إحدى غرائب أزمة أوكرانيا كانت تتمثل في الأداء الجيد للاقتصاد الروسي، ولكن هذا الأداء يبدو أنه يواجه تحدياً ليس بالسهل، هو ما أقر به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي رغم شهرته برباطة الجأش، لم يستطع إخفاء قلقه من مؤشرات الاقتصاد الروسي، وخاصة التضخم وتراجع الروبل الذي انخفض الشهر الماضي لأدنى مستوى له منذ 16 شهراً.
فعندما وقعت الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، حدثت مفاجأتان.. الأولى عسكرية، حيث توقع الخبراء العسكريون انهياراً سريعا للجيش الأوكراني واحتلالاً روسيا سريعاً للعاصمة كييف، وهذا لم يحدث، بل نجت العاصمة الأوكرانية، وتعرضت روسيا لخسائر عسكرية كبيرة وفشل هجومها على كييف، ثم شنّت أوكرانيا هجوماً مضاداً ناجحاً في خاركيف، ثم الجنوب، والحرب ما زالت مستمرة بعد مرور أكثر من 18 شهراً على اندلاعها.
أما المفاجأة الثانية، فكانت اقتصادية، فمع فرض العقوبات الغربية على روسيا بما في ذلك تجميد الأصول المالية الروسية في الغرب وتقليل أوروبا لوارداتها من الغاز والنفط الروسيين، توقع أغلبية خبراء الاقتصاد، بما فيها المؤسسات المالية الدولية أزمة كبيرة للاقتصاد الروسي، ولكن هذا ما لم يحدث، بل بدت موسكو أقل تضرراً من الناحية الاقتصادية من أوروبا، كما حققت نمواً أعلى من المتوقع، وكان أداء الروبل مفاجئاً؛ حيث تراجع لفترة ثم عاد ليرتفع، لدرجة أن روسيا سارعت بخفض الفائدة عليه بعد أن رفعتها عقب الغزو.
وتحقق ذلك بشكل كبير بفضل انخفاض الواردات القادمة من الغرب، وبسبب دور الصين، التي استوعبت كثيراً من النفط الروسي الذي لم يعد يذهب لأوروبا، وكذلك بفضل ارتفاع أسعار النفط، إضافة إلى ضخامة موارد روسيا، واستفادة المنتجين المحليين من غياب المنتجات الغربية.
ولكن المفارقة أنه مع تحسن وضع روسيا على الجبهة العسكرية إثر تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، فإن جبهة الاقتصاد الروسي يبدو أنها هي التي باتت تعاني.
إذ انخفض الروبل الروسي بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، وتدخل البنك المركزي في البلاد لمحاولة وقف هذا الانخفاض برفع الفائدة.
ويؤدي ضعف الروبل إلى تفاقم التضخم من خلال جعل الواردات أكثر تكلفة بالعملة الروسية. وينتقل ضعف الروبل بشكل متزايد إلى الأسعار التي يدفعها الناس. وبلغ معدل التضخم 7.6% خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتد برس "AP" الأمريكية.
ورفع البنك المركزي الروسي الفائدة الرئيسي من 8.5% إلى 12% في اجتماع طارئ عُقد في نهاية الشهر الماضي بعد أن انتقد المستشار الاقتصادي للكرملين انخفاض الروبل.
بوتين يقر بالضعف الاقتصادي ويبدي قلقه من تراجع الروبل
وعندما خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كبار المسؤولين الاقتصاديين في نهاية الشهر الماضي سعى الرئيس الروسي إلى استخدام لهجة واثقة. وقال إن الاقتصاد الروسي ينمو مرة أخرى والأجور آخذة في الارتفاع.
ولكن على الرغم من إظهار الشجاعة، لم يتمكن بوتين من تجنب الإشارة إلى الضعف المتنامي الذي يطارد الاقتصاد مع تفاقم العقوبات الغربية، وهو الضعف الذي تفاقم بفِعل انخفاض قيمة الروبل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
وقال بوتين بنبرة توتر في صوته: "تظهر البيانات الموضوعية أن المخاطر التضخمية آخذة في التزايد، وأن مهمة كبح جماح نمو الأسعار أصبحت الآن الأولوية الأولى". "أطلب من زملائي في الحكومة والبنك المركزي إبقاء الوضع تحت السيطرة المستمرة".
إن الارتفاع السريع في الأسعار الناجم عن انخفاض قيمة الروبل بنسبة 20% بين أوائل يونيو/حزيران ومنتصف أغسطس/آب، وضخ الحكومة الأموال في صناعة الدفاع الروسية، جعل الحرب الروسية – وتأثير العقوبات يلقيان بثقلهما على كثير من المواطنين الروس لأول مرة، كما يقول الاقتصاديون.
وقالت جانيس كلوغ، الخبيرة الاقتصادية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: "لقد كان الشعب الروسي معزولاً إلى حد كبير عن التطورات السياسية والعسكرية، لكن معدل التضخم أمر لا يمكنهم عزل أنفسهم عنه؛ لأنه يتعين عليهم أن يدفعوا ثمنه بشكل فوري".
"إنها الطريقة التي تتدخل بها السياسة حقاً في حياتهم، وهذا هو الجزء الذي يثير قلق القيادة الروسية. لأنه لا توجد دعاية ستجعل هذا يختفي".
يؤثر ذلك على المعادلة بين بوتين والشعب الروسي منذ توليه الحكم، حيث عاش الروس في وضع اقتصادي جيد نسبياً مع توافر الخدمات والأمن ومكانة بلادهم الدولية، دون أن يكون هناك حريات أو قدرة على محاسبته على سياسته.
لماذا يتراجع الروبل؟.. فتش عن زيادة واردات الظل وتراجع الصادرات
خسارة الروبل أكثر من ثلث قيمته منذ نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي إلى حد كبير نتيجة العقوبات المفروضة على صادرات الطاقة الروسية نهاية عام 2022، عندما حظر الاتحاد الأوروبي معظم واردات النفط الروسية ومجموعة السبع. وفرضت العديد من الدول حداً أقصى لسعر مبيعات النفط الخام الروسي في أماكن أخرى، وتمنع العقوبات شركات التأمين أو شركات الشحن التي يتمركز معظمها في الغرب من التعامل مع النفط الروسي بأكثر من 60 دولاراً للبرميل.
وعلى الرغم من أن تجار النفط الروس يعلمون بنشاط في الظل، ونشروا أساطيل وهمية تسعى إلى تجنب القيود، فإن هذه الإجراءات، بالإضافة إلى الانخفاض الحاد في صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، حرمت الميزانية الروسية من مصدر رئيسي للإيرادات، مع الدخل من النفط. وانخفضت صادرات الطاقة بنسبة 47% في النصف الأول من عام 2023، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
وقد أجبر هذا روسيا على البيع بسعر مخفض واتخاذ خطوات باهظة الثمن مثل الحصول على أسطول من الناقلات الوهمية، التي لا يمكن أن تصل إليها العقوبات.
وفي الوقت نفسه، أدى تحول روسيا إلى قنوات الاستيراد الرمادية لتجنب ضوابط التصدير – من خلال دول مثل تركيا والصين ودول آسيا الوسطى – إلى إعادة الواردات إلى مستويات ما قبل الحرب، مما زاد الضغط على الروبل.
المواطنون الروس بدأوا يشعرون بوطأة الحرب أكثر من أي وقت مضى
ويقول محللون إن المسؤولين الروس يواجهون العواقب الاقتصادية لحرب بوتين ضد أوكرانيا. وضاعفت الحكومة هدف الإنفاق الدفاعي لعام 2023 إلى أكثر من 100 مليار دولار، (مقارنة بنحو 60 ملياراً قبل الحرب)، وضخت أكثر من 60 مليار دولار من أموال الميزانية في صناعة الدفاع في النصف الأول من عام 2023، وفقاً لأرقام حكومية كشفت عنها رويترز هذا الشهر، لتغذية آلة حربها.
وقد دعمت فورة الإنفاق الحكومية الاقتصاد الروسي في مواجهة التأثيرات الأكثر ضرراً للعقوبات الغربية، مما سمح للكرملين بالترويج للعودة إلى النمو الاقتصادي الإجمالي، الذي توقعه البنك المركزي الروسي بنسبة 1.5 إلى 2.5%، وصندوق النقد الدولي بنسبة 0.7 في المائة. في المائة، بعد انكماش بنسبة 2.1% العام الماضي.
لكن هذا خلق أيضاً اختلالاً كبيراً في الاقتصاد الروسي، مما يؤدي إلى تفاقم التضخم حيث تعمل مؤسسات الدفاع على مدار الساعة.
وتزداد الضغوط جراء تفاقم نقص العمالة الناجم جزئياً عن تعبئة المجندين إلى الجبهة في أوكرانيا وفرار مئات الآلاف من الروس إلى الخارج منذ بداية الحرب.
وأظهر استطلاع أجراه معهد جيدار في موسكو أن 42% من الشركات التي شملها الاستطلاع اشتكت من نقص العمال في يوليو/تموز 2023.
وفي علامة على تفاقم أزمة العمالة، أصدر بوتين مؤخراً مرسوماً يقضي برفع القيود المفروضة على توظيف المراهقين الذين لا تتجاوز أعمارهم 14 عاماً، لمواجهة نقص العمالة، وفقاً لقائمة الأوامر الرئاسية المنشورة على موقع الكرملين على الإنترنت.
ولكن هناك ميزات من وراء تراجع الروبل
هناك جوانب إيجابية ستأتي من وراء تراجع الروبل، إذ يعزز ذلك ميزانية الحكومة الروسية التي تعتمد مصادر دخلها الرئيسية على بيع الطاقة والمواد الخام للخارج بالدولار أو اليوان، وغيرهما من العملات الأجنبية، كما أن تراجع الروبل يعزز تنافسية السلع المحلية ويقلل الواردات.
لكن العملة الأضعف تحمل أيضاً تهديداً بارتفاع الأسعار بالنسبة للأشخاص العاديين في روسيا – ولذا تحركت الحكومة أخيراً لوقف الانخفاض.
ولكن رفع لأسعار الفائدة للحد من تراجع الروبل وتفاقم التضخم سيجعل الحصول على الائتمان أكثر تكلفة، وهذا من شأنه أن يحد من الطلب المحلي على السلع – بما في ذلك الواردات.
هل ينهار الاقتصاد الروسي تحت وطأة الحصارالغربي؟
"التأكيدات السابقة بأن العقوبات ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي كانت خاطئة آنذاك ولا تزال كذلك"، حسبما قال مارك سوبل، الذي شغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية للسياسة النقدية والمالية الدولية في وزارة الخزانة الأمريكية ويعمل الآن مستشاراً بارزاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية:
"لكنه استدرك قائلاً إن تأثير الإجراءات الغربية ضد روسيا كان معوقاً، وسوف يستمر على مدى طويل الأمد".
على الرغم من تأثير القيود على تصدير النفط، تقاوم إدارة بايدن مناشدات الحكومة الأوكرانية لخفض سقف أسعار النفط من 60 دولاراً إلى 30 دولاراً للبرميل، لأنها تخشى أن يدفع ذلك روسيا إلى خفض إنتاج النفط والتسبب في ارتفاع أسعار الغاز، مما يعكر صفو الاقتصاد العالمي تماماً، بينما تتجه الولايات المتحدة نحو الانتخابات الرئاسية في عام 2024، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر تحدثوا لصحيفة واشنطن بوست بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة المداولات الداخلية.
وقال هؤلاء الأشخاص إن أي مناورة من هذا القبيل ستتطلب أيضاً دعم المشرعين الأوروبيين، وتخاطر بتقويض الدعم للمجهود الحربي الأوكراني.
وقال أحد الأشخاص: "هذا هو التوتر المركزي الذي يتصارعون حوله".
ورفضت متحدثة باسم وزارة الخزانة الأمريكية التعليق للصحيفة.
وقال أوليغ أوستنكو، المستشار الاقتصادي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه من الضروري أن يتخذ الغرب إجراءات جماعية. وقال أوستينكو: "نحن بحاجة إلى ضغط كبير لتخفيض سقف الأسعار، وإلا سيكون لدى الروس ما يكفي من المال لمواصلة هذه الحرب".
روسيا ستستطيع على الأرجح التغلب على مشكلة التضخم
وقالت إيلينا ريباكوفا، زميلة بارزة في معهد بيترسون ومديرة البرامج الدولية في كلية كييف للاقتصاد، إنه دون مزيد من الضغوط على عائدات النفط الروسية، من المحتمل أن تتمكن السلطات الروسية من التغلب على أي ارتفاع في التضخم، حتى لو كان المعدل يتجه نحو ضعف الضعف من الأرقام.
وقالت ريباكوفا: "لا أعتقد أن التضخم سيكون مشكلة كبيرة ما لم تضطر الحكومة إلى البدء في طباعة النقود لدعم الميزانية". "إذا كان هناك بعض النجاح في تشديد تهرب روسيا من تحديد سقف لأسعار النفط، وكان بوتين يريد زيادة الإنفاق الاجتماعي، فإن ذلك سيكون تحدياً.
وأضافت إذا رأينا أن عجز الموازنة للعام المقبل سيكون حوالي 6 إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي، فسيكون ذلك تحدياً".
ومع ذلك، فإن ارتفاع أسعار النفط أدى في الآونة الأخيرة إلى ارتفاع أسعار إمدادات موسكو إلى ما فوق الحد الأقصى للسعر الذي حدده الأوروبيون (60 دولاراً)، حسبما ذكرت وكالة الطاقة الدولية في تقرير صدر في أغسطس/آب.
وانخفضت عائدات النفط بنسبة 23% في النصف الأول من هذا العام، لكن روسيا لا تزال تجني 425 مليون دولار يومياً من مبيعات النفط، وفقاً لمدرسة كييف للاقتصاد.
ومن الواضح أن احتمال انهيار اقتصاد روسيا ضئيل، وتراجع الروبل رغم ما ىثاره السلبية على المواطنين، له مميزات أنه يقلل الواردات، وينعش الصناعات المحلية، ويحافظ على فائض الميزان التجاري الروسي (الأكبر عادة في العالم).
ومجرد إبقاء روسيا للروبل حراً إلى حد ما دون تثبيت قيمته علامة على صحة الاقتصاد الروسي، وأن وضعه أقرب للطبيعي.
ولكن المشكلة التي بدأت قبل حرب أوكرانيا بسنوات، أن روسيا على غرار الدول العربية وضع اقتصادها، أصبح مرتبطاً بالنفط، ورغم تسجيله النفط أسعار مرتفعة خلال السنوات الماضية، ولكن المؤشرات تشير إلى أن ذروة النفط تقترب مع ثورة السيارات الكهربائية وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن يصل ذروة إنتاج النفط عام 2030، وهو ما يعني أن البلاد مثلها مثل كل الدول النفطية، عليها أن تتحسب لهذا اليوم.
كما أن تحولها من تصدير الطاقة للغرب إلى الصين بشكل شبه حصري يجعل موسكو تضع كل بيضها في سلة بكين، التي بدورها يبدو أن لديها مشكلاتها الاقتصادية الخاصة.