عندما التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزعيم كوريا الشمالية آخر مرة في عام 2019، كان يقدِّم صورة رجل دولة عالمياً، ويُنصِّب نفسه في دور الوسيط المحتمل للمحادثات النووية المُعطَّلة مع الولايات المتحدة.
وكان بوتين مستعداً لإطلاع الصين وإدارة ترامب على محادثاته مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في إشارة إلى العلاقات الفاعلة بين واشنطن وموسكو رغم ما تحمله من توترات، ودور روسيا باعتبارها قوة دبلوماسية ووسيطاً محتملاً في مساعي إنهاء البرنامج النووي لكوريا الشمالية.
لكن بمرور 4 سنوات الآن على هذا اللقاء، فقد بوتين هذه الأوراق، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فالاقتصاد الروسي يئِن، وموسكو معزولة عن المسرح العالمي، وبوتين غير قادر على السفر لحضور القمم الكبرى في الخارج بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، وكل هذا بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.
في عام 2019، كان كيم يعاني من مؤتمرات قمة فاشلة مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ويبحث عن شريان حياة دبلوماسي. لكن الآن، بوتين هو من يتطلع إلى كيم للحصول على شريان الحياة، على الجبهتين الدبلوماسية والعسكرية، بينما يسعى إلى تجنب هزيمة كارثية في أوكرانيا، وإعادة تشكيل سياسة روسيا الخارجية تشكيلاً جذرياً.
بعضهم يحتاج إلى بعض
وتتوقع تقارير أن يلتقي بوتين وكيم في مدينة فلاديفوستوك الروسية في وقت لاحق من هذا الأسبوع للمرة الثانية على الإطلاق، في اجتماع مرتقب بين اثنين من أخطر خصوم الغرب.
وسواء التقى كيم وبوتين شخصياً -إذ لم تتأكّد القمة رسمياً بعد- فإنَّ البلدين يحتاجان إلى بعضهما الآن أكثر من أي وقت مضى. تخرج كوريا الشمالية من حقبة عقابية من العزلة التي فرضتها على نفسها إثر جائحة فيروس كورونا المستجد، وتسعى إلى الحصول على تقنيات جديدة لتوسيع برامجها النووية والصاروخية. وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا إلى حشد أي دعم دولي وخطوط إمداد عسكرية ممكنة.
وقال مايكل كيماج، الباحث في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية والمسؤول السابق في وزارة الخارجية، إنَّ "احتياجات الجانب الروسي ملحة؛ إذ تحتاج روسيا إلى أسواق جديدة لطاقتها، وأسلحة، وطرق للالتفاف على العقوبات الغربية، لذا تتجه الآن إلى ما تُعتبَر الدكتاتورية الأكثر انغلاقاً في العالم للحصول على المساعدة".
ويرى خبراء أنَّ روسيا، رغم أنها كانت دوماً منزعجة من احتمال امتلاك كوريا الشمالية أسلحة نووية، مضطرة لإعادة التفكير في أولوياتها في ظل انتكاساتها في أوكرانيا.
وتسعى روسيا إلى إعادة توجيه سياستها الخارجية بالكامل بعيداً عن الغرب، وهو تحول كبير عن توقعات بوتين الأولية للسياسة الخارجية عندما تولى السلطة قبل أكثر من عقدين من الزمن. إنَّ توسيع العلاقات مع الصين، ودول ما يسمى بالجنوب العالمي، وحتى المنافسين الغربيين المعزولين مثل كوريا الشمالية، يتناسب مع هذه الاستراتيجية الواسعة.
ويقول كيماج: "يحاول بوتين تطوير سياسة روسيا الخارجية لفترة ما بعد الغرب. وهذا مشروع خطير للغاية بالنسبة لموسكو، ويمكن لكوريا الشمالية أن تكون جزءاً منه بطرق جديدة".
ماذا يحتاج بوتين؟
والآن يحتاج بوتين إلى الوصول إلى المخزونات العسكرية لدى كوريا الشمالية مع مرور عامه الثاني على الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي توقع الكرملين ألا يستغرق أكثر من بضعة أسابيع. وتمتلك بيونغ يانغ احتياطيات هائلة من الذخيرة، يعتمد معظمها على نماذج من الحقبة السوفييتية متوافقة مع أنظمة الأسلحة الروسية. وتتمتع كوريا الشمالية أيضاً بالقدرة على إنتاج المزيد من الأسلحة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حذر البيت الأبيض من أنَّ بيونغ يانغ تزود روسيا سراً بقذائف مدفعية تُشحَن إلى أوكرانيا عبر الشرق الأوسط وإفريقيا. وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان للصحفيين في مؤتمر صحفي، يوم 5 سبتمبر/أيلول، إنَّ "تلك المناقشات [حول الأسلحة] تتقدم بنشاط".
وأضاف سوليفان: "لم نرهم يزودون روسيا بكميات كبيرة من الذخائر أو القدرات العسكرية الأخرى من أجل الحرب في أوكرانيا، [لكن] لا أستطيع التنبؤ بما سيحدث في نهاية هذا الأمر".
وفي السياق ذاته، أشار جون إيفرارد، السفير البريطاني السابق لدى كوريا الشمالية، إلى أنَّ صفقة الأسلحة بين البلدين لا تتطلب عقد اجتماع على مستوى رؤساء الدول؛ إذ زار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بيونغ يانغ في يوليو/تموز.
ومن المرجح أن تركز القمة على الدلائل التي تمثلها بقدر اهتمامها بالجوهر؛ فقد سعى بوتين منذ فترة طويلة إلى أن يُؤخَذ على محمل الجد على الساحة الدولية باعتباره زعيماً لقوة عظمى. وبعد تجميد مشاركته في المؤسسات التي يقودها الغرب بسبب غزو بلاده لأوكرانيا، سعى الزعيم الروسي إلى إنشاء صيغ بديلة مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا ومجموعة البريكس لتأكيد نفوذ بلاده. وقد لا يكون اللقاء مع زعيم الدولة الأكثر عزلة في العالم، الذي تعرض لسخرية كبيرة، بمثابة لقاء قمة تاريخي، لكنه يعمل على إبقاء بوتين في الأخبار.
وقال ويليام بوميرانز، مدير معهد كينان التابع لمركز ويلسون، الذي يركز على روسيا وأوراسيا: "الأولوية الرئيسية هي أنه يريد أن ينظر إليه بصراحة تامة".
ماذا يريد كيم من هذه الزيارة؟
من جانبها، تسعى كوريا الشمالية إلى الحصول على المساعدة من روسيا في مجموعة متنوعة من الأولويات الدبلوماسية والعسكرية. وهناك عامةً 3 شرائح من المساعدات التي يمكن أن تحصل عليها كوريا الشمالية من روسيا مقابل موافقتها على تقديم الدعم العسكري لموسكو، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وكوريين جنوبيين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم، وكذلك خبراء يتابعون الاجتماع.
وتتمثل الشريحة الأولى في المساعدات الغذائية والصحية والاقتصادية، وهو أمر تحتاجه كوريا الشمالية بشدة بعد سنوات من الحجر الصحي الذي فرضته على نفسها خلال جائحة فيروس كورونا المستجد، التي أدت إلى تفاقم أزمة مزمنة من انعدام الأمن الاقتصادي والغذائي في البلاد.
وثانياً، تلاعبت كوريا الشمالية، على مدار التاريخ، براعيتيها الرئيسيتين، وهما روسيا والصين، ضد بعضهما، وقد يكون الاجتماع مع بوتين فرصة لكيم ليفعل ذلك مرة أخرى. ويقول خبراء إنه بينما لا تزال الصين تدعم كوريا الشمالية، وتعتبرها دولة عازلة رئيسية ضد القوى المتحالفة مع الغرب في آسيا، توترت علاقة الرئيس الصيني شي جين بينغ بالزعيم كيم جونغ أون.
والشريحة الثالثة، والأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمسؤولين الغربيين، هي المساعدة العسكرية التي يمكن أن تقدمها روسيا لكوريا الشمالية في مقابل الأسلحة والذخيرة لمساعدتها في حربها في أوكرانيا. ويمكن لكوريا الشمالية أيضاً أن تسعى للحصول على تكنولوجيا الأقمار الصناعية والغواصات النووية من روسيا، على الرغم من أنَّ المدى الذي ستنقل إليه موسكو مثل هذه التكنولوجيا لا يزال غير واضح. ويخشى المسؤولون والمحللون الغربيون أيضاً من أن تتمكن روسيا من مساعدة كوريا الشمالية في برامجها الصاروخية، إما عن طريق نقل تكنولوجيا الوقود الدافع الصلب لصواريخها الباليستية العابرة للقارات، أو تكنولوجيا التدابير المضادة للدفاع عن الصواريخ من أية صواريخ اعتراضية غربية.
وقال فيكتور تشا، الخبير في الشؤون الكورية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "هذان شيئان يجعلان نظام إيصال الرأس الحربي النووي أكثر قابلية للصمود ولا يمكن إيقافه بسهولة بواسطة أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية".
وحذر كبار المسؤولين في إدارة بايدن من أنَّ تعميق روسيا وكوريا الشمالية لعلاقاتهما العسكرية سيكون خطأً فادحاً، وسيدفعان ثمنه أمام المجتمع الدولي، لكن هؤلاء المسؤولين لم يوضحوا تفاصيل هذا الثمن.