عكست دعوة الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب في الشرق، المجتمع الدولي للمشاركة في مؤتمر إعادة إعمار درنة، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الرغبة في انتزاع اعتراف دولي بدلاً من حكومة الوحدة في الغرب المعترف بها، ولكن من بوابة الأزمة الإنسانية التي خلفها الإعصار الذي ضرب مدينة درنة (شرق)، الواقعة تحت نفوذها.
فرغم حالة التضامن بين مختلف فئات الشعب مع مأساة درنة، التي خلفت آلاف القتلى والمفقودين، وقوافل المساعدات المنطلقة من مدن الغرب إلى المناطق المنكوبة في الشرق، فإن الوضع على الصعيد السياسي يخفي تنافساً صامتاً بين الحكومتين في "شرعية الأمر الواقع"، وإدارة أموال إعادة الإعمار.
تنافس سياسي على إعادة إعمار درنة الليبية
ثمة تنافس سياسي بين حكومتي عبد الحميد الدبيبة في العاصمة طرابلس (غرب)، وأسامة حماد في مدينة بنغازي (شرق) على إغاثة المنكوبين، وأموال إعادة الإعمار، وأيضاً على المساعدات الدولية التي تدفقت من أكثر من 20 دولة وهيئة إغاثية عالمية، كما يقول تقرير لوكالة الأناضول.
وبحكم تمتعها بالاعتراف الدولي، فإن أغلب المساعدات الدولية تصل إلى ليبيا عبر حكومة الوحدة، كما أن مصرف ليبيا المركزي، حتى بعد توحيده، لا يعترف سوى بحكومة الدبيبة، التي تمتلك موارد مالية ومادية وبشرية أكبر، ما يعطيها أفضلية من حيث تقديم المساعدات للمنكوبين في الشرق، وبالتالي مشروعية جديدة خارج مناطق سيطرتها.
في المقابل، تحاول الحكومة المكلفة من مجلس النواب في الشرق تعويض نقص مواردها المادية والمالية بمحاولة "فرض الأمر الواقع"، على اعتبار أن درنة والمناطق المتضررة من الإعصار والفيضانات تقع جميعها تحت نفوذها وسلطة قوات الشرق بقيادة خليفة حفتر.
وبناء على هذا الأمر الواقع، يتهم ناشطون من المنطقة الغربية حكومة حماد وقوات حفتر، بعرقلة دخول قوافل المساعدات التي ترسلها حكومة الوحدة ومتطوعون من مدن الغرب إلى المناطق المنكوبة في الشرق.
وفي هذا الصدد، يبرر النائب إبراهيم الدرسي، الداعم لحكومة حماد، أسباب عرقلة دخول قوافل حكومة الوحدة إلى المناطق المنكوبة، بالقول "الكارثة وقعت في الشرق، وبالتالي من الطبيعي ألا تفسح حكومة الشرق المجال لحكومة الغرب للتدخل".
ودعا الدرسي، في تصريح تلفزيوني، المصرف المركزي، بعد توحيده، إلى تسييل الأموال لحكومة أسامة حماد، قائلاً "يجب أن نتعامل مع الواقع". بينما وجّهت الحكومة المكلفة من مجلس النواب، التي لا تعترف بها سوى القاهرة، دعوة للمجتمع الدولي لحضور مؤتمر لإعادة إعمار درنة، وفي المدينة المنكوبة. الأمر الذي اعتبره ناشطون إعلاميون في المنطقة الغربية محاولة من "حكومة غير معترف بها دولياً لتحقيق مكاسب سياسية".
أزمة حول "أموال" إعادة الإعمار
أثار اعتماد مجلس النواب، خلال جلسة طارئة، ميزانية تقدر بـ10 مليارات دينار ليبي (أكثر من ملياري دولار) لإعادة إعمار درنة، أزمة سياسية مع المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، الذي اعترض على هذا القرار.
إذ كان من الغريب أن تتدخل مؤسسة تشريعية (مجلس النواب) في تخصيص أموال لا تملكها، رغم أن ذلك من صلاحيات المؤسسة التنفيذية (الحكومة).
ففي زلزال المغرب، وقبله زلزال تركيا وسوريا، لم نسمع أي برلمان اعتمد ميزانية طارئة، وطلب من البنك المركزي تخصيصها لإعادة الإعمار، متجاوزاً بذلك المؤسسة التنفيذية.
وهذا ما أثاره رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، في مراسلة رسمية لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لفت فيها نظره إلى أن الإنفاق لمواجهة احتياجات طارئة خصص له بند في قانون الميزانية تتولى الحكومة الصرف على تلك الاحتياجات دون تدخل تشريعي.
تكالة، نبه عقيلة صالح، إلى أن قانون الميزانية تتولى السلطة التنفيذية إعداده وعرضه على مجلس الدولة، وهو ما لم يتم، وأنه في مثل هذه الظروف يعتبر (قانون الميزانية) "أمناً قومياً ليس لأحد أو جهة التفرد به، لما قد يحيط به من استغلال ولبس وتشويش".
لكن ما لم يقله تكالة، أن هذه الميزانية الضخمة التي تتجاوز ملياري دولار، يسعى مجلس النواب لأن يقنع المصرف المركزي برئاسة المحافظ "الصديق الكبير"، بصرفها لحكومة حماد، وتهميش حكومة الوحدة، تحت ذريعة إعادة الإعمار.
مطالبات لجهات دولية بإعادة الإعمار في درنة
ويعبر ناشطون في الغرب الليبي ومنكوبون في درنة، عن خشيتهم من أن يتم تحويل "أموال إعادة الإعمار" إلى غير وجهتها، ويطالبون بأن تتولى جهات دولية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي الإشراف على عملية إعادة الإعمار.
وفي هذا السياق، طلبت حكومة الوحدة الوطنية رسمياً من البنك الدولي المساعدة في إدارة أموال إعادة إعمار المناطق والمدن التي ألمّت بها خسائر هائلة بسبب الإعصار.
وجاء هذا الطلب في خطاب لوزير المالية بحكومة الوحدة خالد المبروك، إلى الممثلة المقيمة لمجموعة البنك الدولي في ليبيا "هنرييت فون كالتنبورن"، مؤرخ في 12 سبتمبر/أيلول الجاري.
وحددت حكومة الوحدة طلب المساعدة في 3 نقاط: تقييم سريع للأضرار، وإنشاء برامج للتحويلات النقدية السريعة والطارئة للمتضررين، وإدارة أموال إعادة الإعمار المرتقبة.
ومن خلال هذه الخطوة التي جاءت بعد يومين من الإعصار الذي ضرب درنة، تكون حكومة الوحدة نزعت مسبقاً من الحكومة المكلفة من البرلمان ورقة "إدارة أموال إعادة الإعمار المرتقبة".
فحكومة الدبيبة، تدرك جيداً أنه من الصعب عليها إدارة أموال إعادة الإعمار في مناطق خارج سيطرتها، وبالتالي فهي تحت رحمة حكومة حماد، وداعميها (عقيلة وحفتر)، لذلك عرضت على البنك الدولي أن يتولى إدارة هذه الأموال.
الانقسام يعرقل إعادة الإعمار
رغم أن الأضرار التي خلفها الإعصار والفيضانات التي تسببت في انهيار سدي درنة أكبر من طاقة ليبيا بكل مؤسساتها، ومع ذلك فإن الانقسام بين حكومتين واحدة في الغرب وأخرى في الشرق صعّب من مهام الإغاثة، بل دفع أطرافاً دولية للتريث في تقديم المساعدات.
فالحكومة المعترف بها دولياً موجودة في الغرب، والمناطق المنكوبة توجد في الشرق، وما بينهما حقول من الألغام الحربية والسياسية تعرقل إيصال المساعدات بالسرعة المطلوبة، في الوقت الذي يمكن لأي لحظة أن تنقذ حياة إنسان.
فالوحدة والتآزر بين أفراد الشعب الليبي، سواء من الغرب أو من الشرق، لم ينعكسا بالقدر نفسه على المشهد السياسي الذي ما زال ممزقاً بين حكومتين، رغم قوافل المساعدات الإغاثية والتقنية التي أرسلتها حكومة الوحدة إلى المناطق المنكوبة، فضلاً عن أسطول من الطائرات التي كانت تنقل المساعدات والمتطوعين مجاناً.
هذا الوضع دفع منكوبي درنة إلى تنظيم احتجاجات بالمدينة في 18 سبتمبر، طالبوا فيها رئيس مجلس النواب بالرحيل، ودعوا إلى محاسبة المسؤولين عن الكارثة، والإسراع في إعادة الإعمار، وتحقيق الوحدة الوطنية، ونددوا بالتفرقة.
هذه الاحتجاجات أثارت قلق المسؤولين في الشرق من أن تمتد إلى بقية مدن برقة كما حدث في 2020، لذلك تم التضحية بالمجلس البلدي لدرنة، حيث أقالته حكومة حماد، التي يزداد عليها الضغط الشعبي، خاصة مع دعوات لفتح تحقيق محلي ودولي في المتسببين والمقصرين في انهيار سدي درنة.
ويمثل الحصول على أموال إعادة الإعمار، سواء من المصرف المركزي أو من المجتمع الدولي، ضرورة لحكومة حماد، لامتصاص غضب المنكوبين والشعب الليبي، خاصة أن ميزانية الدولة تذهب أغلبها إلى حكومة الوحدة.
فتداعيات فيضانات درنة على المشهد السياسي "المجمد" لم تتوقف، بل ربما لم تبدأ بعد، في ظل انهماك الجميع في انتشال الجثث وإغاثة المنكوبين، لكن المرحلة المقبلة من شأنها زيادة الضغط الشعبي لإنهاء الانقسام السياسي، فإعادة إعمار درنة لن يتم بالسرعة المطلوبة إلا بسلطة تنفيذية موحدة.