر الوزير أنتوني بلينكن رئيسَ الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، في اتصال، من أن الشعب اللبناني سيتأثر إذا انجذبت بلاده إلى الصراع.
وفي مؤشر آخر على مدى خطورة الموقف، أرسلت الولايات المتحدة عتاداً عسكرياً إضافياً إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، إن واشنطن سترسل مزيداً من العتاد العسكري إلى الشرق الأوسط؛ دعماً لإسرائيل ولتعزيز الموقف الدفاعي للولايات المتحدة في المنطقة بعد "التصعيد الأخير من قبل إيران والقوى التي تعمل بالوكالة عنها في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط"، بحسب رويترز.
وقال أوستن إن الولايات المتحدة سترسل مزيداً من معدات الدفاع الجوي بما يشمل أنظمة (ثاد) المضادة للأهداف التي تحلّق على ارتفاعات عالية وفرقاً إضافية من أنظمة باتريوت للدفاع الجوي إلى الشرق الأوسط وستجهز مزيداً من القوات. وكانت أمريكا قد أرسلت بالفعل قوة بحرية كبيرة إلى الشرق الأوسط في الأسابيع القليلة الماضية بما شمل حاملتي طائرات والسفن المرافقة لهما، ونحو 2000 من قوات مشاة البحرية.
واستهدفت طائرات مسيرة وصواريخ قاعدتين عسكريتين تستضيفان قوات أمريكية في العراق الأسبوع الماضي، في أحدث هجمات منذ أن حذرت جماعات عراقية مسلحة واشنطن من مغبة التدخل دعماً لإسرائيل في حربها على قطاع غزة.
1- مؤتمر مدريد للسلام
على الرغم من أن جذور ما يجري تعود إلى النكبة الفلسطينية عام 1948 وزرع دولة إسرائيل في قلب فلسطين وتهجير الشعب الفلسطيني، فإن هذه الجولة من الصراع بين الاحتلال والمقاومة يرجعها تحليل مجلة فورين بوليسي إلى السياسات الأمريكية في المنطقة خلال العقود الأربعة الماضية.
ففي الوقت الذي يعتبر فيه داعمو إسرائيل أن حماس تتحمل كامل المسؤولية عما يجري بعد هجومها الأخير، يرى المتعاطفون مع القضية الفلسطينية أن ما حدث نتيجة طبيعية للطريقة التي يتصرف بها الاحتلال طوال الوقت. ومع ذلك، من المهم عدم التغاضي عن عوامل أخرى مرتبطة بالصراع في فلسطين، لأن تأثيرها قد يستمر إلى ما بعد الأزمة الحالية.
وبحسب "فورين بوليسي"، كانت حرب الخليج عام 1991 ومؤتمر مدريد للسلام الذي أعقبها نقطة تحول في توازن القوى بالمنطقة. فقد نجحت الولايات المتحدة، بقوتها العسكرية في التصدي للتهديد الذي شكله صدام حسين بغزوه الكويت، وأكدت هيمنتها على المنطقة. وانتهز الرئيس جورج بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بيكر هذه الفرصة بعقد مؤتمر السلام الذي ضم دولاً مختلفة وكان يهدف إلى إقامة نظام إقليمي سلمي، عن طريق وضع حل للقضية الأهم في المنطقة وهي الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن مؤتمر مدريد لم يسفر عن نتائج ملموسة أو اتفاق سلام نهائي، فقد وضع الأساس لجهود مستقبلية نحو السلام؛ مما أدى إلى اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
لكن استبعاد أمريكا بعض دول المنطقة من مؤتمر مدريد للسلام، ومن بينها إيران التي تعتبر نفسها قوة إقليمية كبرى، كان خطأ فادحاً، حيث إن واشنطن أعلنت أن المؤتمر هادف إلى تأسيس نظام جديد في الشرق الأوسط.
2- الغزو الأمريكي للعراق
أما نقطة التحول الثانية فكانت هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية والغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ورغم أن الغزو غير المبرر أصلاً لم يكن مرتبطاً مباشرة بالصراع في فلسطين، فإنه غيّر ميزان القوى في المنطقة وحسّن موقف إيران الاستراتيجي. وهذا بدوره أثار قلق دول الخليج وغيّر شكل العلاقات الإقليمية، وضمن ذلك علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل. وأدى سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية إلى تصعيد التوترات وزيادة العقوبات من الولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضاً.
وهكذا تركزت السياسة الأمريكية في المنطقة على إدارة الصراع مع إيران وتوظيف ذلك لمحاولة دمج إسرائيل في الشرق الأوسط، دون الاكتراث بالفلسطينيين وقضيتهم العادلة وسعيهم لإقامة دولتهم المستقلة في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، طبقاً للقرارات الدولية.
3- ترامب وإيران
كانت المحطة الثالثة، بحسب تحليل فورين بوليسي، هي القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران وتبني سياسة "أقصى قدر من الضغط"، في الوقت الذي قرر فيه ترامب نقل سفارة واشنطن إلى القدس والاعتراف بضم الجولان السورية وسعيه لفرض "صفقة القرن"، التي تنهي عملياً أي أمل فلسطيني في إقامة دولة مستقلة.
وكانت لهذه القرارات عواقب مؤسفة، لأنها سمحت لإيران باستئناف برنامجها النووي وتسببت في هجمات على شحنات النفط ومنشآته بالمنطقة. وفاقمت هذه التطورات المخاوف بين دول الخليج، ودفعتها إلى التفكير في تأسيس برنامج نووي خاص بها. وشجعت أيضاً التعاون الأمني بين إسرائيل والعديد من دول الخليج على أساس التهديد المتصور من إيران.
4- التطبيع مع إسرائيل
أما المحطة الرابعة فقد كانت اتفاقيات أبراهام، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وفي حين هلل البعض لتلك الاتفاقيات على أنها خطوة إيجابية، إلا أن المنتقدين رأوا أن من الحتمي بذل مزيد من الجهود لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم والتركيز على الصراع الذي لم يُحلّ.
ثم جاءت إدارة بايدن واستمرت في المسار نفسه تقريباً. ولم تتخذ أي خطوات مهمة لمنع حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة من دعم أعمال العنف التي ينفذها المستوطنون المتطرفون، والتي أدت إلى ارتفاع عدد الشهداء والنزوح بين الفلسطينيين على مدى العامين الماضيين.
وبعد فشل بايدن في الإيفاء بوعد حملته الانتخابية بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة في الحال، ركز هو ورفاقه على إقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل نوع من الضمانات الأمنية الأمريكية وربما امتلاك تكنولوجيا نووية متقدمة.
على أن الدافع وراء هذا المسعى لم يكن له علاقة تذكر بإسرائيل وفلسطين، بل كان الهدف منه منع السعودية من الاقتراب من الصين. وكان ربط الالتزام الأمني تجاه السعودية بالتطبيع وسيلة للتغلب على إحجام الكونغرس الأمريكي عن التوصل إلى صفقة مرضية مع الرياض.
ومِثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، افترض كبار المسؤولين الأمريكيين أنه ليس بمقدور أي مجموعة فلسطينية أن تفعل شيئاً لعرقلة هذه العملية أو إبطائها أو لفت الانتباه مرة أخرى إلى القضية الفلسطينية.
5- رد فصائل المقاومة من غزة
أما المحطة الخامسة فتتعلق بالمقاومة الفلسطينية نفسها، إذ تجمعت كل هذه العوامل لتعطيها حافزاً قوياً لإثبات مدى خطأ هذا الافتراض. فقد كان فشل عملية السلام في تقديم أي حق من حقوق الفلسطينيين هو العامل الخامس الذي ساهم في الوضع الحالي. فرغم الجهود العديدة التي بدا أن الإدارات الأمريكية السابقة تبذلها، كان تحقيق حل الدولتين لا يزال بعيد المنال، وازداد الوضع تدهوراً على الأرض.
وهذه العناصر الأساسية مهمة، لأن النظام العالمي المستقبلي تتنافس عليه دول مؤثرة مثل الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإيران. وتدعو هذه الدول إلى نظام متعدد الأقطاب تتوزع فيه القوة بشكل أكثر توازناً، ويكون بديلاً للنظام الحالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
وانتقدت هذه الدول الولايات المتحدة؛ لفشلها في حل الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط، متعللة بالحروب المستمرة وانعدام الاستقرار والأمن والعدالة في المنطقة. وترى تلك القوى الدولية أن الحد من نفوذ الولايات المتحدة وتكثيف نشاطها هما ما سيفيد العالم.
ويتجاوز صدى هذه الرسالة نطاق المجتمع عبر الأطلسي ويشكل تحدياً لمكانة الولايات المتحدة في العالم. وبينما تعمل إدارة بايدن على إدارة الأزمة التي ورثتها، يبدو جلياً أنها ماهرة فقط في معالجة المشكلات قصيرة المدى لكنها تفتقر إلى رؤية شاملة لدور أمريكا العالمي، حيث تركز واشنطن الآن على تقديم الدعم الأعمى لإسرائيل بغض النظر عما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس أيضاً.
والجهود التي تبذلها الإدارة لمعالجة الموقف الحالي قد لا تعالج المشكلات الأساسية، ولو كانت المحصلة مجرد العودة إلى الوضع الراهن قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، فقد يدرك بقية العالم أن الوقت قد حان لتبني نهج مختلف.