بعد 50 عاماً على حرب يوم الغفران عام 1973، لا تزال صور تلك الحرب في المخيلة الإسرائيلية، لكن شبحها اليوم صار أكثر تعقيداً بعد المشاهد المرعبة التي رأها العالم بأسره في الهجوم المباغت الذي نفذته حركة حماس صباح يوم السبت، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث نجحت في قتل وأسر مئات الإسرائيليين وإصابة نحو 2000 خلال ساعات فقط في مناطق غلاف قطاع غزة.
"إسرائيل التي حاربت في يوم الغفران ليست هي إسرائيل اليوم"
يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي، إن مقتل 2500 جندي إسرائيلي في حرب 1973 كان يعادل ثلاثة أضعاف التكلفة البشرية التي تكبدتها الولايات المتحدة في حرب فيتنام. كان الجميع في إسرائيل آنذاك يعرفون شخصاً قُتِلَ في الحرب، كانت تلك الحرب أقصر بكثير من حرب فيتنام، استمرت حوالي 10 أيام فقط، لذا كان لقائمة الضحايا صدمة كبيرة.
في وقت مبكر من الحرب دمرت المدرعات السورية لواء الدبابات الإسرائيلي المنتشر في مرتفعات الجولان، ووصلت إلى جسر بنات يعقوب، ووراءه مباشرةً يقع وادي مرج بن عامر. كان احتمال اختراق تشكيل مدرع سوري كبير للقلب الإسرائيلي مروعاً بالنسبة للإسرائيليين، بقدر ما كان مثيراً بالنسبة للسوريين. لم تشهد الولايات المتحدة قط شيئاً كهذا، بما في ذلك أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
وتضمنت الحرب أيضاً لحظات دراماتيكية أخرى. يبدو أن إدارة نيكسون كانت تعتقد أن السوفييت كانوا يستعدون للتدخل عسكرياً لصالح سوريا، ما دفعها إلى رفع مستوى الاستعداد النووي للولايات المتحدة، وهي خطوة غير عادية. فيما قادت السعودية الحظر النفطي الذي فرضته منظمة أوبك على الولايات المتحدة، والذي كان له آثار عميقة على استقرارها الاقتصادي والسياسي على مدى العقد التالي، ما أنهى ما يسمى بالصيف الطويل من النمو الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب، وفتح الباب أمام حقبة من تباطؤ النمو الاقتصادي والتضخم وارتفاع معدلات البطالة.
كانت الآثار طويلة المدى للحرب على إسرائيل عميقة أيضاً. وكانت النتيجة، رغم التعافي الهائل للقوات الإسرائيلية تحت قيادة رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي الذي تعرض للكثير من الانتقادات، ولكنه في الواقع يتمتع بكفاءة عالية، صادمة للشعب الإسرائيلي الذي اعتاد على الاعتقاد بأن انتصاره في حرب عام 1967 جعل الدولة محصنة ضد التحدي العسكري العربي.
وفي غضون أربع سنوات، أُزيحَ حزب العمل الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية بشكل أو بآخر منذ عام 1948 حتى الثمانينيات، وتحطمت الثقة في النخب القديمة. لقد استهان مجتمع الاستخبارات بالتزام الجانبين المصري والسوري بشن الحرب، كما يقول الموقع الأمريكي.
كانت هناك قناعةٌ بأن الظروف التي يمكن للعرب في ظلها شن هجوم غير موجودة. وتجاهلت الاستخبارات العسكرية نجاح الموساد في تجنيد عضو كبير في حاشية الرئيس المصري أنور السادات، الذي أكد على أن الحرب كانت وشيكة. علاوة على ذلك فإن رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، التي راقبت الكارثة، استجابت لتوجيهات صارمة من نيكسون وكيسنغر، بعدم استباق الاستعدادات العربية للحرب عندما اعتُرِفَ بها أخيراً قبل 24 ساعة من بدء الحرب.
"إسرائيل لم تتعلم الدرس"
مع انتقال الصراع العربي الإسرائيلي إلى إسرائيل والفلسطينيين، فإن هذا الدرس المستفاد من حرب عام 1973 قد تلاشى بالنسبة لإسرائيل أيضاً. وتحول استخدام إسرائيل للقوة دون أي هدف سياسي كما يقول الموقع الأمريكي. وأصبح الغرض منه هو فقط الاكتفاء بالردع مع منظمات فلسطينية مسلحة مثل حركتي حماس والجهاد، اللتين تفوّقتا على نفسيهما مع الفصائل الأخرى وكشفتا نقاط ضعف إسرائيل وعورتها.
لا شك أن حرب 1973 غيَّرت العقيدة العسكرية الإسرائيلية أيضاً، لقد أدرك المخططون أنه- بدءاً من تلك الحرب- لم تنتصر إسرائيل في أي حرب كبرى (الولايات المتحدة أيضاً لم تحقق ذلك أيضاً). والأسباب وراء ذلك كثيرة. ومن هنا كان التطور الأحدث في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، والذي أطلق عليه اختصار "مابام"، والذي يعني "المعارك بين الحروب".
والفكرة هي أن الحروب الكبرى لم تعد حاسمة، وبالتالي سوف تتكرر بشكل دوري. وأفضل مسار هو تأخير هذه الحروب وإضعاف قدرة الخصوم على خوضها من خلال القتال الذي يستنزفهم في معارك منخفضة المستوى في هذه الأثناء. وهذا أمر منطقي بعض الشيء، بطبيعة الحال، ولكنه أضعف إسرائيل المنقسمة على ذاتها، وأضعف جيشها.
"نمر من ورق"
هذه هي المرة الأولى منذ 50 عاماً، أي منذ حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، التي تعلن فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي "حالة الحرب"، رغم أنه من الناحية الفعلية لم تتوقف العمليات العسكرية التي تشنها دولة الاحتلال، سواء ضد حركات المقاومة الفلسطينية أو في دول الجوار مثل لبنان وسوريا.
و"حالة الحرب" في دولة الاحتلال الإسرائيلي تعني استدعاء قوات الاحتياط، ووضع جميع الموارد تحت تصرف جيش الاحتلال، وهو ما لم يحدث من قبل، ما يشير إلى عمق الصدمة التي سببتها عملية "طوفان الأقصى"، التي أعلنت حماس عن شنها. رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، عبّر عن هذه الحالة في بيان له قال فيه "إن دولة إسرائيل تمر بوقت عصيب".
المتابع لما يجري في الأراضي الفلسطينية المتحلة منذ تولت الحكومة الحالية في إسرائيل المسؤولية، أواخر العام الماضي، لن يكون متفاجئاً على الأرجح مما يحدث الآن. صحيفة The New York Times الأمريكية كانت قد نشرت تقريراً منذ مطلع العام الجاري، يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة، منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرف، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
هذه هي العملية الأكبر التي تشنها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2005، وهو ما أصاب الإسرائيليين بحالة من الصدمة، في ظل فشل استخباراتي على مستوى كارثي، يذكر بحرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول قبل 50 عاماً، عندما اقتحمت القوات المصرية خط بارليف الذي كانت تصفه إسرائيل بأنه "يستحيل اختراقه". والآن عادت المقاومة الفلسطينية وحدها دون جيوش عربية منظمة يكلف تشغيلها مليارات الدولارات، مرة أخرى، لتُظهر أن "جيش الاحتلال نمر من ورق"، كما وصفه قادة حماس.