أضاءت جامعة الدول العربية مقرها العريق بالقاهرة بألوان العلم الفلسطيني، تضامناً مع أهل غزة، وذلك بالتزامن مع انعقاد "اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن غزة"، ولكن في أروقة هذا الاجتماع الطارئ كانت هناك أشياء غريبة لم يسبق أن حدثت في اجتماع متعلق بالقضية الفلسطينية؛ قضية العرب المركزية.
وجاء عقد الاجتماع بناءً على طلب المغرب، رئيس الدورة الحالية الـ160 للمجلس، وفلسطين، وذلك بعد عدة أيام من اندلاع الأزمة، وقد يكون هذا مفهوماً، بالنظر إلى أن الأزمة بدأت بهجوم من قبل المقاومة الفلسطينية، كما أن الأمور لم تكن قد نضجت فيما يتعلق بسبل التسوية.
أنباء عن تحفظات من 5 دول عربية على قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن غزة
وأفادت تقارير إعلامية بتحفظ وزراء كل من الجزائر، وليبيا، والعراق، والنظام السوري، على بعض بنود ومضامين القرار الذي صدّق عليه اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، أمس الأربعاء، في القاهرة.
وذكرت وكالة الأناضول أن الرئيس التونسي قيس سعيّد كلف وزير خارجيته نبيل عمار، بتقديم تحفظ على قرارات اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى الوزراء في دورته غير العادية الذي انعقد الأربعاء، والمتعلق بالتصعيد الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، والتأكيد على أن فلسطين ليست ملفاً فيه مدّعٍ ومدّعىً عليه، بل حق للشعب الفلسطيني لا يسقط بالتقادم.
الوزراء لم يتحدثوا في جلسة افتتاحية كما جرت العادة ولم يعقبه مؤتمر صحفي
ولكن سمات عدة كانت لافتة في الاجتماع، فلم يسبق الجلسة الرسمية للاجتماع، عقد جلسة تشاورية كما هو معتاد في معظم الاجتماعات العربية، لاسيما المهمة التي تحتاج إلى نقاش غير رسمي قبل انطلاق الجلسة الرسمية.
ثم بدأت الجلسة الافتتاحية بكلمة لرئيس الدورة الحالية لمجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري وزير الشئون الخارجية المغربي ناصر بوريطة، التي طالب فيها بوقف العنف والتصعيد فوراً، ولكنه لم يقل وقف العدوان على غزة تحديداً.
وكان لافتاً أنه ساوى بين الجانبين، فقال، إن استهداف المدنيين، من أي جهة كانت، والاعتداء عليهم، يعد مصدر قلق بالغ، ويدفعنا للتأكيد على ضرورة توفير الحماية الكاملة لهم بموجب القانون الدولي الإنساني، وألا يكونوا هدفاً أو ضحايا للصراع، ولم يحدد هنا بطلب الحماية للشعب الفلسطيني.
وقال: "يحدث كل هذا، في خضم تصاعدِ خطابٍ استئصالي ممنهج مريع لا يبشر بخير في المستقبل القريب"، دون تحديد أي خطاب استئصالي يقصد.
ولكن كلمته ركزت بشكل كبير على القدس، وأن ما يحدث حالياً من تطورات هو نتاج الانتهاكات الإسرائيلية السابقة بحق القدس والأقصى، وليس غريباً أن تنال القدس والأقصى عناية خاصة في خطاب المغرب باعتبار أن الملك المغربي محمد السادس هو رئيس لجنة القدس في منظمة التعاون الإسلامي، والملكية المغربية تولي عناية خاصة بالقدس، خاصة في ظل أنها تعتبر نفسها سليلة أسرة الرسول، والملك هو أمير المؤمنين.
ولكن الأكثر لفتاً للانتباه أن خطاب الوزير المغربي لم يدِن إسرائيل بالاسم، بل لم يذكرها إلا مرة واحدة عندما حث الأطراف الدولية راعية عملية السلام، بما فيها الرباعية الدولية، على البدء في مشاورات حقيقية لإحياء العملية السلمية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
كما لم يذكر حق الفلسطينيين في المقاومة، وهو الحق الذي أكدت عليه الشرائع الدولية.
أما كلمة أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، فقد وصفت "التصعيد الجاري بين حماس والإسرائيليين بأنه غير مسبوق في حدته وآثاره، وحذّر من أن هناك احتمالات جادة لانفلات الأوضاع وربما اتساع نطاق المواجهات، ويمكن أن تدفع بالمنطقة كلها إلى وضع غير معلوم".
وأكد أن العقوبات الجماعية التي تمارسها ضد سكان غزة مرفوضة ومدانة في القانون الدولي، وقال: "نحن نتضامن مع الفلسطينيين من سكان قطاع غزة الذين يتعرضون اليوم لمجزرة يتعين إيقافها فوراً، وإدانتها بأشد العبارات".
ولكن كان لافتاً تعبيره عن رفضه بشكل كامل لأي عنفٍ ضد المدنيين وبلا مواربة، حسب تعبيره، وأن قتل المدنيين وترويع الآمنين غير مقبول كوسيلة لتحقيق غاية سياسية سامية مثل الاستقلال، في انتقاد مبطن لهجوم حماس على إسرائيل، وحرص على نشر ذلك والتأكيد عليه على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" تويتر سابقاً.
ولكن لم يكن ذلك فقط ما كان لافتاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ، فالاجتماعات الخاصة بفلسطين، قضية العرب المركزية التي لا تشهد خلافات حادة بين الدول العربية (مثل الأزمة السورية أو الليبية)، يكون عادة هناك جلسة افتتاحية يحضرها الإعلام يتبارى فيها الوزراء العرب في سبك خطابات فصيحة يعلون أصواتهم فيها بالإعلان عن دعم فلسطين وانتقاد إسرائيل، وأحياناً نقد راعيها الأمريكي، وكأنهم يستبدلون الدعم الواقعي المفتقد للقضية بدعم خطابي عربي فصيح.
ولكن هذا الدعم الخطابي الفصيح، لم يحدث في اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن غزة هذه المرة، فبعد كلمتي رئيس الاجتماع الوزير المغربي والأمين العام للجامعة العربية، طُلب من الإعلاميين مغادرة قاعة الاجتماعات، ووُزعت كلمات بعض الوزراء التي غالباً لم يلقوها في الجلسة التي جاءت قصيرة بشكل لافت.
وكانت إحدى الأمور اللافتة جداً في الاجتماع عدم عقد مؤتمر صحفي مشترك، كما جرت العادة، بعد نهاية الاجتماع بين رئيس الدورة (الوزير المغربي)، والأمين العام للجامعة العربية، وهو ما يعد عادة فرصة مهمة للتعبير البصري عن قرارات الاجتماعات العربية وإيضاحها وشرح أجوائها، ولكن تم إلغاء المؤتمر والاكتفاء بإعلان تلاه الأمين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي، استهلّه بإبلاغ الإعلام أنه تقرر إلغاء المؤتمر الصحفي بسبب ارتباط رئيس الدورة وزير الشؤون الخارجية المغربي برحلة الطيران، ثم تلا البيان الصادر عن الاجتماع، دون تلقي أسئلة من الصحفيين.
بعض نقاط القرار تساوي بين حماس وإسرائيل
القرار الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن غزة حوى بدوره العديد من الأمور اللافتة.
فبينما طالب بوقف العدوان على غزة، فإنه ساوى بين الطرفين في بعض النقاط؛ حيث أدان قتل المدنيين من الجانبين واستهدافهم وجميع الأعمال المنافية للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وأكد على ضرورة حماية المدنيين، انسجاماً مع القيم الإنسانية المشتركة والقانون الدولي، وعلى ضرورة إطلاق سراح المدنيين وجميع الأسرى والمعتقلين، دون أن يخص الفلسطينيين في هذه النقطة تحديداً، أو حتى يقول إطلاق الأسرى الفلسطينيين، في محاولة على ما يبدو لتجنب حرج آخر بالإشارة للأسرى الفلسطينيين.
ثم أدان القرار في فقرة تالية كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني وما يتعرض له حالياً من عدوان وانتهاكات لحقوقه.
وفي استجابة واضحة للقلق المصري والفلسطيني من المخططات الإسرائيلية والأمريكية المحتملة لتهجير أهل غزة لسيناء، حذر القرار من أية محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني (ترانسفير)، ومفاقمة قضية اللاجئين الذين يجب تلبية حقهم في العودة والتعويض، في إطار حل شامل للصراع يعالج جميع قضايا الوضع النهائي.
ولكن لم يشر القرار إلى حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، رغم أنه منصوص عليه في مبادئ القانون الدولي.
وبينما أكد القرار على ضرورة رفع الحصار عن قطاع غزة، والسماح بشكل فوري بإدخال المساعدات الإنسانية والغذاء والوقود إليه، وأدان قطع إسرائيل للكهرباء والماء عن القطاع، فإنه لم يتعهد بأية مساعدات عربية ولا حتى أولية للقطاع.
وكان لافتاً إلى أن الاجتماع لم يطلب عقد جلسة لمجلس الأمن، (وهو ما طلبته البرازيل بعدها بيوم)، ولم يشكل لجنة وزارية عربية للتحرك كما جرت العادة في مثل هذه الأزمات، وهي اللجنة التي كانت تعمل عادة على عقد لقاءات مع ممثلي القوى العظمى أو تسعى للتحرك في الأمم المتحدة.
واكتفى القرار بتكليف بعثات جامعة الدول العربية ومجالس السفراء العرب والمجموعة العربية في الأمم المتحدة، بالتحرك على المستوى الدولي لإبلاغ مضمون هذا القرار والعمل مع الشركاء الدوليين لوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى حقوقه.
وبينما قرّر مجلس جامعة الدول العربية، على مستوى وزراء الخارجية، إبقاء نفسه في حالة انعقاد دائم لمتابعة التحرك العربي والدولي لتنفيذ مضامين القرار، فإنه لم يحدد موعداً لجلسة وزارية لاحقة لمتابعة التنفيذ، بل اللافت أنه كلف الأمين العام للجامعة العربية بمتابعة هذا القرار ورفع تقرير بشأنه إلى المجلس في دورته القادمة التي تعقد في مارس/آذار القادم.
هل تم التوافق على القرار قبل الاجتماع؟
ومن الأمور المثيرة للانتباه أن الاجتماع الرسمي المغلق كان قصيراً، بشكل لا يتلاءم مع أهمية الموضوع وطبيعة الاجتماعات الوزارية العربية التي تأخذ وقتاً طويلاً في النقاش حول التفاصيل، ولم يسبقه اجتماع تشاوري مغلق كما سبقت الإشارة، ما أثار تكهنات بأن القرار متفق عليه مسبقاً، خاصة أنه كان مسودة انتشرت قبل الاجتماع، لم يختلف عنها القرار كثيراً.
وفي هذا السياق، قال مصدر بمندوبية دولة عربية لدى الجامعة العربية إنه كانت هناك مسودة أخيرة جرى تداولها في الأيام السابقة للقرار، ولكن كان هناك خلاف تحديداً حول نقطة إدانة استهداف المدنيين من الجانبين، غير أن مسودة أخيرة وزعت على المندوبيات جاء منها أغلب القرار، ووصفها المصدر بأنها جاءت من أعلى، ولم يحدد ما المقصود بالأعلى، وهل يعني أنه تم التشاور بشأنها بين القادة العرب أو وزراء الخارجية هاتفياً قبل قدومهم للقاهرة، أم يقصد بـ"من أعلى" أنها جاءت نتيجة ضغوط غربية لا سيما أمريكية، خاصة في ظل حديث وكالة رويترز عن ضغوط أمريكية على عدد من حلفائها العرب الكبار لإدانة حماس، وهو ما رفضته معظم الدول العربية.
وكانت تقارير قد أفادت بأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تسعى إلى إقناع العالم العربي بفصل الشعب الفلسطيني علناً ودبلوماسياً عن حماس، وفقاً لاثنين من المصادر حضرا اجتماعاً مغلقاً عقده بايدن، مع أكثر من عشرين من زعماء الجالية اليهودية بالولايات المتحدة لمناقشة ما ستفعله الإدارة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى".
ولكن هذه الضغوط، إذا وُجدت، يبدو أنها قد أثمرت إدانة استهداف المدنيين من الطرفين دون تسمية أحدهما، ولكن اللافت أنه لم يعلن بشكل رسمي اعتراضات من أية دولة عربية سوى بعض الحديث عن اعتراض من قبل الجزائر والعراق ونظام الأسد، والأقوى الموقف الذي أعلنته الرئاسة التونسية، من أنها تتحفظ على بيان جامعة الدول العربية، وتأكيدها على موقف تونس الأبدي الداعم للشعب الفلسطيني، والحق في المقاومة حتى تحرير فلسطين كاملة.