دعا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة سياسة أوروبا الإفريقية، في أعقاب انقلابي النيجر والغابون، فهل لا تزال القارة العجوز قادرة على إنقاذ نفوذها في القارة السمراء؟
وتتساقط الحكومات الموالية للغرب، وبخاصة فرنسا، في غرب ووسط أفريقيا الواحدة تلو الأخرى، حيث وقعت 9 دول فريسة للانقلابات خلال 3 سنوات فقط، كان أحدثها انقلاب الغابون، في مؤشر على فشل سياسات باريس "الاستعمارية".
فبعد نحو شهر من انقلاب النيجر، الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، شهدت الغابون انقلاباً أطاح بالرئيس عمر بونغو، وكلا الدولتين الواقعتين في غرب أفريقيا كانت معقلاً لنفوذ فرنسا المطلق منذ حصولهما على "الاستقلال" عن استعمار باريس "القديم".
ويرى خبراء أنه مع وصول قطار الانقلابات العسكرية في أفريقيا إلى الغابون، بعد أقل من شهر على انقلاب النيجر، يتأكد فشل السياسات الغربية وفي القلب منها سياسات فرنسا صاحبة النفوذ الذي كان مطلقاً في مستعمراتها السابقة.
مراجعة أوروبا لسياساتها في أفريقيا
تتفق أغلب التحليلات على أن مقاومة النفوذ الفرنسي تشكل بعداً محورياً في التطورات المستجدة على الساحة الأفريقية، أي الانقلابات المتتالية، وبأن تداعياتها لا تتوقف عند المستوى الفرنسي بل تطال الوجود الأوروبي بشكل كامل.
وفي هذا السياق، تبدو الدعوة التي أطلقها جوزيب بوريل، المنسق الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، عبر دعوته خلال اجتماع وزراء الخارجية والدفاع الأسبوع الماضي في توليدو (طليطلة) بإسبانيا، إلى "مراجعة سياسة أوروبا الأفريقية"، مخففة جداً ولا تعبر عن عمق الصدمة التي تهز دوائر صنع القرار والرأي في أوروبا على وقع موجة الانقلابات العسكرية، بحسب تحليل لشبكة DW الألمانية.
فقبل عقدين فقط كان الاتحاد الأوروبي قد توصل إلى بلورة سياسة موحدة إزاء القارة الأفريقية، عندما أقر البرلمان الأوروبي في نهاية سنة 2005 وثيقة "استراتيجية الاتحاد الأوروبي الأفريقية" التي عرضتها المفوضية الأوروبية. ورغم ذلك، فالواضح أن الاهتمام الأوروبي من منظور استراتيجي شامل كان قد جاء متأخراً، سواء قياساً على حقائق منها أن دولاً أوروبية لها نفوذ تاريخي وجيوسياسي في القارة السمراء في مقدمتها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.
والتحرك الأوروبي جاء متأخراً أيضاً قياساً على الدور الأمريكي التاريخي أو استراتيجية "بناء شراكات القرن الحادي والعشرين بين الولايات المتحدة وأفريقيا" التي أقرها مجلس الأمن القومي الأمريكي في بداية الألفية، أو مقارنة مع قوى عالمية وإقليمية منافسة خصوصاً اليابان السباقة في هذا المجال والصين التي دشنت استراتيجيتها الأفريقية مع بداية الألفية، أو روسيا التي أعادت القارة الأفريقية إلى صلب أولويات استراتيجيتها بعد عقدين من الغياب إثر تفكك الاتحاد السوفييتي.
وبالتالي فإن الدور الأوروبي المتأخر أصلاً قياساً على أدوار الحلفاء والمنافسين، يتعرض منذ سنتين على الأقل لزلزال كبير في القارة السمراء، وهو الانقلابات المتكررة.
ترسم هذه المعطيات صورة متشائمة بشأن مدى قدرة أوروبا على الحد من خسائرها الاستراتيجية في الدول الأفريقية، وهل يتعين أن يتم ذلك عبر وضع حدود للتشققات العميقة التي أحدثها زلزال الانقلابات في الدول الواقعة تاريخياً تحت النفوذ الفرنسي؟
وتبدو أي محاولة لفصل النزيف الفرنسي عن السياق الأوروبي، مهمة شبه مستحيلة، لأسباب عديدة، منها أولاً: أن حجم النفوذ الفرنسي يشمل حوالي ثلث القارة الأفريقية، وهو الأكبر على الصعيد الأوروبي. وثانياً: أن حدّة الموجة الأفريقية التي تستهدف النفوذ الفرنسي تتطلب قراءة لأبعادها وأسبابها العميقة ولا تحتمل أي محاولات للتقليل من شأنها.
فقد أظهرت العمليات الأمنية والاقتصادية التي ساهمت بها ألمانيا والاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي، لإنقاذ السياسة الفرنسية في دول الساحل والصحراء، فشلها الذريع، واصطدمت بتعقيدات الواقع المحلي والإقليمي وشراسة أدوار القوى المنافسة.
وبالتالي قد تكون مراجعة الفرنسيين أنفسهم لسياستهم الأفريقية، خطوة حاسمة، ليس فقط لتقليل الخسائر الاستراتيجية التي تتكبدها فرنسا، بل يمكن أن تساعد الأوروبيين على وضع مراجعة شاملة لاستراتيجيتهم في القارة السمراء، التي يرى المحلل الفرنسي بوكالة بلومبرغ، ليونيل لوران أنها "فشلت"، معتبراً أن "انقلابات أفريقيا إعلان فشل السياسات الغربية في القارة".
هل ماكرون وفرنسا السبب؟
ارتفعت الأصوات المنتقدة داخل فرنسا نفسها، إذ ذهب السياسي اليساري وزعيم حزب"فرنسا غير الخاضعة"، جون لوك ميلونشون، إلى اتهام الرئيس إيمانويل ماكرون بـ "تعريض فرنسا للخطر" في أفريقيا. بينما انتقد الرئيس الفرنسي السابق الاشتراكي فرانسوا أولاند "تأخر رد الفعل" في سياسة الرئيس ماكرون بالقارة الأفريقية.
إذ يبدو أن محاولات القيام بمراجعات عميقة لمفهوم "أفريقيا الفرنسية"، التي ظهرت منذ حوالي عقدين في خطاب النخب السياسية والفكرية الفرنسية وحتى على لسان زعماء مثل الرئيس الأسبق جاك شيراك، لم تذهب بعيداً على مستوى واقع الممارسة في السياسة الفرنسية بالدول الأفريقية.
وكانت أحدث تلك المحاولات تصريحات ماكرون بشأن التخلص من المدرسة الفرنسية النيوكولونيالية (مفهوم الاستعمار الجديد) التي تعتمد على علاقة الرعاية الأبوية مع الدول الفرانكفونية في أفريقيا، من خلال قراراته تقليص الوجود العسكري الفرنسي في تلك الدول والسعي لإقامة علاقات اقتصادية أكثر توازنا.
وفي تعليقه على ما نقل عن الرئيس ماكرون قوله للدبلوماسيين الفرنسيين: "مازلنا نميل إلى الحديث فقط إلى العواصم الأفريقية ومن هم في السلطة.. علينا إعادة الانخراط مع المجتمع المدني. ومع هؤلاء الذين في المعارضة"، اعتبر الخبير الفرنسي ليونيل لوران أن "هذا كلام جيد لكنه جاء متأخراً للغاية".
وبقدر ما تشكله التحديات التي تواجه السياسة الفرنسية في القارة الأفريقية من معضلة لاستراتيجية أوروبا الأفريقية، فإن صياغة سياسة أوروبية موحدة هي بالأساس محل تشكيك كبير برأي المراقبين.
فبينما تتنامى التحديات الجيوسياسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي وتحتدّ المنافسة مع القوى الصاعدة، تزداد حاجة التكتل الأوروبي للفعالية في اتخاذ القرارات وتنسيق سياساته الأمنية والخارجية. لكن الاتحاد يسير حالياً بوتيرة بطيئة لأسباب هيكلية، وقد كشفت حرب أوكرانيا عن تأثيراتها على أدائه، وهو ما يحاول عدد من القادة الأوروبيين معالجته عبر مبادرات لإصلاح المؤسسات الأوروبية.
ويبدو أن ضعف التنسيق الأوروبي وتضارب سياسات دوله ذات التأثير في محيطها المتوسطي والأفريقي، مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، بقدر ما تظهر نتائجه اليوم في أزمات القارة الأفريقية وحتى على نطاق الجوار المغاربي، يمكن أن تكون تكلفة ضعف أو غياب التنسيق الأوروبي باهظة أكثر في السنوات المقبلة، بسبب تأثيره السلبي المتوقع على مستقبل الدور الأوروبي في القارة السمراء التي يعتقد محللون اقتصاديون واستراتيجيون بأن مستقبل الاقتصاد العالمي سيتحدد في جانب أساسي منه بأفريقيا.
ويعني ذلك حتمية القيام بإصلاح الاختلالات في الاستراتيجية الأوروبية عبر التنسيق بدل الأدوار الأحادية وسد ثغرات استراتيجية حسّاسة بالنسبة لأوروبا مثل المنطقة المغاربية التي تعتبر الجسر الطبيعي بين أفريقيا وأوروبا، لكن علاقاتها بأوروبا تشهد تراجعات لحساب شركاء آخرين.
أوروبا وتناقض "القيم" والمصالح
ربما يكون السبب الثاني المباشر فيما تشهده أفريقيا من انقلابات تستهدف التخلص من "التبعية" لفرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً مرتبطاً بالتناقض الصارخ بين خطاب "القيم" الأوروبي والممارسات الفعلية القائمة على "المصالح".
بمعنى آخر ربما تكون سياسات الدول الأوروبية وأخطاؤها القاتلة في القارة السمراء هي ما يقدم الذرائع أو الحجج لاستهداف تجارب الانتقال الديمقراطي الهشة التي تشهدها دول أفريقية عديدة في السنوات الأخيرة. إذ يرى نقاد السياسات الغربية، أن العواصم الأوروبية وخصوصاً ذات الإرث الاستعماري مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وحتى إسبانيا، تبني علاقاتها بالدول الأفريقية على تغليب مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية على حساب قيم حقوق الإنسان والأسس التي تقوم عليها فلسفة الديمقراطية الغربية نفسها.
وحتى عندما وضع الاتحاد الأوروبي إفريقيا في سلّم أولوياته الاستراتيجية ورصد لها موارد مالية وتقنية وأمنية كبيرة، تحت شعار "مكافحة الفقر والفساد والهجرة غير الشرعية من أجل تحقيق التنمية المستدامة والحكم الرشيد"، فإن التدابير السياسية والاقتصادية التي اتخذتها الدول الأوروبية سواء في إطار التكتل الأوروبي أو بشكل منفرد، لم تتخلص من نظرة "المركزية الأوروبية" في التعامل مع الدول الأفريقية.
ويظهر ذلك بشكل جليّ في سياسة الهجرة وقضايا حقوق الإنسان وملفات الفساد التي تلاحق نخباً سياسية وأمنية وعسكرية حاكمة، حيث تهيمن الاعتبارات الأمنية وكسب المصالح التجارية وموارد الطاقة والمعادن. ويبدو أن سباق الدول الأوروبية المحموم مع قوى منافسة -خصوصاً الصين وروسيا وغيرهما- لا تضع للقيم الحقوقية والإنسانية اعتبارات تُذكر، وهو ما عمّق الفجوة بين "السياسات" و"القيم" الأوروبية.
هذا الوضع استغلته النخب الحاكمة في دول أفريقية عديدة، لترسيخ منظومات حكم استبدادية، تستند إلى حكم عشائري وعائلي (حكمت عائلة بونغو الغابون لخمسة عقود ونيف) وإلى ديمقراطية واجهة، ولتوسيع هوامش مناورة بين القوى الدولية المتصارعة، بينما زادت أوضاع الناس بؤسا واتسع نطاق الفقر في دول تُصنف ضمن أغنى دول العالم بموارد الطاقة والمعادن النفيسة.
وفي هذا السياق، باتت برامج أوروبية عديدة رُصدت سواء من قبل المؤسسات الأوروبية أو من دول أوروبية مانحة مثل ألمانيا، لدعم التنمية المستدامة ومكافحة الفقر مثلا في النيجر، أو لدعم حماية البيئة ومواجهة التغيرات المناخية مثلاً في الغابون، لا تؤدي الغرض منها، ما أثار تساؤلات وانتقادات خبراء ووسائل إعلام بأوروبا.
فقد أفرزت منظومات الفساد واستبداد منمّق لمؤسسات ديمقراطية الواجهة، حالة انسداد للآفاق أمام الشباب وشرائح واسعة من المجتمعات الأفريقية وضعفاً في أداء هيئات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، ويأساً من جدوى نموذج "الديمقراطية الغربية"، ما مهّد الطريق لصعود النخب العسكرية باعتبارها القوة المنظمة الوحيدة تقريباً في تلك المجتمعات.
ومن المفارقات أن النخب العسكرية الأفريقية (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) استغلت في نفس الوقت الدعم الغربي المادي واللوجستي الذي كانت تتلقاه ضمن برامج مكافحة الإرهاب، ودعماً خفياً تتلقاه على مستويات أخرى من قوى منافسة للغرب وخصوصاً روسيا عبر مرتزقة فاغنر التي زادت شراسة أدوارها مع اتساع تداعيات حرب أوكرانيا.
وكان لافتاً أن عمليات استيلاء النخب العسكرية على السلطة قد أُحيطت بأجواء تمتزج فيها مظاهر "البهجة" الشعبية للتخلص من أنظمة حكم فاسدة بنزعات شعبوية تظهر في تظاهرات بالشوارع أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي تُصوّر العسكريين كأبطال ومنقذين.
هل انتهى النفوذ الأوروبي بغير رجعة؟
لم تتوقف تداعيات الانقلابات العسكرية على مصالح الدول الأوروبية في الدول التي حدثت فيها تلك الانقلابات التي ارتفع عددها إلى ثمانية في أقل من ثلاث سنوات، بل باتت الظاهرة تتسع في شكل مفعول دومينو لتشمل مناطق مختلفة من القارة الأفريقية. في هذا السياق يمكن فهم تحذير منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي من أن ما يحدث من انقلابات في عدد من الدول الأفريقية يمثل "مشكلة كبيرة لأوروبا".
وفي مواجهة مخاطر اتساع الاضطرابات لتشمل بلداناً أخرى كانت تُعد على مدار عقود الأكثر استقراراً وتربطها علاقات تحالف وثيقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، مثل السنغال والكاميرون وغينيا بيساو، تحدث مسؤولون أوروبيون عن ضرورة اتخاذ خطوات استباقية.
إذ يبدو أن الإجراءات التقليدية المتمثلة في فرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات، التي دأب الاتحاد الأوروبي على اتخاذها ضد القوى التي تستولي على السلطة بالقوة، على غرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو والسودان وصولاً إلى النيجر، لم تؤتِ في كثير من الأحيان النتائج المنتظرة منها، حتى في ظل توسيع تلك العقوبات على نطاق دولي.
ما يدفع دوائر القرار في المؤسسات الأوروبية والعواصم الكبرى المؤثرة للتفكير في صيغ جديدة من شأنها تحقيق الفعالية في الضغط على النخب العسكرية. وقد يبدو السعي للاعتماد على التنسيق مع القوى والمنظمات الإقليمية مثل مجموعة إيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا) أو إيكّاس (المجموعة الاقتصادية والنقدية لدول وسط أفريقيا) أو الاتحاد الأفريقي، محاولة أوروبية لتحقيق هدف الضغط على النخب العسكرية التي تسيطر على السلطة بالقوة، دون التورط مباشرة في مواجهة مع السلطات المحلية في تلك البلدان وتفادي سيناريو تأجيج مشاعر العداء ضد أوروبا والغرب، الكامنة أصلاً على خلفية مقاومة النفوذ الفرنسي.
لكن انتهاج سياسة أوروبية استباقية يبدو على المدى المتوسط والبعيد مسألة معقّدة ستكون مخرجاتها مرتبطة بعوامل وأسئلة ذات أبعاد استراتيجية، منها، أولاً: مستقبل اعتماد أوروبا على موارد الطاقة والمعادن بالقارة الأفريقية والتفكير في مقاربات تقوم على الشراكة وتنهي أشكال الاستغلال الموروثة منذ الحقبة الاستعمارية، ومراجعة الأسس التي تعتمد عليها برامج المساعدات التنموية باتجاه النأي بها عن النخب الفاسدة وجعلها أكثر قرباً للمستفيدين منها من الشعوب.
وثانياً: إعادة النظر في مناهج طرح قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية بما لا يجعل شعوب أفريقيا ودولها تنظر إليها كإملاءات فوقية.
وفيما تبدو محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة توخى المستشار الألماني أولاف شولتز أن يجدد دعوته، قبيل قمة العشرين المرتقبة في الهند، إلى "شراكة ندية مع الاقتصادات الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية".
الخلاصة هنا هي أن الانقلابات التي تشهدها القارة الأفريقية بوتيرة متسارعة دليل دامغ على فشل السياسات الأوروبية عموماً، والفرنسية خصوصاً، فهل انتهى النفوذ الاستعماري القديم إلى غير رجعة، أم تؤتي المراجعات الأوروبية المتأخرة جداً أُكُلها؟