لم يصدق الكثير من اليونانيين آذانهم وهم يستمعون إلى إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان -بجوار نظيره اليوناني- أن تركيا دخلت عصراً إيجابياً جديداً في علاقتها مع اليونان، وذلك يوم الثلاثاء الخامس من سبتمبر/أيلول.
إذ شهدت تركيا واليونان عدة نوبات تبادل اتهامات، ووقائع وضعتهما على حافة الصراع، وفترات من التعاون على مدار العقود الماضية باعتبارهما من الجيران والخصوم التاريخيين خلال القرن المنصرم.
وأوشكت العلاقات بين البلدين أن تتحول إلى حربٍ ساخنة في عام 2020. حيث وقع صدام بين السفن الحربية التركية واليونانية؛ نتيجة خلاف حول التنقيب عن مصادر الطاقة، وذلك بسبب إقامة المناطق الاقتصادية الخاصة.
لكن المصادر التركية واليونانية المطلعة صرحت لموقع Middle East Eye البريطاني بأنهم يتوقعون إحراز تقدم حقيقي على صعيد إصلاح العلاقات اليوم.
ومن المقرر أن يلتقي أردوغان برئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس على هامش لقاءات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال الشهر الجاري.
المشكلات بين تركيا واليونان لن تحل بين عشية وضحاها، ولكن البداية تطبيع العلاقات
لدى تركيا واليونان العديد من القضايا العالقة، بدايةً بحجم المياه الإقليمية والمجال الجوي، ووصولاً إلى المناطق الاقتصادية الخاصة ومعاملة الأقليات.
وأوضح مصدر تركي للموقع، بشرط السرية لأنه ليس مخوّلاً بالحديث لوسائل الإعلام: "عندما نتحدث عن إحراز تقدم؛ يظن الناس أننا سنحل كل المشكلات بين ليلةٍ وضحاها. لكن التقدم سيدور حول تطبيع العلاقة أولاً قبل أن نتمكن من الحديث عن النزاعات القائمة منذ عقود".
وأوضح مصدر يوناني: "علينا تهدئة التوترات وسنرى ما سيحدث بعدها، نشعر بالتفاؤل. يمكننا إيجاد العديد من مجالات التعاون، ولسنا بحاجة للحديث حول الخلافات العالقة الآن".
ضباط الجيش اليوناني يستيقظون كل صباح وفكرة الغزو التركي تسيطر عليهم
ومزح مصدر يوناني آخر قائلاً إن التفاعلات المنتظمة قد تمثل تطوراً كبيراً في الوضع، لأن جميع ضباط الجيش اليوناني يستيقظون كل صباح منذ ثلاثة عقود وفكرة الغزو التركي الوشيك تسيطر عليهم.
وأوضح المصدر: "نحن بلد صغير، وتركيا دولة كبيرة لديها الكثير من الإمكانيات. ولهذا نعطي تفسيرات مفرطة لأبسط الأشياء التي تحدث داخل تركيا، حتى وإن كانت لا تعني شيئاً من الأساس".
إليك العوامل التي حفزت تحسن العلاقة بين تركيا واليونان
وهناك ما يحفز كلا الجانبين على إصلاح العلاقة بينهما بعد الانتخابات التي جرت العام الجاري، والتي شهدت إعادة انتخاب الزعماء القوميين اليمينيين في كلا البلدين.
ويرى الكثيرون في أثينا أن شخصية فيدان، رئيس المخابرات التركية الأسبق، ستكون مفيدة للعلاقات التركية اليونانية. إذ يُعرف فيدان بفطنته ونظرته طويلة المدى للقضايا العالقة.
حيث أوضح مصدر تركي آخر: "إنه يحل المشكلات ولا يخلقها. ويستطيع اللعب بقسوة إذا لزم الأمر، لكنه لا يفضل ذلك الأسلوب".
ورغم ما سبق، يتمثل الحافز الرئيسي للجانبين في التغييرات التي طرأت على الديناميات الإقليمية.
إذ كانت أنقرة تشعر قبل عامين فقط بأنها محاصرة نتيجة التحالف الناشئ بين اليونان، وقبرص، وإسرائيل ومصر.
أصبح موقف أنقرة أفضل في مواجهة أثينا اليوم. إذ أصلحت علاقاتها مع إسرائيل ومصر، ويبدو أن علاقاتها مع واشنطن تسير على الطريق الصحيح بعد إبرام اتفاق انضمام السويد إلى الناتو.
وينص ذلك الاتفاق على حصول تركيا على عشرات مقاتلات إف-16 بموافقة الكونغرس الأمريكي، كما ستحصل أثينا على مقاتلات الجيل الخامس إف-35 بموجب الاتفاق نفسه.
وتمتلك تركيا بعض المحفزات الإضافية لتجميد الصراع أيضاً. حيث يريد أردوغان إحياء مشروع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي من أجل جذب المستثمرين الغربيين لبلاده من جديد. ولا شك أن تحسين العلاقة مع اليونان سيساعد في ذلك.
اليونان كانت من أوائل الدول التي قدمت المساعدة لتركيا خلال الزلزال
وأحدثت كارثة الزلزال المدمر، الذي ضرب جنوبي تركيا في 6 فبراير/شباط الماضي، تغييراً لافتاً في علاقات تركيا مع اليونان، حيث تحولت المياه الإقليمية التي تكمن في قلب نزاعات البلدين منذ عقود إلى قنوات للتعبير عن الأخوة والتضامن.
وكانت اليونان من أوائل الدول التي قدمت الدعم لتركيا، حسب وزير الخارجية التركي في ذلك الوقت مولود تشاووش أوغلو.
وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره اليوناني نيكوس ديندياس آنذاك، لفت تشاووش أوغلو إلى أنه في عام 1999 وقع زلزال في تركيا ثم اليونان بفارق نحو شهر، مشيراً إلى أن البلدين هرعا في حينه لمساعدة بعضهما.
وأعرب عن امتنانه لوزير خارجية اليونان، الذي وصفه بـ"الصديق"، واليونان حكومة وشعباً على تضامنهما مع تركيا في هذه الأيام العصيبة.
وتابع: "يمكن أن تكون هناك مشاكل بين البلدين. وثمة مشاكل لم نستطِع حلها مع اليونان، وأحياناً نشهد توتراً في العلاقات، إلا أننا أصبحنا دولتين تلتقيان في الأوقات الصعبة".
كما قال ديندياس إنه "على تركيا واليونان ألا تنتظرا زلزالاً آخر لإزالة الأسوار" بينهما.
وفي ذلك الوقت تلقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالَي عزاء وتضامن من رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والأرميني نيكول باشينيان.
وهرع متطوعون يونانيون إلى تركيا للمساعدة في البحث عن ناجين تحت الأنقاض، إثر زلزال مزدوج بشدة 7.8 درجة و7.6 درجة، ما خلَّف خسائر كبيرة بالأرواح والممتلكات في تركيا وسوريا.
وكان وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس أول دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى يقوم بزيارة تضامنية إلى تركيا، وتفقَّد الدمار في ولاية هطاي برفقة نظيره التركي.
وأعرب رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، عن ثقته بديمومة "الروابط العاطفية" التي خلقتها كارثة الزلزال بين شعبي البلدين، وعبر عن اعتقاده بأنها ستؤدي إلى تحسن في العلاقات الثنائية.
كما عبّر عن شعوره بالفخر والاعتزاز إزاء مشاركة فرق بلاده في عمليات البحث والإنقاذ بمناطق الزلزال جنوبي تركيا.
وتطرق رئيس الوزراء اليوناني إلى تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بأن هناك احتمالات بتحسن العلاقات بين البلدين، لافتاً إلى إمكانية حل الخلافات في إطار القانون الدولي.
الاتفاق على تجميد الخلافات وليس إنهاءها بالضرورة
وقال المصدر التركي الأول: "ندرك أن عملية حل المشكلات الثنائية العالقة، مثل المجال الجوي أو المناطق الاقتصادية الخاصة، قد تستغرق وقتاً طويلاً للغاية. ولسنا واثقين في قدرتنا على فعل ذلك. لكننا نستطيع أن نتفق على ألا نتفق في هذه القضايا، حتى نجمّدها بالتبعية ونوقف موجة التصعيد".
وتتفق المصادر اليونانية في الرأي مع هذا التقييم.
كما أردف المصدر: "سوف نتمكن عندها من الحديث عن تلك القضايا في المستقبل، بعد مرحلة بناء الثقة".
ولهذا أعلن وزير الخارجية اليوناني جورجيوس جيرابتريتيس الأسبوع الجاري، عن عقد مجلس تعاون رفيع المستوى بين البلدين قبل نهاية 2023، في اجتماعٍ هو الأول من نوعه منذ سبع سنوات.
وأوضح المصدر اليوناني الثاني: "يحب الأتراك واليونانيون بعضهما البعض في أعماقهما، وذلك بسبب تشابه الشعبين اللذين يعيشان معاً منذ قرون ويتقاسمان الطعام والثقافة نفسها".