تسعى إسرائيل للتنصل من جريمة قصف المستشفى المعمداني الأهلي في قطاع غزة، وإلقاء اللوم على صواريخ المقاومة، فما مدى قدرتها على إقناع العالم بهذه الرواية؟
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد ارتكب مجزرة هي الأكثر وحشية منذ بدأت الحرب يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وربما تكون واحدة من أسوأ المجازر الإسرائيلية على الإطلاق، عندما تعرض المستشفى الأهلي المعمداني في قطاع غزة لقصف أوقع مئات الشهداء والمصابين.
أشرف القدرة، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية قال الأربعاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، إن المئات استشهدوا، مضيفاً أن عمال الإنقاذ ما زالوا ينتشلون الجثث من تحت الأنقاض. وفي الساعات الأولى بعد القصف الإسرائيلي مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، كان رئيس الدفاع المدني في قطاع غزة قد أعلن عن استشهاد أكثر 300 شخص، بينما قدرت مصادر وزارة الصحة عدد الشهداء بأكثر من 500.
اعتراف إسرائيلي ثم إنكار وتنصل
كان رد الفعل الإسرائيلي في الدقائق الأولى لجريمة قصف المستشفى في غزة، وهي الجريمة التي هزت العالم، هو تبرير ما حدث بأنه "استهداف لمقاتلي حماس المتواجدين في المستشفى".
وبعد أن تكشف مدى فداحة الجريمة وأعداد الضحايا من شهداء ومصابين، إضافة إلى أن الاعتراف الإسرائيلي بقصف المستشفى تحت مبرر وجود مقاومين من حماس فيه، هو اعتراف بارتكاب جريمة حرب لا يوجد أي مبرر لارتكابها بحسب القانون الدولي، بدأ التراجع الإسرائيلي عن هذا الاعتراف.
حذفوا التغريدات على منصة إكس أو قاموا بتعديلها لإخفاء الاعتراف بارتكاب الجريمة، ثم بدأت مرحلة الإنكار والتنصل بالكلية من الجريمة عن طريق إلقاء المسؤولية على صواريخ المقاومة.
خرج رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليلقي بالمسؤولية على "حماس"، ثم خرج المتحدثون باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي ليقولوا للعالم إن "حركة الجهاد الإسلامي" هي المسؤولة عن قصف المستشفى المعمداني بصاروخ سقط بالخطأ.
وطوال ساعات ليل الثلاثاء، كانت مشاهد الضحايا والمباني المهدمة والجثث المتفحمة والأشلاء تثير الغضب العارم ضد جريمة الاحتلال الإسرائيلي البشعة، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط ولكن حول العالم، لتزداد وتيرة الأكاذيب الإسرائيلية للتنصل من المسؤولية والبحث عن مخرج سريع من المأزق.
فعلى المستوى السياسي، استنكرت جميع الهيئات والمنظمات الحقوقية والصحية حول العالم جريمة قصف المستشفى، حتى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خرج عن صمته أخيراً وطالب بوقف إطلاق النار فوراً.
فقد عبر غوتيريش الأربعاء عن "فزعه" لمقتل المئات في قصف المستشفى في غزة وندد بقوة بما جرى، داعياً إلى "هدنة إنسانية فورية وأطلق مناشدات "لتخفيف المعاناة الإنسانية المروعة".
حتى المستشار الألماني، أولاف شولتز، الذي توجه إلى إسرائيل لإبداء الدعم المطلق لبلاده لدولة الاحتلال، في خضم القصف العشوائي للمدنيين في قطاع غزة والذي أسقط أكثر من 2800 شهيد قبل جريمة قصف المستشفى، عبر عن "فزعه" من صور الدمار والضحايا في المستشفى.
من اليابان إلى أمريكا اللاتينية، هبّ العالم مذعوراً من فداحة الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل وقررت كولومبيا طرد السفير الإسرائيلي لديها رداً على جريمة قصف المستشفى، واندلعت مظاهرات عارمة في تركيا ودول عربية ومدن غربية منددة بالجريمة التي ربما من ضمن الأكثر بشاعة حول العالم، والتي وصفت بأنها "إبادة جماعية".
ألغى الأردن قمة رباعية كان مقرراً أن يستضيفها الأربعاء العاهل عبد الله الثاني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن والمصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وكان مقرراً أن يكون هدفها الرئيسي هو الإعلان عن اتفاق لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح على الحدود المصرية.
ماذا قال المتحدث باسم جيش الاحتلال؟
وجدت إسرائيل نفسها في خضم عاصفة من الغضب تهدد بفقدانها بعضاً من الدعم الأمريكي والغربي لما ترتكبه من استهداف للمدنيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عندما أطلقت المقاومة الفلسطينية عملية عسكرية رداً على الجرائم المتكررة لجيش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه في القدس والضفة الغربية المحتلين وقطاع غزة المحاصر.
عقد المتحدث باسم جيش الاحتلال مؤتمراً صحفياً، الأربعاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، حمل خلاله صوراً بالأقمار الصناعية وقال إن "التحقيق الذي أجراه الجيش خلُص إلى أن المستشفى في غزة تعرض للقصف بصاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي بطريق الخطأ".
وقال المتحدث أيضاً: "أظهر تحقيقنا أن مرآب المستشفى هو الذي تعرض لاستهداف إسرائيلي"، مضيفاً أن "جيشنا لا يستهدف المدنيين أبداً. إننا نرسل تحذيراً للمدنيين للابتعاد عن المناطق التي تمثل أهدافاً لضرباتنا".
واستمر المتحدث باسم جيش الاحتلال في محاولة إقناع الحضور من الصحفيين، ومن ورائهم الرأي العام حول العالم، بأن إسرائيل لا تستهدف المدنيين وأنه "تم على الفور إجراء تحقيق شامل في أعقاب ظهور صور قصف المستشفى، وخلُصت استخباراتنا إلى أن هذا الدمار نتج عن صاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي وسقط بالخطأ فوق المستشفى".
وأضاف المتحدث أنه "لا يرى أي دليل على ضربة مباشرة على المستشفى"، مضيفاً أنه "ليست هناك أضرار هيكلية في المباني المحيطة بالمستشفى الأهلي المعمداني ولا توجد حفر كتلك التي تحدثها الغارات الجوية". واتهم المتحدث أيضاً حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بتضخيم عدد الشهداء جراء الانفجار، قائلاً إنها "لا تستطيع معرفة سبب الانفجار بالسرعة التي أعلنته به".
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قال أيضاً إن "نحو 450 صاروخاً فلسطينياً سقطت داخل قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر".
قصف المستشفى المعمداني.. الحقيقة واضحة
كان السؤال الأول الذي تم توجيهه إلى المتحدث باسم جيش الاحتلال يتعلق بالتشابه اللافت بين رد الفعل الإسرائيلي على قصف المستشفى وبين رد الفعل على جريمة اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، الراحلة شيرين أبو عاقلة، حين اتهمت إسرائيل فصائل المقاومة الفلسطينية في جنين بإطلاق الرصاصة القاتلة، قبل أن تعترف لاحقاً بأن الرصاصة القاتلة إسرائيلية.
كانت شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة، قد تعرضت في مايو/أيار 2022، للاغتيال برصاصة أطلقها قناص إسرائيلي أصابتها في الوجه مباشرة، وعلى الفور انطلقت الدعاية الإسرائيلية لمحاولة طمس معالم الجريمة، من خلال الزعم بأن رصاصة "فلسطينية" قتلت شيرين، لكن في نهاية المطاف سقطت جميع أوراق التوت التي سعت دولة الاحتلال إلى الاختباء خلفها، وحُدد من أطلق الرصاصة القاتلة.
وبالعودة إلى المزاعم التي أطلقها المتحدث باسم جيش الاحتلال بشأن قصف المستشفى المعمداني في غزة، يمكن رصد النقاط التالية:
– اعترف المتحدث بأن جيش الاحتلال قصف بالفعل "مرآب" المستشفى، ما يؤكد وجود استهداف إسرائيلي، في تناقض صارخ لما قاله المتحدث نفسه، حيث أكد مراراً على أن "التحقيق أكد على عدم وجود قصف إسرائيلي للمنطقة التي تقع فيها المستشفى في ذلك اليوم".
– السفير الفلسطيني لدى اليابان أكد على أن المستشفى المعمداني تلقى "تحذيرات إسرائيلية" قبل استهداف المستشفى، وهو ما يؤكد على أن الاستهداف جاء متعمداً بالفعل.
– قال المتحدث باسم جيش الاحتلال إن بلاده "لا تستهدف المدنيين في قطاع غزة وإنما تقصف الأهداف العسكرية لفصائل المقاومة". لكن الحقائق الثابتة تكذبه شكلاً وموضوعاً. فإسرائيل تستهدف الطواقم الطبية وعربات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني بشكل متعمد منذ بدأت قصفها على القطاع. وكان آخر هذه الجرائم التي ارتكبها الاحتلال، فجر الإثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بقصف مقرات الدفاع المدني في غزة، ما أدى إلى استشهاد 7 مسعفين وإصابة عدد آخر من طواقم الدفاع المدني. ويتزامن ذلك مع انهيار القطاع الصحي في غزة، حيث تشن "إسرائيل" أعنف ضرباتها الجوية على الإطلاق على غزة، وهي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، إذ يبلغ عدد سكانها 2.3 مليون نسمة.
– زعم المتحدث باسم جيش الاحتلال أن نحو 450 صاروخاً أطلقتها المقاومة سقطت في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فكم شهيداً سقطوا جراء هذا العدد الكبير من الصواريخ؟ وأين ومتى سقطت تلك الصواريخ؟ وكيف لم تعلن إسرائيل، قبل جريمة قصف المستشفى المعمداني، عن تلك الصواريخ، رغم أنها "رواية" لو صحت لكانت بمثابة الورقة الأكبر في يد الاحتلال لتبرير جرائمه بحق الفلسطينيين في القطاع وتشويه صورة المقاومة؟ ألم تكن "رواية كهذه" أقوى من "فبركة" روايات قطع رؤوس الرضع التي روجت لها إسرائيل والإعلام الغربي قبل التراجع عنها؟
– زعم المتحدث باسم جيش الاحتلال إجراء "تحقيق شامل" خلص إلى تلك النتائج، والسؤال هنا: كيف أجري هذا التحقيق خلال ساعات قليلة بشأن قصف المستشفى الواقع في قطاع غزة حيث لا توجد "جهات التحقيق" أصلاً؟ إذا كان التحقيق في جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة استغرق شهوراً طويلة، وربما لم ينتهِ حتى الآن!
– قال المتحدث للصحفيين عندما لم يجد ردوداً على بعض أسئلتهم: "يمكنكم الذهاب إلى غزة للتحقق بأنفسكم"، والسؤال هنا كيف يمكنهم ذلك وإسرائيل تفرض حصاراً شاملاً على القطاع وتستهدف الصحفيين أنفسهم هناك وحتى على الحدود مع لبنان؟ هل أراد أن يتوجه الصحفيون إلى القطاع ليتم استهدافهم على أمل دفن الحقيقة؟ فعلتها إسرائيل من قبل خلال حرب مايو/أيار 2021 واستهدفت مقار وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية.
تدرك إسرائيل أن جريمة قصف المستشفى المعمداني قد تمثل نقطة فاصلة في هذه الحرب، حيث تسببت في النيل بشدة من "حالة التعاطف" مع الاحتلال في العواصم الغربية، والتي استغلها بايدن وشولتز وريشي سوناك، وإيمانويل ماكرون، لتقديم دعم لا محدود – عسكري وسياسي ومعنوي – لإسرائيل، وغطاء لما ترتكبه بحق المدنيين في القطاع المحاصر.
الآن ومع التحول اللافت في الرأي العام العالمي، وحتى الغربي، في أعقاب مجزرة المستشفى، وتعالي الأصوات المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، تسعى دولة الاحتلال لتوظيف آلتها الدعائية الإعلامية والسياسية للعمل بأقصى طاقة ممكنة لمحاولة التنصل من الجريمة وإقناع العالم بأنها "لا تستهدف المدنيين أبداً"، فهل تنجح هذه المرة أيضاً؟! المؤشرات كلها تقول كلا، لن تنجح هذه المرة.