كشفت دراسة دورية تُجريها ألمانيا منذ أكثر من 20 عاماً عن زيادة لافتة في نسبة المعتنقين لأفكار اليمين المتطرف ومعاداة الديمقراطية، فماذا يعني ذلك لأوروبا والعالم؟
الدراسة التي تجرى بصورة منتظمة منذ عام 2002، تركز على رصد كيف يفكر المجتمع الألماني والمواقف التي يتبناها، لكن النتيجة التي توصلت إليها هذا العام 2023 تبدو مثيرة للقلق، فما الذي يجعل دراسة عن توجهات المجتمع الألماني مقلقة وجديرة بالاهتمام والمتابعة؟
أجرى الدراسة فريق بحث من جامعة بيليفيلد بتكليف من مؤسسة فريدريش إيبرت (FES)، المقربة سياسياً من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأظهرت نتائجها أن واحداً من بين كل اثني عشر شخصاً في ألمانيا لديه نظرة يمينية متطرفة للعالم، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
ألمانيا.. الحنين إلى "النازية"
كانت ألمانيا قد شهدت خلال عام 2022 فقط 55 ألف جريمة عنصرية، في مؤشر يراه كثيرون دليلاً على أن وحش اليمين المتطرف قد خرج بالفعل عن السيطرة في الدولة الأوروبية التي يصنَّف أكثر من ربع سكانها كمهاجرين.
وأصبح اليمين المتطرف، خلال السنوات القليلة الماضية، يمثل قلقاً أمنياً للغرب بشكل عام، بعد أن اجتذبت الأفكار العنصرية لذلك التيار الشعبوي أتباعاً بالملايين وأصبحت الأحزاب السياسية والسياسيون الذين يمثلونها رقماً صعباً في الحياة السياسية بتلك الدول الديمقراطية، من الولايات المتحدة وكندا إلى أستراليا ونيوزيلندا، مروراً بأوروبا الغربية.
واليمين المتطرف هو الفكر القائم على تفوق الرجل الأبيض المسيحي، والذي يعادي المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، ومن أبرز السياسيين الممثلين لتلك الحركة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وفي أوروبا، كان الملف الرئيسي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا هو العداء للمسلمين؛ سعياً لكسب أصوات اليمين المتطرف، سواء من الفائز إيمانويل ماكرون أو الخاسرة مارين لوبان.
وفي ألمانيا، شهدت السنوات القليلة الماضية صعوداً ملحوظاً لليمين المتطرف، وأصبح حزب البديل من أجل ألمانيا– الممثل لذلك التيار- حاضراً ويحقق نتائج متصاعدة قرَّبته بالفعل من المشاركة في الائتلاف الحكومي خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة العام الماضي وتلك التي سبقتها.
ومن المفترض أن يكون ذلك الصعود لليمين المتطرف- في ألمانيا تحديداً- سبباً للقلق الشديد، ليس لألمانيا فحسب بل لأوروبا والعالم أجمع، على أساس أن البلاد كانت مهداً للزعيم النازي أدولف هتلر وللنازية، وأشعلت ألمانيا الحربين العالميتين، والآن يطل النازيون الجدد برأسهم بشكل واضح.
وهذا التوصيف ليس تحليلات فقط ولا هو تحذيرات من مراكز بحثية وحسب، بل جاء على لسان توماس هالدنفانغ، رئيس الهيئة الاتحادية الألمانية لحماية الدستور، أي جهاز الاستخبارات الداخلية، حيث حذَّر من تعرُّض ألمانيا لخطر اليمين المتطرف الميَّال إلى استخدام العنف والاغتيالات، بعد أن سجل العامين السابقين زيادة قياسية في نسبة المنضمين لهذا الفكر.
وبالعودة إلى الدراسة الأخيرة، التي يتكرر بحث معطياتها مرة كل عامين، فقد تمت مقابلة حوالي 2000 شخص تتراوح أعمارهم بين 18 و90 عاماً في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2023 وذلك من أجل قياس التوجهات، وأظهرت النتائج وجود 8% من المستطلعة آراؤهم لديهم توجه يميني متطرف واضح.
ومقارنة بأعوام ماضية فقد أظهرت الدراسة زيادة نسبة التوجه نحو اليمين المتطرف بالنسبة للألمان الذين تم سؤالهم، حيث كانت هذه النسبة تتراوح، قبل عامين فقط، بين 2 و3%.
أما حالياً، ففي جميع الفئات العمرية، تظهر النتائج أن 5 إلى 7% من المستطلعة آراؤهم تؤيد أن يحكم ألمانيا ديكتاتور مع حزب واحد قوي وأن يعتبر الحاكم زعيماً (كناية عن الاستبداد والتحكم المطلق بالأمور).
لماذا تنتشر أفكار اليمين المتطرف؟
وبقياس ذلك الارتفاع على المدى المتوسط، فإن هذه النسبة تعني تضاعف أعداد المؤيدين لها مقارنة بأرقام نتائج السنوات الماضية. وتوضح الباحثة فرانسيسكا شروتر، التي ترأس مشروع مكافحة التطرف اليميني في مؤسسة فريدريش إيبرت، أن التعاطف المتزايد مع المواقف الاستبدادية باتت ضمن الأمور اللافتة في الدراسة بالتزامن مع الأزمات العديدة التي ظهرت.
وبحسب الباحثة، لم يتم التغلب على عواقب جائحة كورونا بعد، كما أن أزمة التغير المناخي ما زالت قائمة. ومنذ فبراير/شباط 2022، جلب الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، المزيد من الشكوك والمخاوف بشأن أمن الطاقة أو زيادة الأسعار. ويمكن التعامل مع هذه الأزمات المتعددة ضمن الدراسة بشكل جماعي أو بشكل منفرد وبمعزل عن بعضها البعض.
وتم نشر الدراسة، التي تحمل عنوان "Die distanzierte Mitte" أو "الوسط المتحفظ" بقيادة عالم النفس الاجتماعي في بيليفيلد، أندرياس تسيك، وهو يشير إلى أنه كلما قلَّ المال الذي يكسبه المتضررون، زاد انتشار المواقف اليمينية المتطرفة.
"ينظر المزيد من الألمان إلى الأزمات على أنها أزمات قومية. وهذه الأزمات تصيب الأشخاص الذين لديهم رأس مال أقل بشكل أقوى. ومن بين المشاركين في الدراسة من ذوي الدخل المنخفض، يشعر واحد من كل شخصين (48%) بأنه متأثر شخصياً بالأزمات، وذلك مقارنة مع 27.5% من ذوي الدخل المتوسط و14.5% فقط من أصحاب الدخل المرتفع".
وكان تقرير للاستخبارات الداخلية الألمانية عام 2020 قد أظهر زيادة كبيرة للغاية في "أعداد المتطرفين، ومن ضمنهم أولئك المستعدون لاستخدام العنف، يزداد بشكل مطرد"، وأوضح أن مكتب حماية الدستور سجل زيادة في أعداد الأشخاص الذين يعتنقون أفكاراً يمينية متطرفة ومصنَّفون على أنهم "خطرون"، والذين كان عددهم لا يزيد على 30 فقط عام 2017.
أما تقرير عام 2020 فقد وضع رقم هؤلاء اليمينيين المتطرفين عند 33 ألفاً و300 شخص، 40% صُنِّفوا على أنهم يمثلون "خطراً"، بسبب ميلهم إلى استخدام العنف، ولأنهم مستعدون لاستخدام العنف ويحرضون على استخدامه لتنفيذ أفكارهم.
هل تفقد الدولة ثقة الألمان؟
وبحسب الدراسة الأخيرة، فإنه من الواضح أن هذا التوجه يترافق مع تراجع الثقة في مؤسسات الدولة وفي أداء الديمقراطية، على الرغم من أن أغلبية واضحة لا تزال تدعم هذا الشكل من أشكال الحكم. لكن هناك الآن 38% على الأقل لديهم مواقف تؤمن بالمؤامرة، و33% شعبويون و29% لديهم مواقف قومية استبدادية متمردة.
وتمثل هذه النسب، مقارنة بالاستطلاع الذي أجري خلال جائحة كورونا خلال عامي 2020 و2021، زيادة بنحو الثلث في المتوسط. كما ازدادت الشكوك حول عمل وسائل الإعلام التقليدية أو تم رفض عملها بالكامل من قبل 32% من المستطلعة آراؤهم مقابل 24% قبل عامين.
هناك كثيرون مهتمون، يجهدون عقولهم حالياً للتوصل إلى طريقة لوقف هذا التطور والرجوع عنه، ومن بين هؤلاء العالم أندرياس تسيك، محرر الدراسة، الذي يقول: "نحن نعيش في زمن، النداءات فيه أو سياسة رعاية اجتماعية أفضل، قادرة جزئياً فقط على تهدئة النزاعات والسخط والاحتجاجات".
وأضاف تسيك للشبكة الألمانية: "أوقات الأزمات هي الأوقات التي يتحرك فيها الناس سياسياً ويعيدون تموضعهم. وهذا التموضع يمكن أن ينتقل من المركز إلى اليمين". لكن المقلق بالنسبة لتسيك هو أنه "إذا قام الأشخاص في الوسط، الذين ربما لا يعتبرون أنفسهم متطرفين يمينيين أو ينظمون أنفسهم ضمن اليمين المتطرف، بتكييف المواقف عبر الهامش اليميني المتطرف في المجتمع، حينها فقط تصبح الديمقراطية في خطر".
ويصف أندرياس تسيك مدى صعوبة تقييم هذه الظاهرة بالإشارة إلى ما يسمى بدراسة الاستبداد التي أجرتها جامعة لايبزيغ. فوفقاً للدراسة التي تعود لعام 2022، تراجعت المواقف اليمينية المتطرفة في السنة الثانية من جائحة كورونا، لكن عدم الرضا عن الديمقراطية كان لا يزال مرتفعاً .
يتذكر تسيك تطوراً بدأ في ذلك الوقت: "من المعروف اليوم ما سعت إليه أعداد كبيرة من المتطرفين اليمينيين، إلى جانب الجماعات اليمينية المتطرفة الأخرى وقتها، حيث أرادت تلك الجهات خلق مواجهة عبر نشر أفكار عن المؤامرة، كما عملت تلك التنظيمات اليمينية على تنظيم عملها ودمجه سوية من أجل ضمان تأثير أكبر على مجموعات من المواطنين من أجل تبني مواقف أقرب إلى النازية والتطرف أو تشكيل خلايا إرهابية متطرفة.
وبناء على النتائج يرى الباحث تسيك أن هذه الدراسات جزء من ثقافة التحذير والتذكر في ألمانيا. مع إشارة صريحة إلى الديكتاتورية النازية التي سادت بها خلال الفترة بين 1933 إلى عام 1945. إذ إن الاشتراكية القومية نشأت في قلب المجتمع، وتم دعمها من قبل أفراد المجتمع، حتى لو تم الترويج بأن الدعاية والتحريض وإرهاب الدولة، تم فرضها من قبل النازية".
الجدير بالذكر هنا أن الدراسة تضمنت أيضاً السؤال عن كيفية تعامل المجتمع مع الأزمات الراهنة. وكان الجواب أن 53% من الألمان يؤيدون العودة إلى القومية. إنهم يدعمون المزيد من الانغلاق عن العالم الخارجي للمجتمع ويعتبرون القيم والفضائل الألمانية والالتزام بالواجبات المفترضة ضرورية للتعامل مع الأزمات.
ويعكس هذا الاتجاه السمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء أكانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أم أخرى معارضة لها، وهي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة "أصلية" من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة.
إذ تشترك جماعات اليمين المتطرف في بعض السمات الرئيسية، كالنزعة القومية، أو ما يمكن وصفه بالشعور بأن بلداً ما وشعب هذا البلد أرقى من غيره. ولدى تلك الجماعات شعور قوي بالهوية الوطنية والثقافية إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يشكل تهديداً على تلك الهوية، ومن ثم فإنها ترفض فكرة التنوع.
وعادة ما يستميل زعماء تلك الجماعات الأفراد من خلال إعطائهم شعوراً بالانتماء والفخر. وكثيراً ما يكون ذلك أداة دعائية قوية، ولا سيما في المناطق الفقيرة التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة، والتي يشعر سكانها بالتهميش من قبل المؤسسة السياسية.