مع استمرار زحف الرمال لابتلاع الأراضي الزراعية الشحيحة أصلاً في الدول العربية، تواجه 18% من المساحة الخضراء خطر التصحر، فكيف يمكن مواجهة الخطر الوجودي؟
وتعيش الدول العربية، بشكل إجمالي، في مساحة من الأرض يبلغ 68.4 بالمئة منها أراض متصحرة بالفعل، و20 بالمئة منها مهددة بالتصحر، بينما لا تتعدى الأراضي غير المتصحرة 11.6 بالمئة من إجمالي مساحتها، بحسب أحدث دراسات صندوق النقد العربي.
وخلال السنوات الأخيرة، أدت تداعيات التغير المناخي إلى ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة العربية إلى مستويات قياسية، كما ازدادت حدة الجفاف بصورة متصاعدة، مما أدى إلى تسارع ظاهرة التصحر بصورة أكثر سوءاً.
ومصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسبّبة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة أضرار ضخمة وخسائر على جميع المستويات.
18 % من الأرض الزراعية يهددها التصحر
وعلى الرغم من ندرة الأراضي الصالحة للزراعة في المنطقة العربية بشكل عام، إلا أن تلك المساحة نفسها تواجه خطر التصحر بشكل متزايد خلال السنوات الأخيرة. وهو ما يعني أن التصحر في المنطقة العربية لم يعد مجرد ظاهرة بيئية عابرة، بل بات خطراً يهدد بابتلاع دول عربية بأكملها، مع استمرار زحف الرمال لالتهام ما تبقى من الأراضي الزراعية، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
هذا التطور، يشكل تهديداً استراتيجياً للأمن الغذائي العربي، بل وعلى اقتصاد وأمن الدول العربية، في وقت تصاعدت فيه أزمات سلاسل إمدادات الغذاء بحدة خلال العامين الماضي والجاري.
إذ أصبح نحو 35.7 مليون هكتار من الأراضي الزراعية بالعالم العرب، واقعاً تحت تأثير التصحر، وهو ما يعادل 18 بالمئة من مجموع المساحة الصالحة للزراعة، خاصة بالمناطق الموجودة على أطراف الصحراء الأفريقية الكبرى، وفق دراسة منشورة على موقع صندوق النقد العربي.
ويشير الواقع الذي تعيشه الدول العربية إلى أن 68.4 بالمئة من أراضيها متصحرة، و20 بالمئة منها مهددة بالتصحر، بينما لا تتعدى الأراضي غير المتصحرة 11.6 بالمئة من إجمالي مساحتها.
كما تكشف الدراسة عن أن دولاً عربية بكاملها تعتبر أراضي متصحرة، مثل البحرين والكويت والإمارات وقطر، بينما هناك 10 دول تتراوح فيها نسبة الأراضي المتصحرة ما بين 60 و98 بالمئة مثل مصر وجيبوتي والسعودية والجزائر والأردن واليمن والمغرب. وهناك دول أكثر من 50 بالمئة من أراضيها مهددة بالتصحر مثل الصومال وسوريا والعراق.
التغير المناخي يفاقم أزمة التصحر
تتفاقم ظاهرة التصحر مع ما تشهده المنطقة العربية من ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، وما يرافقها من جفاف وإجهاد مائي، نتيجة للتغير المناخي، الذي يهدد السكان المحليين بفقدان مصادر رزقهم، وبالتالي النزوح داخلياً إلى المدن الساحلية الرطبة، أو حتى اللجوء إلى دول أوروبا، بحثاً عن فرص عيش أفضل.
ووفق تقرير لصندوق النقد الدولي، صدر في 2022، فإنه على مدى العقود الثلاثة الماضية، ارتفعت درجات الحرارة في المنطقة العربية بمقدار 1.5 درجة مئوية، أي ضعف الارتفاع العالمي البالغ 0.7 درجة مئوية.
واعتبر التقرير هذا التطور ضاراً بشكل خاص في البلدان شديدة الحرارة بالفعل، وأشار إلى خمسة بلدان عربية وهي: البحرين وجيبوتي وموريتانيا وقطر والإمارات، وصفها بأنها أكثر البلدان سخونة في العالم.
وحذر صندوق النقد الدولي من أن ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1 درجة مئوية في البلدان العربية الخمسة يؤدي على الفور إلى انخفاض النمو الاقتصادي للفرد بمقدار 2 بالمئة.
فالتصحر له علاقة متشابكة مع عوامل مختلفة، على غرار ارتفاع درجة حرارة الأرض، والجفاف، وحرائق الغابات، والجراد الصحراوي، وله انعكاسات سلبية على الزراعة وتصدير السلع الغذائية، وارتفاع أسعار الغذاء، والأمن الغذائي والصحة، وأيضاً النزوح والهجرة والفقر والبطالة والتدهور الأمني والنزاعات المسلحة.
والتصحر ليس مسألة هينة أو عابرة، خاصة أن ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية تتصحر أو مهددة بالتصحر، خلال العقود الأخيرة، بسبب عوامل بيئية وبشرية. وفي هذا الصدد، قدرت "اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر" خسائر الغذاء وخدمات النظم البيئية والدخل، في جميع أنحاء العالم بسبب تدهور التربة، بنحو 23 تريليون دولار، بحلول عام 2050.
أما "برنامج الأمم المتحدة للبيئة"، فيقدر القيمة الإنتاجية المفقودة سنوياً في الدول النامية بسبب ظاهرة التصحر بنحو 16 مليار دولار. وبلغ إجمالي المساحات المتدهورة في المنطقة العربية خلال الفترة من 1982 إلى 2007، نحو 658 مليون هكتار، تشكل حوالي 47 بالمئة من المساحة الكلية للمنطقة العربية.
جاء ذلك حسب نتائج مسح ميداني في إطار "مشروع الإنذار المبكر لتدهور الأراضي"، عن كتاب "العالم العربي ـ مشكل الماء وظاهرة التصحر". وارتفعت هذه الأرقام في مسح ميداني آخر خلال الفترة من 1999 إلى 2010 إلى نحو 845 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، أو ما يعادل 60 بالمئة من مساحة المنطقة العربية.
وتصبح الأراضي متدهورة عندما تفقد بعض خصائصها وتصبح أقل جودة في إنتاج المحاصيل مثلاً، بسبب التصحر أو التعرية أو الملوحة أو نقص بعض المواد العضوية.
وتعتبر الإمارات، التي تستعد لاحتضان قمة المناخ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أكبر مثال على تدهور الأراضي الزراعية بسبب التصحر، وتأثير ذلك على أمنها الغذائي، حيث خسرت الإمارات 33 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة في غضون 15 سنة، وفقاً لبيانات البنك الدولي لعام 2018.
كما أن منطقة المغرب العربي، التي تضم كلاً من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، لديها 121 مليون هكتار من الأراضي مهددة بالتصحر، وفق دراسة لمجموعة العمل حول التصحر (جي تي دي) الفرنسية.
كيف يؤثر ذلك على الأمن الغذائي؟
في الوقت الذي تسعى فيه الدول العربية لزيادة إنتاجها الزراعي والحيواني تماشياً مع الارتفاع المطرد لعدد السكان، فإن التصحر الذي يلتهم سنوياً مساحات هامة من الأراضي الزراعية والرعوية والغابية يقف عائقاً أمام تحقيق هذا الهدف.
وعلى سبيل المثال يتوقع البنك الدولي أن ينخفض إنتاج المغرب من الحبوب بـ10 بالمئة في السنة العادية، وتصل إلى 50 بالمئة في السنة الجافة.
ووفق دراسة لاتحاد المصارف العربية، نشرت في 2020، فإن الفجوة الغذائية اتسعت وأصبحت الدول العربية تستورد حوالي نصف احتياجاتها من السلع الغذائية الرئيسية، حيث تبلغ فاتورة الغذاء عربياً 110 مليارات دولار.
وحسب الدراسة، فإن ارتفاع أسعار السلع الغذائية في السوق العالمية، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، في 2022، رفع من فاتورة الغذاء على الدول العربية ما يجعلها أكثر تبعية للدول المصدرة للغذاء ويهدد أمنها الغذائي والقومي.
ولا تتوقف التداعيات عند هذه الحد، فالتصحر يدفع سكان الصحراء والأرياف إلى النزوح إلى المدن والمناطق الخصبة، خاصة الفلاحين والرعاة، ما يزيد الضغط على مختلف الهياكل التعليمية والصحية والخدمية في هذه المدن.
وفي الوقت نفسه يضعف النزوح الداخلي المشاريع الحكومية في المناطق المتصحرة والتي يهجرها أغلب سكانها، ما يخلق عدم توازن في التنمية بين جهات الوطن الواحد، ما يسهم أيضاً في زيادة النزوح.
وقوع الدول العربية الأفريقية بمحاذاة الصحراء الكبرى يجعلها هدفاً للمهاجرين الأفارقة، الذي يعانون أيضاً من آثار التصحر والفقر وعدم الاستقرار الأمني، إما للاستقرار أو العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط.
وتوقع تقرير أممي انتقال نحو 60 مليون شخص من أفريقيا جنوب الصحراء إلى دول شمال أفريقيا (مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب) وأوروبا.
ويثير انتقال مهاجرين وقبائل من أفريقيا جنوب الصحراء قلق الدول المغاربية من أن يؤدي ذلك إلى تغيير في التركيبة السكانية في القرى والبلدات الصغيرة في ولاياتها الجنوبية قليلة السكان، وبالتالي المساس بأمنها القومي.
على سبيل المثال، تواجه ليبيا مشكلات في هذا الصدد، إذ إن أعداد المهاجرين الأفارقة في بعض القرى والبلدات الجنوبية أكبر من عدد السكان الأصليين. بل إن جماعات مسلحة تشادية وأخرى من النيجر والسودان تمركزت في مناطق بالجنوب الليبي وأصبحت تمتهن الارتزاق من خلال القتال لصالح أطراف الصراع الليبي.
ووصل الأمر إلى احتلال جماعة تشادية متمردة لقاعدة الويغ الليبية في أقصى الجنوب لعدة سنوات، ناهيك عن الاقتتال بين القبائل الليبية الأصلية وقبائل أفريقية مهاجرة. ويعكس المثال الليبي كيف يمكن للهجرة غير النظامية أن تسبب اختلالات في الأمن القومي إذا لم تكن هناك ضوابط لتنظيمها، وتوزيع المهاجرين على المدن والبلدان حسب نسبة السكان، كما هو متعامل به دولياً.
وبطبيعة الحال، تتطلب مواجهة التصحر، بتداعياته الكارثية المتشعبة، استراتيجيات خاصة لاستباق تأثيراته السلبية وعدم انتظار حدوثها بالفعل، ويجمع الخبراء أنه لا سبيل لدولة واحدة أن تواجه هذه الأزمة العميقة بشكل منفرد، وأنه لا بديل عن التعاون والتنسيق بين الدول العربية إذا ما أرادت إنقاذ شعوبها من هذا الخطر الوجودي.