هل تؤدي صفقة إطلاق السجناء الأمريكيين مقابل أموال إيرانية مجمدة إلى إطلاق ديناميكية جديدة بين البلدين لحل الأزمات الأكبر بينهما مثل العقوبات الأمريكية، والملف النووي الإيراني، ونشاط المليشيات الموالية لطهران بالمنطقة أم أن الصفقة هي بديل ضيق لحل دبلوماسي واسع بين الدولتين.
ولاحظت السجينة السياسية الإيرانية السابقة نازانين زغاري راتكليف، بعد وقت قصير من إطلاق سراحها، أنَّ حرية الأسرى مثلها لا تكتمل أبداً لأنَّ المُفرَج عنهم يتذكرون دائماً أولئك الذين تُركِوا وراءهم.
لكن عندما وصل خمسة أمريكيين، بعد إفراج طهران عنهم، إلى قطر في طريق عودتهم إلى عائلاتهم، كان المناخ العام بسيطاً ومبهجاً وعاطفياً. وعلى النقيض تماماً من ذلك، كانت الجهود الدبلوماسية المطولة التي أفضت إلى هذه اللحظة معقدة ومدروسة بدقة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
اتجاهات للتصعيد وأخرى للتهدئة
وتشهد العلاقات الإيرانية الأمريكية، التي تتخللها دائماً صفقة طويلة، تغيراً مستمراً مع تحركها في اتجاهات مختلفة، بعضها نحو المواجهة والبعض الآخر نحو تهدئة التوترات. وحتى أشهر مضت، لم يكن من الواضح ما إذا كانت إدارة جو بايدن تفضل أحد الخيارين على الآخر، أو تفضل الوضع الراهن بالفعل.
لكن في صفقة إطلاق السجناء الأمريكيين التي تضمنت قراراً أمريكياً بالإفراج عن ستة مليارات دولار من عائدات النفط الإيرانية المُجمَّدة في حساب مصرفي بكوريا الجنوبية بسبب العقوبات الأمريكية، أعطى الرئيس الأمريكي الأولوية لتأمين إطلاق سراح الخمسة، الذين ظل بعضهم في السجن لمدة عقد من الزمن.
البعض يرى أن صفقة إطلاق السجناء الأمريكيين مكافأة لإيران
ويُعَد ذلك بمثابة تقدير للحملات العامة التي تطالب بالإفراج عنهم، لكنه قد يشير أيضاً إلى اتجاه جديد في الدبلوماسية الغربية تجاه إيران.
وقد اتخذ بايدن مخاطرة مزدوجة؛ فمن جانب يتلقى انتقادات من الجمهوريين الذين يقولون إنَّ الاتفاق سيشجع طهران على احتجاز المزيد من الرهائن، الذين يزعمون بمزيد من الجرأة أنَّ المواجهة مع إيران تظل الاستراتيجية الوحيدة القابلة للتطبيق، كما هو الحال منذ تخلى دونالد ترامب في عام 2018 عن الاتفاق النووي الذي وقعه باراك أوباما في عام 2015.
في ظل دعمها عسكرياً لروسيا
وعلى الجانب الآخر، يواجه بايدن انتقادات من مصادر بعيدة عن الأحزاب. إذ تُبرَم الصفقة في وقت يبيع فيه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، طائرات مُسيَّرة إيرانية الصنع إلى روسيا لمهاجمة المدن الأوكرانية. ويشعر بعض المواطنين الإيرانيين في الشتات أنه من خلال اتخاذ هذه الخطوة بعد وقت قصير من الذكرى السنوية الأولى لوفاة الفتاة مهسا أميني في قبضة شرطة طهران (التي أدت وفاتها لاندلاع احتجاجات الحجاب)، أظهر فريق بايدن أنه يمنح المصلحة الذاتية الأمريكية الأولوية على نضال الإيرانيين من أجل حقوق الإنسان، ويعتبرونها أيضاً اعترافاً عملياً بأنَّ إبراهيم رئيسي يتمتع بالأمان السياسي، وأنَّ الاحتجاجات قد انتهت.
وفي نيويورك، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، يقول مساعدو الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إنَّ إيران ستدفع الولايات المتحدة لمعرفة ما إذا كانت صفقة تبادل السجناء يمكن أن تؤدي إلى تهدئة أوسع نطاقاً في المنطقة. والمكان الواضح للبدء هو اليمن.
الحوثيون يزورون السعودية بينما نتنياهو غاضب
وزار المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران الرياض، عاصمة السعودية، الأسبوع الماضي لإجراء محادثات سلام غير مسبوقة. لكن بايدن يود أيضاً أن يرى التطبيع بعيد المنال للعلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يتحقق، وهو أمر سيناقشه الرئيس الأمريكي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عندما يلتقيان في نيويورك.
من جانبه، ينصب تركيز نتنياهو أكثر على استخدام خطابه أمام الجمعية العامة لإصدار تحذير شديد اللهجة للغرب بعدم الثقة بإيران، أو القبول ببعض الاتفاقات غير الرسمية الجديدة لتقييد برنامجها النووي.
اتفاق غير رسمي بإبقاء إيران لليورانيوم المُخصَب عند مستوى أدنى قليلاً من عتبة القنبلة النووية
وجوهر الاتفاق غير الرسمي -وهي خطة بديلة متواضعة مقارنة بالاتفاق النووي الشامل لعام 2015- هو أنَّ توافق إيران بدايةً على إبقاء مخزونها من اليورانيوم المُخصَّب عند مستوى نقاء 60%، أي أقل بقليل من العتبة المطلوبة لتصنيع قنبلة نووية. وفي المقابل سيكون هناك بعض التخفيف للعقوبات الأمريكية. وهناك بعض الإشارات الأولية التي تشير إلى أنَّ إيران قد تقبل ذلك، على الرغم من أنَّ هذا الشرط قد يصير في الواقع جزءاً من مفاوضات لا نهائية مع الغرب.
وحذر مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، الأسبوع الماضي من أنه لن يكون أمام إسرائيل خيار سوى التحرك إذا توجهت إيران لتخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء أعلى من 60%.
ويرجع عداءه جزئياً إلى أنَّ إسرائيل تعتقد أيضاً أنَّ الخطة البديلة غير قابلة للتنفيذ.
لكن طهران طردت ثلث المفتشين الدوليين رداً على قرار أوروبي
وفي خطوة غير مسبوقة، أبلغت إيران مفتشية الأسلحة النووية التابعة للأمم المتحدة ومقرها فيينا الأسبوع الماضي، أنها ستجرِّد ثُلث مفتشيها الأكثر خبرة من تأشيراتهم، وهو رد إيراني على قرار المملكة المتحدة وأوروبا بعدم رفع العقوبات عن تجارة الصواريخ الباليستية الإيرانية في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، كما نص الجدول الزمني الأصلي في اتفاق 2015.
وكان رئيس المفتشية النووية، رافائيل غروسي، واضحاً حول مدى الضرر الذي سيلحقه ذلك بعمل منظمته. وصرح يوم الجمعة الماضي: "لقد أبعدت إيران فعلياً نحو ثُلث المجموعة الأساسية من مفتشي الوكالة الأكثر خبرة والمُخصّصين لها".
وأثناء مؤتمر صحفي في وقت سابق من هذا الأسبوع، حاول غروسي، وهو موهوب في هندسة الصفقات، دق ناقوس الخطر بشأن الانتهاكات الإيرانية المتزايدة لتعهداتها، معرباً عن تخوفه من أنَّ الغرب "يتعامل معها على أنها أمر روتيني".
في حين قالت كيلسي دافنبورت، من جمعية الحد من الأسلحة الأمريكية، إنَّ افتقار إيران للشفافية يرجع في المقام الأول إلى أنَّ "السياسة النووية الإيرانية لا تزال تتجه في الاتجاه الخاطئ"، وإذا لم يتغير هذا في الأشهر القليلة المقبلة، فإنَّ أية نافذة مفتوحة لدبلوماسية جديدة ستُغلَق بسرعة.
وفي ظل هذه الخلفية القاتمة، ربما يكون أفضل ما تستطيع الولايات المتحدة فعله هو اختبار الأجواء في طهران لمعرفة ما إذا كانت عملية تبادل السجناء ستغير وجهة نظر إيران السياسية الحالية، وبالتالي السماح للاتفاق غير الرسمي المبدئي بالتحول إلى شيء أوسع وأكثر جوهرية.
الإيرانيون يعتبرون صفقة السجناء استسلاماً أمريكياً
أفادت صحيفة The Washington Post الأمريكية بأنَّ إيران ربما رأت أنَّ عملية تبادل السجناء، التي حدثت يوم الإثنين 18 سبتمبر/أيلول، هي فرصة أخيرة لتأمين الوصول إلى الأموال، حتى وإن كان محدوداً، بعد سنوات من التوترات المتصاعدة مع الولايات المتحدة، وفي وقت يتعثر فيه اقتصاد البلاد بعد سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، وفقاً لما ذكره محللون.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن علي فايز، مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية، قوله: "يبدو أنَّ الإيرانيين مترددون في التخلي عن معظم نفوذهم في استعادة الاتفاق النووي دون معرفة من سيكون الرئيس الأمريكي المقبل. لا أحد يريد حقاً التوصل إلى اتفاق، لكنهم ما زالوا يتحدثون عنه".
وبعد الإعلان عن صفقة التبادل، وصف القادة الإيرانيون المفاوضات بأنها دليل على استسلام واشنطن لمطالبهم. وقال ناصر كنعاني، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إنَّ الاتفاق "كان من الممكن تنفيذه منذ فترة طويلة لو تعاون الجانب الأمريكي ولم يربط [المبادلة] بقضايا أخرى".
وقالت إيران إنها ستحتفظ بالسلطة التقديرية الكاملة بشأن استخدام الأموال، في حين تصف وزارة الخزانة الأمريكية أنَّ لديها قناة إنسانية تراقبها بعناية لدعم "وصول الغذاء والسلع الزراعية والأدوية والأجهزة الطبية إلى الشعب الإيراني بموجب إجراءات العناية الواجبة والصارمة".
ويقول محللون ومسؤولون إنَّ استعداد البلدين للاتفاق على تبادل السجناء يُظهِر أنَّ واشنطن وطهران قررتا أنَّ التوترات المتصاعدة بين البلدين لن تخدم أياً من الجانبين. لكن هذا التفاهم هش ويمكن أن ينهار بسهولة.
وقال فايز إنَّ صفقة إطلاق السجناء الأمريكيين كانت "الهدف الأقرب للإنجاز" من بين جميع القضايا العالقة بين الجانبين، التي يمكن أن يتوصلا لاتفاق بشأنها. وأضاف أنَّ الولايات المتحدة وإيران "لم تحلّا أي شيء، لكن اتفقتا فقط على إبقاء خلافاتهما تحت السيطرة".
وأضاف أنَّ تنفيذ عملية تبادل السجناء بنجاح "يضمن استدامة" العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة وإيران، ويمنع التوترات من الخروج عن نطاق السيطرة، بدلاً من إنشاء ديناميكية جديدة.
التفاوض استمر لمدة عام بوساطة قطرية
ولا تتناول الصفقة التي سهّلت عملية التبادل أية قضايا تتجاوز تبادل السجناء ونقل الأموال الإيرانية وكيفية مراقبة الأموال. لكن المحادثات التي سبقت الاتفاق على مدار أشهر يمكن أن تمهد الطريق للمفاوضات المستقبلية.
وقال مسؤول مطلع على المفاوضات، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته لمناقشة التبادلات الدبلوماسية الحساسة: "نحن نعتبر هذه الصفقة بمثابة بناء للثقة بين الجانبين".
وتفاوض مسؤولون من الولايات المتحدة وإيران على شروط الصفقة على مدار أكثر من عام بعدما وصلت المحادثات حول مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك الاتفاقيات النووية، إلى "طريق مسدود" في يونيو/حزيران 2022، وفقاً لشخص مطلع على المحادثات، التي استضافتها قطر وتنقل دبلوماسيوها بين الطرفين.
وصارت قطر وسيطاً رئيسياً في الصفقة، وقال وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مؤخراً إنَّ صفقة التبادل هي "خطوة نأمل أن تؤدي إلى حوار أوسع حول القضية النووية الإيرانية".
ومع ذلك، فقد أفسدت السياسة الداخلية في البلدين منذ فترة طويلة محاولات التقارب وأحبطت كلا الجانبين في سعيهما لإيجاد أرضية مشتركة بشأن مسألة أبسط نسبياً وهي تبادل الأسرى، ناهيك عن إعادة التفاوض على اتفاق نووي.
محامي محتجَز أمريكي يصف العلاقة بين البلدين بالرقصة السيئة
ووصف جاريد جينسر، محامي عائلة سياماك نامازي، الإيراني الأمريكي المُحتجَز في طهران منذ ما يقرب من 8 سنوات، الصفقة والمفاوضات بأنها "رقصة سيئة".
وقال: "في بعض الأوقات كانت الولايات المتحدة تحاول الاجتماع مع إيران على طاولة المفاوضات، لكن كانت إيران تتحرك في الاتجاه الآخر، وفي أوقات أخرى أرادت إيران الجلوس مع الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة كانت تتحرك في الاتجاه الآخر"، في وصف لحركة المد والجزر التي شهدها لاستعداد السياسي للانخراط من كلا الجانبين على مدار ثلاث إدارات في واشنطن.
وتابع المحامي: "كان من الصعوبة الشديدة جعلهم يتحركون معاً في نفس الوقت".
مستقبل العلاقات بينهما هش، والتوصل لاتفاق بات أصعب
ومع ذلك، يظل مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران هشاً.
يرى إريك بروير، من مؤسسة أبحاث مبادرة التهديد النووي ومسؤول سابق في المخابرات الأمريكية عمل في مجال منع الانتشار النووي، أنَّ صفقة التبادل تشير إلى تهدئة "مؤقتة"، لكنه يحذر من أنَّ "خطر انهيارها سيبقى ملوحاً دائماً".
وأشار إلى أنَّ العديد من العوامل التي تسببت في توقف المحادثات حول القضايا النووية في السنوات الأخيرة لا تزال قائمة.
وأوضح بروير: "حتى لو عدنا إلى تلك النقطة، فلا يزال يتعين علينا حل جميع هذه المشكلات"، مثل الدعم العسكري الإيراني لروسيا والقمع الوحشي لحركات الاحتجاج. وحذر: "بل من المحتمل أيضاً أن نضطر للتعامل مع بعض المشكلات الجديدة".
لذا، مع مرور الوقت، قد يصير التوصل إلى اتفاق أمريكي- إيراني أصعب فأصعب.