تستحوذ طرق النقل البحرية على 90% من الشحن التجاري العالمي، وتنتقل من خلالها البضائع ومكونات الإنتاج والسلع إلى مختلف الأسواق في جميع أنحاء العالم. ويدل هذا على أن التجارة البحرية شديدة الأهمية للعالم، لكنه يشير كذلك إلى أنها سريعة التأثر بعوارض الخطر، إذ يمكن أن تتعطل بسهولة بسبب الأوبئة، أو اختناقات الموانئ، أو جنوح السفن الكبيرة في القنوات. وفي حروب اليوم، لا يتطلب الأمر أسطولاً لمنع السفن من نقل السلع الأساسية إلى الخصوم، بل يكفي الدول لكي تشل حركة الشحن إلى أعدائها أن تحسن جمع المعلومات واستغلالها لتكون سلاحاً لها في المواجهة.
هل تستخدم الصين الشحن البحري العالمي في أعمال التجسس والمراقبة؟
تقول مجلة The Foreign Policy الأمريكية إن الحكومة الصينية أمضت العقود الثلاثة الماضية في السعي من أجل الوصول وحيازة النفوذ في البحار المفتوحة، وممرات الشحن الاستراتيجية، والموانئ الأجنبية في آسيا وفي جميع أنحاء العالم.
وباتت الصين تمتلك، أو تشارك في ملكية أو تشغيل نحو 96 ميناء أجنبياً في أرجاء العالم، وهي لا تتوقف عن التوسع في ذلك. ولا يعني ذلك أن الملكية الأجنبية للموانئ أو السيطرة عليها خطر في ذاته؛ فشركات كثيرة من هولندا وسنغافورة والإمارات تمتلك وتدير العشرات من الموانئ الخارجية.
ومع ذلك، فإن اشتغال الصين بملكية الموانئ وإدارتها ينطوي على أمرين مثيرين للشبهة بحسب المجلة الأمريكية:
أولاً، أن الصين أنشأت بنية تحتية ضخمة وغير مفهومة لجمع المعلومات في الموانئ الحيوية في مختلف أنحاء العالم.
ثانياً، تفرض القوانين الصينية على جميع الشركات الصينية العاملة في الخارج -سواء الخاصة أو المملوكة للدولة- جمع المعلومات الاستخبارية عن الكيانات الأجنبية وتقديمها إلى الحكومة الصينية.
يبلغ عدد موانئ الحاويات الكبرى في العالم خارج البر الرئيسي الصيني نحو 75 ميناء. وتمتلك الصين ما يقرب من نصف هذه الموانئ أو لديها حصة في ملكيتها تُتيح لها استعمال محطات هذه الموانئ، ومراكز الإمداد، والأحواض الجافة، والمخازن.
ويقع أكثر من نصف الأصول البحرية الصينية في الخارج على ممرات الشحن الرئيسية في المحيط الهندي (ميناء هامبانتوتا في سريلانكا)، والبحر الأحمر (ميناء جيبوتي)، وقناة السويس (ميناء السخنة في مصر، والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس)، والبحر المتوسط (ميناء حيفا في إسرائيل، وميناء بيرايوس في اليونان)، وغيرها من الموانئ.
فورين بوليسي: أنشطة مراقبة واسعة النطاق
ويعتمد الانتشار البحري الصيني على مجموعة متفاوتة من المرافق الصغيرة والموانئ الكبيرة ذات السيطرة التشغيلية الممتدة، وهو ما يفتح للصين البابَ أمام جمع المعلومات وممارسة الأنشطة الاستراتيجية الأخرى.
وتزعم مجلة The Foreign Policy أن مرافق الشحن الصينية في الخارج تستخدم كذلك كمحطات لجمع البيانات والاستخبارات وأنشطة المراقبة واسعة النطاق. وتستخدم كثير من الموانئ في العالم نظام البرمجيات اللوجستي الصيني، "لوجنيك" LOGINK، لتتبُّع المعلومات التجارية والسوقية والبحرية، وحركة السفن والبضائع، والمعلومات الجمركية، وبيانات الفواتير والدفع، وبيانات تحديد الموقع الجغرافي، ومعلومات الأسعار، والملفات التنظيمية، والتصاريح والتراخيص، وبيانات الركاب والمعلومات التجارية، وبيانات الحجز.
وتستعين الموانئ المملوكة للصين بأبراج اتصالات "جي 5″، وتوفر هذه الشبكة أنظمة التشغيل لأجهزة الكمبيوتر في مرافق الموانئ. وجديرٌ بالذكر هنا أن المسؤولين الأميركيين يحققون في مزاعم بأن رافعات الشحن الصينية تُستخدم للتجسس. وادعى خبراء غربيون أن أنشطة بكين المنهجية في جمع المعلومات يمكن أن تُستغل في تحديد الثغرات الحرجة في التجارة الغربية وسلاسل التوريد، وأن تُساعدها في تتبع شحن الإمدادات والمعدات والمكونات العسكرية.
وتدير بكين قاعدة بحرية أجنبية واحدة فقط -في جيبوتي- أما البحرية الأمريكية فتتحكم في شبكة عالمية واسعة من الموانئ التابعة لها والقواعد المشتركة. ومع ذلك، فإن الموانئ التجارية الصينية تستضيف السفن العسكرية الصينية بانتظام، ومن ثم يمكن أن تكون هذه الموانئ محطات إمداد مهمة، أو منشآت لإصلاح السفن إنْ اشتعل الصراع بين الصين والقوى الغربية. ولتحقيق هذه الغاية، تتزايد مساعي الصين نحو تمكين التشغيل البيني لمرافق البنية التحتية البحرية، بحيث تجمع بين الأغراض المدنية والعسكرية.
بيانات الشحن كسلاح
ومن جهة أخرى، فإن شركات الموانئ والشحن والخدمات اللوجستية الصينية ملزمة قانوناً بجمع المعلومات للحزب الشيوعي الصيني، في حين أن القانون الصيني يحظر تمرير بيانات الشحن، مثل إشارات مواقع السفن، إلى البلدان الأخرى.
علاوة على ذلك، فإن جميع الموانئ المدنية (اسمياً) التي أسهمت الصين في بنائها بالخارج صُممت على نحو يتيح للسفن الحربية الصينية أن تستخدمها في الأغراض العسكرية. ويفرض القانون الصيني على جميع المرافق والمنشآت المملوكة للمدنيين أن تقدِّم الدعم للجيش الصيني في أوقات الصراع. والواقع أن ما يقرب من ثلث الموانئ التي تمتلك فيها الشركات الصينية استثمارات، استضافت سفناً بحرية صينية.
وتدعي المجلة الأمريكية كذلك أنه لما كانت معظم البضائع المنقولة بحراً في العالم تمر عبر البنية التحتية الصينية أو بالقرب منها، فإن بكين يمكنها بسهولة أن تستغل المعلومات التي تجمعها من خلال هذه المرافق للاستيلاء على السلع المهمة لخصومها، مثل الأدوية؛ وأن تقطع الطريق على وصول الإمدادات العسكرية للأعداء أو تؤخرها؛ أو تحتجز الإمدادات الأساسية لخصومها في المخازن، دون الحاجة إلى عمليات انتشار بحرية.
وتزعم المجلة أن نجاح الاستراتيجية البحرية للصين يمنح بكين القدرة على خنق الاقتصاد الدولي متى ما أرادت، وهي لا تحتاج في ذلك إلى الاستيلاء على الموانئ أو إغلاق قناة السويس، وإنما يكفيها أن تسيطر على البنية التحتية والمعلومات.
وفي الختام تحث المجلة الحكومةَ الأمريكية على إجراء دراسة شاملة لأخطار النفوذ الصيني على سلاسل التوريد العالمية، وما تنقله من إمدادات زراعية ومكونات الطبية ومعدات العسكرية، وغير ذلك من المنتجات التي تمر عبر الموانئ التي تديرها الصين أو تُسيطر عليها.
وتقول المجلة إن على الولايات المتحدة أن تضع الخطط لحماية المصالح التجارية والعسكرية الأمريكية من التوسع البحري الصيني، ويشمل ذلك التعاون مع الحلفاء للحيلولة دون استعمال الصين سيطرتها على أنظمة الخدمات اللوجيستية البحرية في استغلال بيانات الشحن والتجارة وتحويلها إلى سلاح تستخدمه في وجه خصومها.