وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 80 مليون دولار لتايوان. ومع أنَّ هذه المساعدة لا تمثل عاملاً مُغيِّراً لقواعد اللعبة من الناحية العسكرية، إلا أنَّها غير مسبوقة من حيث مصدر التمويل: برنامج "التمويل العسكري الأجنبي"، الذي يمثل بالأساس حساب منح أمريكياً لتقديم المساعدة العسكرية للبلدان الأجنبية، كما يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ماذا يعني دعم تايوان من برنامج التمويل العسكري الأجنبي؟
تُصِر الخارجية الأمريكية على أنَّ هذه المساعدة لا تعني الاعتراف بتايوان دولة ذات سيادة. فقال متحدث باسم الوزارة: "تماشياً مع قانون العلاقات مع تايوان وسياستنا طويلة الأمد بشأن الصين الواحدة، والتي لم تتغيَّر، تتيح الولايات المتحدة لتايوان المواد والخدمات الدفاعية الضرورية التي تُمكِّنها من الحفاظ على قدرة كافية للدفاع عن النفس".
لكنَّ منحة برنامج التمويل العسكري الأجنبي تتبع نمطاً متسقاً من الخطاب والسلوك الذي يبدو أنَّه يقلل من الغموض الاستراتيجي، أو السياسة الأمريكية طويلة الأمد في الإبقاء العمدي على حالة من عدم اليقين بشأن ما إن كانت الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان في مواجهة أي هجوم صيني.
إذ ذكر الرئيس جو بايدن صراحةً، في سبتمبر/أيلول 2022، أنَّ القوات الأمريكية ستقاتل من أجل الدفاع عن تايوان في حال حدوث غزو صيني، وأعاد التأكيد على ذلك في رده على سؤال توضيحي من جانب مقدم برنامج 60 Minutes سكوت بيلي.
هل وصلت العلاقات الأمريكية الصينية لنهايتها؟
يثير التخفيف المستمر من الغموض الاستراتيجي باعتباره مفهوماً موثوقاً في السياسة الخارجية الأمريكية، مصحوباً بالتراجع الحاد والسريع في العلاقة الأمريكية الصينية عموماً، شبح نشوب مواجهة عسكرية في مضيق تايوان.
وهنالك الآن أكثر من أي وقتٍ مضى حاجة ملحة لصياغة رؤية قابلة للتطبيق، ليس فقط بشأن السياسة تجاه تايوان، بل أيضاً بشأن القضايا الأوسع المحيطة بالوضع الدفاعي الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادي. ولتحليل ديناميات صراع تايوان وما يعنيه بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، من المفيد إعادة النظر في مفهوم قديم في السياسة الدولية: معضلة الأمن.
تشير معضلة الأمن باختصار إلى أنَّ الإجراءات التي تتخذها الدول لزيادة أمنها يمكن أن تنظر إليها دول أخرى باعتبارها تهديداً، وهو ما يثير سلسلة من ردود الفعل تجعل كل الأطراف المعنية أقل أمناً. وهي فكرة أساسية في التفكير في العلاقات الدولية، وذلك لسبب وجيه. فهي تتعلَّق بجانب بارز من سلوك الدول، يُلاحَظ على مدى آلاف السنين منذ حرب البلوبونيز فصاعداً، وتمت إعادة إنتاجه بشكل مكثف في العديد من السياقات الجيوسياسية.
التحشيد العسكري والاستعداد للأسوأ
كانت الصورة الأكثر وضوحاً وتواتراً التي جرى التعبير بها عن المعضلة هي حالات التحشيد العسكري. فلتتخيَّل سيناريو تعتقد فيه، بصفتك قائداً، أنَّ جارك يُضمِر نوايا عدوانية تجاه بلدك. قد يكون اعتقادك مرتكزاً على عقود أو حتى قرون من العداء بينكما، بما في ذلك أعمال عدوان حقيقية ارتكبها جارك سابقاً. لذا، فإنَّك تلجأ إلى تسليح نفسك لتردع عدوان جارك، وإن لزم الأمر تتصدى له.
لكن يتضح أنَّك لست الوحيد المدفوع بهذه المخاوف. فجارك يظن حيالك بشيء مشابه للغاية، ويخلص إلى أنَّ تحشيدك الدفاعي هو مقدمة لهجوم عليه. وقد يرد بتحشيد قواته، وبالتالي تصعيد خطر وقوع سوء تقدير وحادث كارثي، أو أن يرد من خلال توجيه ضربة استباقية لك.
من المسلّم به أنَّ الوضع في تايوان أكثر تعقيداً من أزمة تحشيد حدودي بسيط بين قوتين متجاورتين، لأنَّه صراع بحري يرتكز على طرف ثالث يُعتَبَر على نطاق واسع محورياً بالنسبة للمصالح الأمريكية الإقليمية والدولية على الرغم من عدم اعتراف واشنطن به باعتباره دولة ذات سيادة.
لكنَّ المنطق العام الذي تحدده معضلة الأمن لا يظل منطبقاً فقط، بل ويكون ذا صلة أكثر من أي وقتٍ مضى لفهم ما يجعل الصراع في تايوان خطيراً للغاية ويصعب حله. فتايوان هي نقطة الارتكاز الجيوسياسية بين مجالي النفوذ الصيني والأمريكي المتنافسين في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
وأي مسعى أمريكي لفرض تكاليف عسكرية على أي غزو صيني محتمل لتايوان، أو حتى للحفاظ على العلاقات مع تايبيه، سيكون محل تنديد من جانب بكين باعتباره محاولة لـ"خنق" الصين، ويترتَّب عليه خطر شن أعمال عسكرية صينية مضادة.
فالمعضلة الأمنية بشأن تايوان هي، كما يقول المسؤول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية إلبريدج كولبي، حقيقية ولا يمكن تفاديها، لكنَّها لا يتعين أن تؤدي إلى كارثة. فالمعضلة لا يمكن حلها تماماً، لكن يمكن ويجب تخفيف آثارها.
أمريكا تكشف النقاب عن وجهها بشأن تايوان
كان الغموض الاستراتيجي خطوة محكمة من جانب الدبلوماسية الأمريكية، إذ ضمن سلامة تايوان وعزز المصالح الإقليمية الأمريكية لأكثر من 50 عاماً بثمن بخس نسبياً ومخاطرة بسيطة، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
لكن رُفِعَ الحجاب، والظروف التي ازدهر فيها الغموض الاستراتيجي ليست مستدامة. لأسباب ليس أقلها أنَّ الصينيين لم يعودوا ينظرون إلى ذلك الغموض باعتباره شعوراً موثوقاً. لقد بُدِد وهم الغموض، ولا يمكن إعادة إنشائه في سياق العلاقات الأمريكية الصينية الحالية.
ومن المهم التأكيد على أنَّ سياستيْ الغموض الاستراتيجي وصين واحدة ليستا ولم تكونا قط حزمة واحدة على الإطلاق. ومن الممكن تماماً الاعتراف بأهمية تايوان بالنسبة للمصالح الأمريكية والعمل وفقاً لذلك دون الاعتراف بها دولة ذات سيادة. فالاعتراف من شأنه أن يعزز ذريعة الصين لشن غزو، ويزيد بصورة هائلة احتمالية وقوع مواجهة عسكرية بشأن تايوان.
وتؤدي الإجراءات التي يمكن تفسيرها باعتبارها إشارة على أنَّ صانعي السياسة الأمريكيين يفكرون في الاعتراف بتايوان، مثل مساعدة برنامج التمويل العسكري الأجنبي، إلى مخاطرة لا داعي لها بصدور رد صيني مُبالِغ.
لا يعني هذا أنَّه لا مجال للردع في جعبة أدوات السياسة الأمريكية. ففي الحقيقة، هنالك قيمة عسكرية وسياسية في مساعدة تايوان بهدف نقل رسالة إلى بكين مفادها أنَّ أية محاولة لـ"إعادة التوحيد" باستخدام القوة لن تكون سريعة أو سهلة. لكنَّ هذه الجهود يجب أن تكون مصحوبة باستراتيجية متماسكة وواقعية تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادي تستفيد من المزايا الفريدة التي توفرها تحالفات أمريكا الإقليمية، وتحقق توازناً بين المنافسة والانخراط حيثما كان ذلك ملائماً.