كانت لحظة الحقيقة بالنسبة لإسرائيل هي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بعدما كان الإسرائيليون قد سيطر عليهم شعور من الكبر والعنجهية بعد هزيمتهم لثلاثة جيوش عربية مجتمعة، وظنوا أن دولتهم التي نشأت قبل عقدين باتت دولة عظمى.
يمثل جبل الشيخ على الحدود بين سوريا ولبنان نقطة مفصلية في الشرق الأوسط، وشهد تقلبات مثيرة تكشف عن التاريخ المعقد للمنطقة، وكيف أثرت فيها حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وخلافاً لما يوحي به اسم جبل الشيخ، فإن هذه المرتفعات البركانية الخامدة تضم في الواقع ثلاث قمم جبلية وليس قمة واحدة، ويحدُّها من الجنوب هضبة الجولان السورية التي تحتلها إسرائيل. ويسود المرتفعات اليوم هدوء لا يكاد يقطعه إلا هزيز الرياح، أما التلال الشاسعة فتشرف على مشاهد ضبابية لثلاث دول عصفت بها الحروب والصراعات زمناً طويلاً.
على الجانب الإسرائيلي من جبل الشيخ يوجد الآن منتجع للتزلج. لكن في عام 1973، لما كان رقيب المدرعات نير عتير (البالغ من العمر 20 عاماً آنذاك) متمركزاً في جنوب الجولان، كانت الأمور مختلفة تماماً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فقد كان الرقيب عتير يعلم أن الأوضاع متوترة على خط وقف إطلاق النار الذي اتُّفق عليه قبل 6 سنوات، وأن الجيش السوري قد يهاجم في أي وقت. ومع ذلك، لم يتوقع عتير اشتعال الحرب فيما يُعرف بـ"يوم الغفران"، الذي يعده اليهود أقدس أيام التقويم السنوي اليهودي.
جحيم في الجولان
بعد إطلاق الهجوم المفاجئ الذي اشتركت فيه القوات السورية من جبهة الجولان والقوات المصرية في شبه جزيرة سيناء، غيرت الأيام التسعة عشر التالية مصير دولة الاحتلال والمنطقة ومسار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وتسببت في أزمة نفط كانت لها تداعيات عالمية. ولهذه الأسباب وغيرها لا تزال آثار حرب "العاشر من رمضان"، أو حرب "يوم الغفران" لدى الإسرائيليين، مشهودة حتى اليوم.
قال عتير، الذي صار اليوم من قدامى المحاربين الإسرائيليين: "كنا 12 رجلاً وثلاث دبابات، وانتشر في الوادي أسفل الجبل ثلاثة ألوية سورية، تضم 177 دبابة"، و"اتضح بعد بدء الهجوم أننا الحاجز الوحيد الذي يحول دون دخول السوريين إلى الجليل وغور الأردن".
ويروي عتير أن "اليومين التاليين كانا جحيماً علينا؛ فقدنا الكثير من الجنود، ونفدت ذخيرتنا. وكان العدو على بعد 350 متراً فقط منا في وقت ما، حتى كدنا نرى بياض عيونهم. ومع ذلك اخترنا أن نموت راقدين على قنبلة يدوية، وأن نقتل بعضاً منهم معنا، بدلاً من الوقوع في أسرهم. إذ لم يكن لدينا خيار آخر.. وإلا دُمرت إسرائيل"، حسب تعبيره.
إسرائيل ضاعفت الأراضي التي تحتلها في حرب 1967 وانتابها شعور بالغطرسة
اشتعلت الحرب على الجبهتين المصرية والسورية لاسترداد الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، ففي ذلك الهجوم الذي شنَّته إسرائيل وزعمت أنه هجوم وقائي" على العرب المتربصين بها، استولت القوات الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة التابع لمصر آنذاك، واحتلت القدس الشرقية الفلسطينية، وفصلت الضفة الغربية عن السيادة الأردنية.
وكانت المحصلة مضاعفة الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وهزيمة منكرة للجيوش العربية، وشعوراً بالغطرسة والكبر في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وبين عامة الإسرائيليين. وبدا أن إسرائيل قد أخضعت جيرانها المعادين لها أخيراً، وصارت آمنة على مستقبلها لأول مرة منذ آلاف السنين.
كان المظلي الإسرائيلي دودي بانيث قد أنهى خدمته العسكرية قبل بضعة أشهر من حرب 1973، ثم استُدعي إلى جبهة سيناء بُعيد اندلاعها، ويقول عن هذه الأيام: "بعد حرب الأيام الستة عام 1967، كانت إسرائيل تعيش حالة من النشوة، لقد كان انتصاراً هائلاً. واستحوذ علينا الشعور بأننا أبطال؛ لقد سار القتال كما خططنا، وكما تدربنا، وكما حسبنا أنه سيكون. ثم حلَّت 1973، وواجهنا خطراً وجودياً، وكانت الحرب مفاجأة كبرى. لا تسعفني الكلمات لوصف هذا الشعور بأن كل شيء يمكن أن ينهار، وأننا قد نصبح بلا وطن نعود إليه من ساحة المعركة"، حسب تعبيره.
ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 لتكسر العنجهية الإسرائيلية
في تمام الساعة الثانية ظهراً من يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، عبرت القوات المسلحة المصرية والسورية في وقت واحد خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وتقدمت خمس فرق مشاة مكونة من 100 ألف جندي و1350 دبابة إلى الضفة الأخرى من قناة السويس. وعلى الجبهة السورية، شنت 100 طائرة ميغ سورية غارات جوية، وقصفت 600 قطعة مدفعية هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل. وهبطت كتيبة من المظليين السوريين على الجانب المحتل من جبل الشيخ بعد نحو ثلاث ساعات، وسيطرت على موقع المراقبة المهم (مرصد جبل الشيخ) التابع للجيش الإسرائيلي هناك.
بالنسبة لإسرائيل، رغم أن الجيش السوري كان أضعف وأصغر من الجيش المصري، لكن هجومه من الجولان كان شديد الخطورة، بحكم الموقع الجغرافي للهضبة المرتفعة القريبة من مناطق شمال إسرائيل السكانية الحيوية، وهي ليست بعيدة عن تل أبيب، العاصمة الفعلية للدولة العبرية، بينما هجوم الجيش المصري نفذه من جبهة بعيدة وكبيرة نسبياً، تسمح لها بتحمّل تحقيقه بعض التقدم.
ولذا ركزت إسرائيل في هذه الحرب على التحرك لهزيمة تقدم الجيش السوري، اعتماداً على أن الجيش المصري سوف يصعب عليه التقدم في سيناء بعيداً عن قواعد الصواريخ المضادة للطائرات الثابتة الموجودة على الضفة الغربية لقناة السويس، والتي تحميه من التفوق الجوي الإسرائيلي.
بعد ثلاثة أيام من القتال العنيف، تمكَّن الإسرائيليون من استعادة زمام المبادرة على الجبهة السورية، وشنوا هجوماً مضاداً مكَّنهم من التوغل في عمق الأراضي السورية، واستطاع الطيران الإسرائيلي أن يقصف ضواحي العاصمة دمشق.
وعلى الجبهة المصرية، رغم سيطرة القوات المصرية على شريط عريض من سيناء يقع شرق القناة، تمكن الجيش الإسرائيلي من اختراق الجبهة ووصل إلى مسافة تقل عن 100 كيلومتر من القاهرة (وذلك بعدما أدى قرار الرئيس المصري أنور السادات بتطوير الهجوم عكس المخطط سابقاً، لتخفيف الضغط على الجيش السوري، لتتقدم القوات المصرية دون غطاء من الدفاع الجوي لخلخلة الدفاعات المصرية، الأمر الذي سمح للقوات الإسرائيلية العبور إلى الضفة الغربية لقناة السويس عبر ثغرة بين الجيشين الثاني والثالث المصريين رصدتها طائرات الاستطلاع الأمريكية، وأبلغت بها الإسرائيليين ليقوموا بمحاصرة الجيش الثالث).
توتر بين أمريكا والاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط يتغيَّر للأبد
أدت الحرب إلى تصعيد التوترات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وبعد أسبوعين ونصف، اتفقت أطراف النزاع على وقف ثانٍ لإطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة، وتلا ذلك محادثات فض الاشتباك في عام 1974. واستمر الحظر النفطي العربي على دول الغرب الداعمة لإسرائيل حتى مارس/آذار من العام التالي.
ولم يعد الشرق الأوسط بعد هذه الحرب إلى ما كان عليه مرة أخرى. فقد تمكنت مصر من اغتنام ما حققته في الحرب للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأجرت محادثات أسفرت عن خروج الإسرائيليين من شبه جزيرة سيناء في أول اتفاق سلام تعقده دولة عربية مع إسرائيل. وكانت اتفاقية السلام في عام 1979 مدعاة غضب عربي واسع على مصر، إلا أن هذه الاتفاقية التي جرت بوساطة أمريكية كانت إيذاناً بابتعاد مصر عن الاتحاد السوفييتي، ومهَّدت الطريق لاتفاق السلام الإسرائيلي مع الأردن في التسعينيات، واتفاقات أبراهام اليوم.
بقدر ما ساهمت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 في إعادة أراضي مصر المحتلة، ولكن انخراط القاهرة في المفاوضات والسلام مع إسرائيل برعاية أمريكية قلل دورها القيادي العربي (إضافة لعوامل أخرى)، وأضعف مركزية القضية الفلسطينية في العالم العربي، حيث تغير شكل المحور القومي الاشتراكي العربي المتحمس للقضية، فارتفع دور سوريا تحت قيادة حافظ الأسد الذي انخرط في مخططات للسيطرة على لبنان، والتحكم في منظمة التحرير الفلسطينية، وابتعد عن أي محاولات جدية لتحرير الأراضي السورية أو بقية الأراضي العربية، مع استغلال شعارات تحرير الأراضي العربية والمقاومة لتنفيذ أجندته السياسية والطائفية في سوريا، ولبنان، وكان لافتاً عدم دعمه بشكل فعال المقاومة الفلسطينية المقيمة في لبنان، بل حاربها في كثير من الأحيان وأوقع بالفلسطينيين مذابح كبيرة.
أما العراق الذي ساعد مصر وسوريا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ثم قاد حملة المقاطعة لمصر بعد انخراطها في السلام مع تل أبيب، فرغم دعمه لبعض الفصائل الفلسطينية، فلقد انشغل في منافسته مع نظام الأسد وحروبه مع الأكراد، ثم دخل في حرب مع إيران بعد اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية، واستمرت هذه الحرب الدامية لثماني سنوات من 1980 إلى 1988، والتي لم تجعله قادراً على الرد على القصف الإسرائيلي لمفاعله النووي في عام 1981.
وتصاعد دور دول الخليج في السياسة العربية بعد تدفق ثروة هائلة عليها جراء ارتفاع أسعار النفط، وأصبح العالم كله يخطب ودهم، وفي الوقت ذاته، سعت الدول الغربية لتقليل اعتمادها على النفط بصفة عامة، ولا سيما النفط العربي، وخلق احتياطيات استراتيجية لمواجهة الأزمات بعدما وقف مواطنوها في طوابير بسبب أزمة الوقود المترتبة على الحظر النفطي العربي الذي فرض على الدول المؤيدة لإسرائيل خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
بينما انشغلت ليبيا تحت حكم رئيسها في ذلك الوقت معمر القذافي بمغامراتها الخارجية، ولا سيما مناوشاتها مع الولايات المتحدة.
عالمياً، أدى تخلي مصر عن تحالفها مع الاتحاد السوفييتي إلى إضعاف نفوذه في الشرق الأوسط، وكان ذلك مؤشراً لتراجع دوره العالمي وصولاً لانهياره.
كما تعرضت صناعة السيارات الأمريكية العملاقة لنكسة كبيرة بسبب اعتمادها على تصنيع سيارات ضخمة شرهة للوقود، بينما ذاع صيت السيارات اليابانية الصغيرة قليلة الاستهلاك ممهدة الطريق لثورة السيارات اليابانية التي اجتاحت العالم ومثلت أحد أركان المعجزة الاقتصادية اليابانية التي تمثل مرشداً للمعجزات الاقتصادية الآسيوية الأخرى وأشهرها الكورية ثم الصينية.
صدمة في إسرائيل، وحزب العمل تأكد من استحالة الاحتفاظ بالأرض بالقوة
وفي إسرائيل، أحدثت صدمة الحرب تحولاً في المشهد السياسي. فاستقالت رئيسة الوزراء غولدا مائير مع حكومتها بأكملها. أما حزب العمل الديمقراطي الاجتماعي، الذي كان يحكم إسرائيل منذ نشأتها، فقد انحدرت أحواله بعد ذلك، إلا أنه استخلص العبرة من الحرب بأن إسرائيل لا يمكنها أن تعول على التفوق العسكري فحسب، لذا فإن إسحاق رابين، الذي تولى السلطة بعد مائير، شرع في عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية.
وقالت ديانا بطو، المحامية الفلسطينية الكندية التي شاركت في مفاوضات السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، إن "مفهوم إسرائيل عن ضمان الأمن قد تغير بعد عام 1973، ولا تزال هناك أوجه تشابه مع الوضع الحالي". "فإسرائيل لا تزال تحاول أن تحقق انتصاراً عسكرياً دائماً على الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، إلا أنها لن تتمكن من ذلك أبداً، مهما حاولت"، حسبما نقلت عنها صحيفة The Guardian.
لذا فإن السؤال المطروح: متى يفيق الإسرائيليون ويدركون أنه لا مفر من إنهاء الاحتلال؟ لقد فككوا مستوطناتهم في سيناء ورحلوا عنها. وهو ما يعني أن الأمر ممكن الحدوث في أماكن أخرى.
من جهة أخرى، لا تزال مرتفعات الجولان أرضاً سورية محتلة بمقتضى القانون الدولي، لكن إسرائيل أعلنت ضمها بالكامل في عام 1981، ومنحت سكانها من الدروز الجنسية الإسرائيلية. أما اليوم، فينتشر في المنطقة مزيج غريب من النصب التذكارية للحرب، والمواقع المهجورة للجيش السوري، والمعابد والقلاع القديمة، ومزارع الصوب، وكروم العنب.
قدامى المحاربين يرون تعديلات نتنياهو القضائية الخطر الأكبر على الدولة العبرية الآن
ويرى كثير من قدامى المحاربين الإسرائيليين أن أكبر تهديد لمستقبل إسرائيل اليوم هو التهديد الداخلي المتمثل في الإصلاح القضائي الذي أقرته حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حسب تقرير The Guardian.
ولذلك، فإن الحركة الاحتجاجية الضخمة التي تعارض هذه التعديلات تضم عشرات الآلاف من قدامى المحاربين وجنود الاحتياط، إذ يقول هؤلاء إن نتنياهو وحلفاءه في الائتلاف اليميني المتطرف عازمون على تحويل إسرائيل إلى دولة استبدادية دينية. وحذر قادة الجيش الإسرائيلي مراراً من أن الأزمة الداخلية تؤثر على الاستعداد العملياتي للجيش.
وقال عتير، رقيب فصيلة الدبابات الذي قاتل في الجولان قبل خمسين عاماً: "لم أحسب قط أن شيئاً كهذا يمكن أن يحدث، لكنه وقع الآن. ونحن المحاربين القدامى من حرب 1973 ندرك أننا قد استُدعينا مرة أخرى للحرب"، وقد كنا "حين خرجنا للقتال آنذاك، نعرف لماذا ومن نقاتل. وأنا أشعر بالشيء نفسه الآن في هذه الاحتجاجات، إذ يعتبر أنه يقاتل من أجل الحرية ومستقبل بلاده"، حسب تعبيره.