تسببت عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، في إسقاط كثير من الأوهام والتصورات، ليس فقط بشأن إسرائيل وجيشها ولكن أيضاً فيما يتعلق برؤية إدارة جو بايدن للمنطقة والعالم.
فمنذ دخوله البيت الأبيض، تجاهل بايدن الشرق الأوسط بشكل لافت وتفرغ للمنافسة مع الصين وروسيا، رغم كون المنطقة تمثل نفوذاً أمريكياً خالصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو هكذا كانت. لكن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/أيار 2021، أجبر بايدن على الانخراط مرة أخرى في المنطقة.
وعندما تولت الحكومة الحالية في إسرائيل المسؤولية منذ أواخر العام الماضي، وهي الحكومة التي يرأسها بنيامين نتنياهو وتوصف بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال، أرسل بايدن وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلى المنطقة للضغط على تل أبيب في ملف المستوطنات، بعد الإعلان عن خطط لتوسيعها وشرعنة المزيد منها؛ وذلك تفادياً لانفجار الموقف ليس إلا.
"أوهام" حكومة نتنياهو
قبل أن تكمل حكومة إسرائيل الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير وسموتريتش وغيرهما من غلاة المتطرفين والمستوطنين، شهرها الأول في السلطة، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
وهذا ليس من قبيل المبالغة، إذ كانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد بالأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين بالضفة الغربية، ووضع الاستيطان في طليعة ملفات الحكومة منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرف، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
زار وزير الخارجية أنتوني بلينكن المنطقة؛ لتوجيه رسالة إلى حكومة إسرائيل، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، حيث التقى نتنياهو وأعلن عن "ضرورة عدم اتخاذ تل أبيب أي إجراءات من شأنها التأثير على حل الدولتين"، وتحدث تحديداً عن ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
غادر بلينكن، وبعد أقل من أسبوعين، أعلنت حكومة نتنياهو منح تصريحات بأثر رجعي لبؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح ببناء 10 وحدات استيطانية جديدة، فكيف ردت واشنطن؟ ضغطت على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس لسحب مشروع قرار مقدم إلى الأمم المتحدة لإدانة الاستيطان الإسرائيلي، واعدةً السلطة بأن نتنياهو وافق على "تجميد" خطط الاستيطان، وهو ما نفاه نتنياهو نفسه لاحقاً.
واصلت حكومة إسرائيل تنكيلها بالفلسطينيين في القدس والضفة الواقعتين تحت الاحتلال، واستشهد نحو 300 فلسطيني هذا العام واغتالت إسرائيل قادة "الجهاد الإسلامي" بغزة، في انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه ازداد الحديث عن قرب توقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
كل هذه التطورات والأحداث رسخت شعور نتنياهو وحكومته وجيشه وشرطته ومستوطنيه بالتفوق المطلق والسيطرة التامة على الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واقتنع نتنياهو وحكومته بأن أقصى ما تطمح إليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هو الحصول على بعض المكاسب الاقتصادية لتخفيف الظروف المعيشية عن سكان القطاع المحاصر، بحسب التقارير الإعلامية العبرية التي تحاول "استيعاب" صدمة وإذلال "طوفان الأقصى" دون جدوى أو تفسير منطقي. وفي هذا الإطار، جاء "طوفان الأقصى" ليسقط أوهام نتنياهو وحكومته ويكشف واقعاً مختلفاً تماماً.
فقد كشف الهجوم الذي شنته حماس عن مدى هشاشة أحد أكثر الجيوش تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم. ولا يزال الخبراء يتداولون في دهشة وارتباك عمقَ الفشل الاستخباراتي لجهاز الأمن الإسرائيلي الذي يمتلك أعتى أدوات المراقبة في العالم -من طائرات مسيَّرة في السماء إلى أجهزة استشعار تكتشف الأنفاق تحت الأرض- للتجسس على قطاع غزة المكتظ بالسكان، والذي تسيطر عليه حركة حماس منذ عام 2007.
ماذا عن "أوهام" جو بايدن؟
أما هناك في واشنطن، فيمكن القول إن "أوهام بايدن المتمثلة في شرق أوسط هادئ" قد حطمتها عملية "طوفان الأقصى"، بحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، حيث تهاوت كثير من التصورات والأوهام في أعقاب الهجوم الذي شبهه البعض بالهجوم الذي شنته القوات المصرية والسورية وأشعل شرارة حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 قبل نصف قرن، فقد أجبر هجوم المقاومة الفلسطينية إسرائيل على إعلان "حالة الحرب" للمرة الأولى أيضاً منذ 50 عاماً.
ففي واشنطن، يواجه البيت الأبيض أيضاً أزمة لم يتوقعها. فمنذ تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه، حاولت إدارته أن تنأى بنفسها تماماً عن الصراعات الشائكة في الشرق الأوسط، وانصرفت عنها إلى مواجهة ما تراه تحدياً لهيمنتها على النظام العالمي، وهو الصعود الصاروخي من جانب الصين، وقيادة الرد الغربي على الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
لا يوافق كثير من المسؤولين في إدارة بايدن على مؤازرة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو وتأييده مشروع الاستيطان الإسرائيلي المتوسع. ومع ذلك، فإنهم يُقرون بأنهم لم يبذلوا إلا قليلاً من الجهد والاهتمام لإصلاح ما تركه ترامب من إرث هناك، بل انتهزوا مساعيه لتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية فيما يُعرف باسم "اتفاقات أبراهام"، وسعوا إلى ضم المزيد إلى مسيرة التطبيع.
وفي فعالية استضافتها مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل أسبوع واحد من "طوفان الأقصى"، زعم مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، أن المنطقة أصبحت -في الوقت الحالي على الأقل- "أكثر هدوءاً اليوم مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن"، وعلى الرغم من أن "التحديات لا تزال قائمة، مثل برنامج الأسلحة النووية الإيراني، والتوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد قل كثيراً مقدار الوقت الذي يتعين عليّ أن أقضيه في الانشغال بأزمات الشرق الأوسط وصراعاته اليوم، خلافاً لجميع أسلافي في هذا المنصب منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول".
أما الآن، فلا شك في أن سوليفان وزملاءه سيقضون كثيراً من الوقت والاهتمام بالمنطقة في الأسابيع المقبلة. لكن على الرغم من أن الرئيسَ الأمريكي تعهد لإسرائيل بـ"دعم لا يتزعزع" عقب بدء "طوفان الأقصى"، فإنه بدا أكثر تحفظاً بشأن المدى المسموح للانتقام الإسرائيلي، والجهود التي قد تبذلها واشنطن لتأمين السلام. فقد كان البيت الأبيض مشغولاً قبل هذه الحرب بتعزيز مسار التطبيع المرجو بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهو اتفاق دبلوماسي يمكن أن يتضمن منح المملكة تحالفاً أمنياً واسع النطاق.
إلا أن الآمال في انفراج مسار التطبيع تتضاءل مع عودة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى فرض قضيته على الجميع. وقد أوضحت الصحفية الأمريكية كارين دي يونغ أنه "لما كانت الرياض ترى نفسها زعيمة للعالم العربي، فإنها أرادت من حكومة نتنياهو تحسين حياة الفلسطينيين، والتعهد بعدم ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وتقديم تنازلات كبيرة في تفكيك المستوطنات اليهودية"، و"مع أن السعوديين كانوا مستعدين للقناعة بتنفيذ بعض هذه المطالب، فإن الانفجار الحالي للعنف، وتوعد إسرائيل بمزيد من الانتقام يقللان من احتمالية أن يقبل الرأي العام في العالم العربي بقرار التطبيع".
في هذا السياق، قال مسؤول سعودي لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية: "الآفاق ملبدة بالغيوم في الوقت الحالي"، و"الأمور [مفاوضات التطبيع] ستتجمد مدةً".
المقاومة هي الحل الوحيد؟
لطالما شكَّلت الوقائع الموحشة مسار الصراع الطويل بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، وتتابعت فيه الدورات البائسة من الاستفزاز والانتقام تحت وطأة التفاوت في مقدار القوة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يوصف بأنه الأقوى في الشرق الأوسط، وشعب يعيش تحت الاحتلال. لقد صُعق الإسرائيليون والمراقبون في أماكن أخرى من هول ما حدث، إلا أن الفلسطينيين يقولون إن هذا لا يحدث من فراغ، بل هو نتاج الظلم والوحشية اليومية للاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، والإرهاب الذي يمارسه المستوطنون اليهود، والحصار الاقتصادي المستمر منذ 16 عاماً على غزة وما فرضه من معيشة بائسة على سكان القطاع البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة.
والآن، في أعقاب هجوم حماس والغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة على غزة، فإن التسوية الدبلوماسية تبدو بعيدة المنال. وقال آرون ديفيد ميلر، الدبلوماسي الأمريكي السابق المخضرم: "لم يعد هناك من تأثير في المدى القريب لأي ضغوط تفرضها الإدارة الأمريكية على نتنياهو لحمله على تقديم بعض التنازلات للفلسطينيين من أجل تمرير صفقة [التطبيع] الإسرائيلية السعودية"، و"غالب الظن أن يؤدي أي هجوم إسرائيلي واسع النطاق في غزة إلى سقوط المئات -إن لم يكن الآلاف- من الضحايا الفلسطينيين، وهو ما يزيد من تثبيط الآمال في التطبيع".
من جهة أخرى، يُبرهن ما يحدث الآن على شدة سخافة المزاعم التي ربطت تحقُّق السلام باتفاقات أبراهام، فحقيقة الأمر أن هذه الاتفاقات كانت صفقات تجارية قائمة على المصالح بين إسرائيل والدول العربية، مثل الإمارات، ولم يكن لها تأثير يذكر على الفلسطينيين.
دانييل ليفي، مفاوض السلام الإسرائيلي السابق ورئيس منظمة "مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط"، قال لـ"واشنطن بوست": "الواضح الآن أن التطبيع الإسرائيلي السعودي لا يزال -كما كان دائماً- مسألة جانبية"، "فإسرائيل والسعودية ليستا في حالة حرب. وأحداث اليوم تذكير بارز بأن القضية هي غياب السلام بين إسرائيل والفلسطينيين؛ والاحتلال الإسرائيلي؛ وإنكار الحقوق الفلسطينية".
في غضون ذلك، يرى بعض المتحدثين عن المحنة الفلسطينية أن الحقيقة التي كشفت عنها هذه الأحداث وغيرها من أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لاستدعاء الاهتمام العالمي بالصراع- هذه الحقيقة هي في حد ذاتها جزء من المشكلة. وأشار خالد الجندي، من معهد الشرق الأوسط، على موقع "إكس" (تويتر سابقاً)، إلى أن هذا "فشل سياسي وأخلاقي هائل" للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، الذين "كانوا في الغالب راضين عن الحفاظ على الوضع الراهن ما دام أن الفلسطينيين هم الذين يدفعون معظم الأثمان لاستمراره". لكن الآن، وفي ظل استمرار هذه المأساة في أحد أطول الصراعات في العالم، فإن الجميع يدفع الثمن.