لم يفاجأ محمد توهتي عند سماعه إعلان رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، عن تحقيق السلطات في "مزاعم موثوقة" حول تورُّط عملاء للحكومة الهندية في مقتل ناشط بارز من السيخ على الأراضي الكندية.
إذ قال توهتي، زعيم مشروع الدفاع عن حقوق الإيغور في أوتاوا، إن تصريحات ترودو النارية بمجلس العموم يوم الإثنين 18 سبتمبر/أيلول 2023، كشفت للعالم ما حذّرت منه جاليات الشتات في كندا طويلاً. حيث تقول تلك الجاليات إن حكومات أوطانهم الأم اعتادت مضايقتهم، وتخويفهم، وتهديدهم داخل منازلهم ومدارسهم وفي كل مكانٍ آخر.
ويزعم هؤلاء وغيرهم أن السلطات الكندية فشلت في التعامل مع مزاعمهم بجدية، أو توفير الحماية، أو التصدي بشكلٍ كافٍ للتهديد الذي حذرت وكالات الاستخبارات من تناميه، كما تقول صحيفة Washington Post الأمريكية.
ليس الهند فحسب.. هكذا تلاحق الصين وغيرها المعارضين في كندا
وتلقى عملاء الصين اتهامات بتعبئة الطلاب الصينيين من أجل مراقبة منتقدي بكين، وإجبار المعارضين على العودة إلى وطنهم الأم. فيما اختفى ناشط سعودي بعد زيارةٍ لسفارة المملكة في أوتاوا. بينما يقول الإيرانيون في كندا إنهم يتعرضون للمراقبة والتعقب أثناء الاحتجاجات وأمام منازلهم.
واستمع توهتي إلى شكاوى أقرانه من الإيغور في المنفى، حيث تحدثوا عن تلقيهم اتصالات تهديد هاتفية من جانب عملاء للصين على ما يبدو. وتلقى توهتي بعض هذه المكالمات أيضاً، والتي جاءت آخرها في فبراير/شباط، في أثناء ضغطه لتمرير مقترح في البرلمان لإعادة توطين 10 آلاف لاجئ من الإيغور في كندا.
وأردف أن إعلان ترودو بشأن مقتل الزعيم السيخي الهندي هارديب سينغ نجار، في سوري بكولومبيا البريطانية، خير دليلٍ على "الإخفاق الكندي الكارثي" في التطرق إلى المسألة. بينما رفضت الحكومة الهندية اتهامات ترودو قائلةً إنها مجرد حيلة لتشتيت الانتباه عما تقول نيودلهي إنها المشكلة الحقيقية: إيواء كندا للإرهابيين الانفصاليين.
فيما يقول ستيفن براون، الرئيس التنفيذي للمجلس الوطني لمسلمي كندا، إنه كان يتوقع ذلك. حيث صرّح للمراسلين في أوتاوا خلال الأسبوع الجاري قائلاً: "لقد حذرنا نحن وكل الخبراء الموثوقين الآخرين تقريباً من أنها ستكون مسألة وقت قبل أن تصل أفعال الحكومة الهندية إلى السواحل الكندية".
"كندا هي فتى الحي الصغير الذي يسهل ضربه"
وتعكف الحكومات الأجنبية المستبدة على جعل منتقديها المغتربين في كندا عبرةً لغيرهم بحسب المحللين، مستغلةً بذلك جاليات الشتات المهاجرة الكبيرة داخل بلدٍ يعرفون أنه أقل حماية -وجاهزية- من حلفائه الأكثر قوة.
إذ تُعتبر كندا بمثابة "الثمرة الدانية" بين بقية شركائها الغربيين وفقاً لمحللة الأمن القومي السابقة ستيفاني كارفين، وهي أستاذة مساعدة في العلاقات الدولية بجامعة كارلتون في أوتاوا.
وقالت ستيفاني: "هناك تقدير بأن دول الاتحاد الأوروبي تتكاتف معاً، وأن الولايات المتحدة تستطيع الدفاع عن نفسها. لكن كندا منعزلةٌ بشكلٍ متزايد، ولهذا يمكن اعتبارها ساحة اختبار".
واتفقت معها في الرأي بسمة المومني، عالمة السياسة في جامعة واترلو، حيث قالت: "الهدف في الواقع هو أن يبعثوا إلى بقية العالم برسالةٍ فحواها: 'لا تستفزونا'. حيث تُعَد كندا بمثابة فتى الحي الصغير الذي يسهل ضربه".
مشكلة أمن قومي؟
بينما يقول المحللون إن الدولة التي يقطنها 40 مليون نسمة وتحدها المحيطات من ثلاث جهات، والولايات المتحدة من الرابعة، لم تجعل الأمن القومي من بين أولوياتها. ولم تضع كندا أي استراتيجية أمن قومي منذ 19 عاماً. بينما تؤدي أوجه النقص العسكرية إلى تقييد نطاق علاقاتها مع الحلفاء. ولم تعلن كندا عن تأسيس مجلس للأمن القومي سوى مؤخراً.
وأوضحت جيسيكا دافيس، المحللة السابقة لجهاز الاستخبارات والأمن الكندي، أن الكنديين ينظرون إلى بلادهم عادةً باعتبارها آمنةً نسبياً وبعيدةً عن المكائد السياسية التي تتكشف حول العالم. وأردفت جيسيكا مستدركة: "لكن الفترة الأخيرة شهدت بعض التحولات الجيوسياسية التي جعلت الحلفاء عاجزين عن الدفاع عنا بالطرق المعتادة نفسها".
تأتي اتهامات ترودو في قضية نجار وسط تدقيق متزايد في مسألة التدخل الأجنبي في الشؤون الكندية. لهذا فتحت حكومة ترودو الليبرالية، الشهر الجاري، تحقيقاً عاماً في تدخلات "الصين وروسيا وغيرهما من الدول أو الجهات غير الحكومية الأجنبية"، وذلك تحت ضغط من أحزاب المعارضة.
بينما قضى المحافظون وغيرهم غالبية أوقاتهم هذا العام في المطالبة بفتح تحقيق إثر نشر صحيفة The Globe and Mail تقارير استخباراتية مسربة. وأشارت التقارير إلى سعي الصين لجمع معلومات عن المشرعين الكنديين الناقدين لبكين، ونشر معلومات كاذبة، والتدخل في السياسات الكندية قبل الانتخابات الفيدرالية عام 2021 بهدف عودة حكومة الأقلية الليبرالية الخاصة بترودو.
وقد خرجت الانتخابات بتلك النتيجة فعلاً. ثم صرح رئيس المخابرات الكندية مع لجنة من الموظفين المدنيين العام الجاري، بعدم وجود أدلة على أي تأثير للتدخل الأجنبي. وقال محللون إن التأثير على النتيجة فعلياً أمر صعب التحقيق. ونفت الصين من جانبها أي تدخل في السياسات الكندية في أكثر من مناسبة.
الثقافة الكندية تشجع جاليات الشتات على الاحتفاظ بهوياتها المهاجرة
ينمو تعداد جاليات المهاجرين في كندا بوتيرة متسارعة. إذ ارتفع تعداد السكان بمقدار مليون نسمة في العام الماضي للمرة الأولى، ويرجع سبب الزيادة إلى الهجرة الدولية بشكلٍ شبه كلي.
وتقول بسمة إن الثقافة الكندية تشجع جاليات الشتات على الاحتفاظ بهوياتها المهاجرة، عكس الولايات المتحدة. وأردفت: "ننظر إلى الأمر باعتباره لوحة فسيفساء ثقافية بدلاً من بوتقة انصهار".
ويحافظ الوافدون الجدد على اتصالهم بسياسات أوطانهم أو نشاطهم السياسي عادةً، ما يحولهم إلى أهداف سهلة لحكومات بلدانهم الأصلية أو مؤيديها داخل كندا.
وقال جهاز الاستخبارات والأمن الكندي في تقريره العام الماضي: "يكتشف الأفراد الهاربون من القمع أو الباحثون عن حياة أفضل في كندا أنه من الصعب إيجاد الملاذ هنا عادةً".
وفي عام 2017، سردت منظمة العفو الدولية تفاصيل "نمط المضايقات والترهيب" الذي يتعرض له نشطاء حقوق الإنسان في كندا على يد الحكومة الصينية وعملائها، الذين قالت المنظمة إنهم "تشجعوا" بسبب سوء استجابة السلطات. وأصدرت المنظمة نسخة محدثة من ذلك التقرير عام 2020، لكن تشيوك كوان الذي ساعد في جمع الشهادات للتقريرين، قال إن السلطات تجاهلت التقرير في المناسبتين.
أما بالنسبة لأليكس نيفي، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية في كندا، فقد صرّح أمام لجنة برلمانية عام 2020 بأن الأشخاص المستهدفين بالتخويف عادةً ما يجري إرسالهم من وكالة إنفاذ قانون إلى أخرى، ويخبرونهم بأنه ليس بإمكان الوكالات تقديم مساعدة كبيرة.
الافتقار إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية
وتفتقر كندا إلى ثقافة تبادل المعلومات الاستخباراتية بين أفرع الحكومة، عكس شركائها الغربيين. حيث قال توماس جونو، المحلل السابق في وزارة الدفاع الكندية، إن وكالات الأمن الكندية تميل إلى العمل في صوامع عادةً.
اتخذت الحكومة خطواتها مؤخراً من أجل الاستجابة لتهديد التدخل الأجنبي. وقد أجرت مشاورات حول استخدام سجل العملاء الأجانب المخطط له الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة وغيرها من الدول، والذي سيُلزم أي شخص يتحرك بالنيابة عن حكومة أجنبية بأن يكشف عن اتصالاته. لكن الحكومة لم تقدم أي تشريعات في هذا الصدد حتى الآن. كما ذكرت الحكومة في يوليو/تموز، أنها ستنشئ مجلساً للأمن القومي، لكنها لم تكشف أي تفاصيل إضافية بعد.
ورفض ترودو دعوات فتح تحقيق علني أول الأمر، واختار تعيين محقق خاص حتى يحصل على مشورته في ما إذا كان التحقيق ضرورياً أم لا. وقد أوصى المحقق بعدم فتح التحقيق بحجة أن مواد الأمن القومي الحساسة لا يمكن فحصها أمام العامة.
إذ قال المحقق ديفيد جونستون، إنه لم يعثر على أدلة بأن ترودو أو حكومته قد "تعمدوا تجاهل معلومات استخباراتية" أو أن المخاوف الحزبية هي التي حركت أسلوب تعاملهم مع مسألة التدخل الأجنبي.
وكتب ديفيد في تقريره: "رغم ذلك، وجدت أوجه قصور خطيرة في طريقة توصيل المعلومات الاستخباراتية من وكالات الأمن إلى مختلف فروع الحكومة. ولا بد من علاج هذه الفجوات الخطيرة وتصحيحها".
كما شهد أحد الأمثلة إرسال جهاز الاستخبارات والأمن الكندي مذكرة حول المعلومات الاستخباراتية التي كانت الصين تبحث عنها لاستهداف عضو برلمان كندي، لكن وزير السلامة العامة الكندي لم ير المذكرة مطلقاً، لأنه لم يكن يستطيع الوصول إلى رسالة البريد الإلكتروني على الشبكة شديدة السرية المستخدمة في إرسالها.