بينما كانت الطائرات المقاتلة لجيش التحرير الشعبي الصيني تنطلق من الصين نحو تايوان، يوم الجمعة 1 سبتمبر/أيلول، كانت الحياة في الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي تسير كالمعتاد، ويبدو أن شعب تايوان لا يأبه كثيراً لهذا الاحتمال.
قال أندي هوانغ، صاحب مطعم في العاصمة تايبيه، إنه صار أقل حساسية تجاه التهديدات العسكرية من البر الرئيسي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وأوضح: "أسمع عن غزو الصين منذ 30 سنة".
استطلاعات الرأي تكشف أن شعب تايوان منجذب للنموذج الصيني رغم رفضه للتوحيد
تسرع حكومة تايوان من أجل التأهب لمواجهة الصين، عبر شراء معدات عسكرية من الولايات المتحدة تساوي قيمتها حوالي 19 مليار دولار، ومد مدة الخدمة العسكرية للرجال لتصل إلى سنة كاملة بداية من عام 2024، لكن كثيرين من شعب تايوان يقولون إنهم لا يشعرون بالتهديد.
ولعل ذلك يُعزى جزئياً إلى وجهات النظر المتباينة بدقة التي يحملها كثير من التايوانيين حول الصين. ففي حين أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية الشعب على الجزيرة يرفض إعادة التوحيد مع الصين، يقول كثيرون إنهم منجذبون إلى الاقتصاد الديناميكي الأكبر بكثير لجارتهم، ولثقافتهم ولغتهم المشتركة. ويبدو آخرون بكل بساطة غير مبالين بالتهديد الكامن في فنائهم الخلفي.
وتطالب بكين بضم جزيرة تايوان بوصفها ضمن أراضيها، وأفعالها في السنوات الأخيرة دفعت البعض للتخوف من أن تكون تستعد لاستخدام القوة لمحاولة السيطرة على الجزيرة. كانت تايوان تقارن بأوكرانيا عن طريق المشرعين الأمريكيين، والرئيسة التايوانية تساي إنغ ون.
لم يخجل الساسة في الجزيرة من التحذير بشأن التهديد. وقالت تساي في الشهر الماضي: "من أجل المحافظة على السلام علينا تقوية أنفسنا"، وذلك خلال زيارة النصب التذكاري للحرب لإحياء ذكرى المرة الأخيرة التي شهدت نشوب معارك بين تايوان والصين.
لكن العامة لا يشعرون بهذا الإلحاح.
الكثيرون يشعرون بالارتباط بالصين
تعد كوكو وانغ واحدة من كثير من أبناء شعب تايوان الذين يشعرون بالارتباط بالصين بدون اعتبار أنفسهم صينيين. جاء أجدادها إلى تايوان ضمن الأشخاص الذين فروا من البلاد بعد انتصار الشيوعيين عام 1949 في الحرب الأهلية الصينية على حزب الكومانتنغ الذي أسس تايوان. استمر أجدادها في الاتصال بأقاربهم في الصين، وتتذكر فصول الصيف التي كانت تسافر فيها عبر المناطق الريفية بالبلاد مع أبويها.
ترى كوكو وانغ نفسها تايوانية، لكنها عملت في شنغهاي بالبر الرئيسي للصين لمدة عام قبل الجائحة، وتفكر في العودة إلى هناك.
وقالت إن الفرص في الصين أكبر بكثير. وأوضحت: "يوجد إحساس بأنك إذا ذهبت إلى هناك، وعملت هناك، فيمكنك حقاً تحقيق شيء".
وتعد الصين أكبر شريك تجاري لتايوان، فقد استقبلت 39% من صادرات الجزيرة في عام 2022، رغم القيود التجارية الجديدة المفروضة وسط تصاعد التوترات.
وظل حكام تايوان لعقود ينتمون لمجموعة بشرية تدعى Waishengren، تمثل حالياً نحو 10% من السكان، وهم النخبة التي جاءت إلى تايوان من الصين القارية في الفترة بين الاستسلام الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، ونهاية الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، بينما تم تهميش فئة الـ"Benshengren" وهم الصينيون الذين وصل أسلافهم إلى تايوان قبل عام 1945، وعادةً ما ينتمون إلى عرقيتي هوكلو وهاكا (الأغلبية)، الذين عاشوا تحت الحكم الاستعماري الياباني، وتعود جذورهم للجنوب الصيني، حيث جاءوا لتايوان بدءاً من القرن السابع عشر بتشجيع من الاستعمار الغربي، ولغتهم الأصلية مختلفة عن لغة الماندرين، اللغة الرسمية في تايوان والصين.
الكثيرون يفضلون الوضع الراهن
صحيحٌ أن كوكو وانغ تشعر بانجذاب للصين، لكنها تعترف بأنه ليس ممكناً تماماً أن تحد من تأثير السياسة عندما تعمل هناك. وتوضح أن زملاءها في شنغهاي يطلقون عليها بين الحين والآخر "تايوانية انفصالية".
تعلم أنهم يقصدون المزاح، لكن ذلك يُشعرها بعدم الارتياح. بالنسبة إليها، حسبما تقول: "نحن مستقلون بالفعل، تايوان هي تايوان فحسب".
ويحمل كثيرون نفس وجهة نظرها.
منذ بدء استطلاعات الرأي في تسعينيات القرن الماضي، قال غالبية التايوانيين إنهم يفضلون الوضع الراهن، ويرفضون كلا المقترحين: إعادة التوحيد مع البر الرئيسي، والإعلان الرسمي عن الاستقلال الذي قد يعني نشوب حرب.
لكن استطلاعات الرأي التي تخضع لرصد أعمق، والتي تسأل الأشخاص إذا ما كانوا يعتبرون أنفسهم صينيين، أظهرت أن سكان الجزيرة صاروا أبعد عن البر الرئيسي من ذي قبل، وذلك حسبما قال تشينغ هسين يو، رئيس مركز دراسات الانتخابات في جامعة تشينجتشي الوطنية. عندما بدأت استطلاعات الرأي في عام 1992، قال أكثر من ثلثي المستجيبين إنهم صينيون وتايوانيون أيضاً، أو أنهم صينيون فقط. واليوم صار حوالي الثلثين منهم يقولون إنهم تايوانيون فقط، فيما يعرّف حوالي 30% أنفسهم بأنهم تايوانيون وصينيون.
وقال هسين يو إن هذه الاتجاهات لا تترجَم مباشرة إلى آراء حول العلاقات مع البر الرئيسي، ولكن بين الأغلبية الذين يعرفون أنفسهم على أنهم تايوانيون، ثمة تحول دقيق نحو تفضيل الوضع الراهن في الوقت الحالي، مع حصول على "الاستقلال في نهاية المطاف".
حكومة تايوان كانت تعتبر نفسها جزءاً من الصين بل ممثلتها الشرعية
وكانت حكومة تايوان نفسها تتبنى لعقود سياسة الصين الواحدة، ولكنها في البداية تعتبر أن تايوان هي ممثلة الصين الرسمية، قبل أن تتحول الحكومة بشكل تدريجي لمحاولة تأكيد هويتها المستقلة.
قبل التعديلات الدستورية لعام 1991 وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومينتانغ هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة دستورياً، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
وبصفة عامة ظلت سياسة الصين الواحدة هي السياسة الرسمية لتايوان حتى بداية التسعينيات.
في عام 1992، أكد حزب الكومنتانغ الذي أسس تايوان، على أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين قد اتفقتا على وجود "الصين" الواحدة، لكنهما اختلفتا حول ما إذا كانت "الصين" ممثلة من قبل جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان)، هذا التفسير لتوافق عام 1992 لم تقبله جمهورية الصين الشعبية.
في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، التقى الرئيس التايواني الأسبق ما ينج جيو، الذي ينتمي لحزب الكومينتانغ، والرئيس الصيني شي جين بينغ في سنغافورة، في أول اجتماع من نوعه بين الجانبين منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية.
غير أن أموراً كثيرة تغيرت، فمع تولي أجيال جديدةٍ السلطة في تايوان إثر ترسيخ الديمقراطية في البلاد وصعود الصين وفقدان النخبة التي أسست البلاد الأمل في استعادة حكم بكين، تخلت تايوان عن اعتبار نفسها ممثلة رسمية للصين برمتها.
وتقدم جيل جديد من الساسة يعتبر أن تايوان دولة مستقلة عن الصين قائمة بذاتها، وأغلب هؤلاء ينتمون إلى قومية هوكلو، أكبر مجموعة عرقية (70% من إجمالي السكان)، الذين هاجر أسلافهم من منطقة فوجيان الجنوبية الصينية الساحلية عبر مضيق تايوان بدءاً من القرن الـ17، ويشجع الغرب هذه التوجهات أو لا يعارضها علناً على الأقل.
ومع ذلك ما زال هناك خلاف كبير بين التايوانيين، حول مسألة هوية البلاد وهل هي جزء من الصين أم دولة مستقلة، وتتباين المواقف بشكل كبير، حسب الأجيال والأصول، فالأكبر سناً تزداد بينهم نسب مؤيدي الهوية الصينية وكذلك التايوانيين الذي ينتمون للمهاجرين الذين جاءوا للبر الرئيسي من الصين بعد عام 1945.
وقال هوانغ، صاحب المطعم، إنه اعتقد خلال سنوات المدرسة أنه صيني، ولكن عندما صار بالغاً بدأ يعتبر نفسه تايوانياً فحسب.
قمع الصين لاحتجاجات هونغ كونغ أدى لتغيير في مواقف كثير من التايوانيين
في مطعمه الكائن بالعاصمة تايبيه، الذي يتخصص في وجبات المطعم التايواني، ثمة "جدار جون لينون" مُكرس إلى حركة الديمقراطية المحظورة الآن في هونغ كونغ، ومزين بمئات الرسائل المكتوبة على الملصقات التي يكتبها المؤيدون.
وأغلق هوانغ أبواب مطعمه تضامناً مع المحتجين خلال حركة زهرة عباد الشمس الطلابية الاحتجاجية في عام 2014، عندما تظاهر عشرات الآلاف ضد اتفاقية تجارية مع الصين. ويقول إن السكان الصينيين "تُغسل أدمغتهم".
ويرغب هوانغ شخصياً في الاستقلال الآن، لكنه قال أيضاً إنه قادر على الانتظار حتى يقتنع المزيد من الشعب التايواني.
وأوضح أنه لا يفكر كذلك في الحرب. وأضاف: "سواء هاجمونا أم لا، ذلك يتعلق بالقادة الصينيين وما يقررونه، لا طائل بالنسبة لنا من القلق".
ويرى آخرون، مثل تشن شيه-وي، أن العلاقات الثقافية والعاطفية مع الصين قوية للغاية. هاجرت عائلة تشن إلى تايوان خلال حكم سلالة مينغ، الذي انتهى عام 1644، ويعتبرون أنفسهم صينيين وتايوانيين.
وقال تشن: "أنا صيني وأنا تايواني، لا يمكن الفصل بينهما، لقد قرأنا التاريخ، بما في ذلك سجلات العشيرة، ونحن واضحون في أننا جئنا من البر الرئيسي، وانحدرنا من الأشخاص الذين استقروا في تايوان، وتربوا هنا".
سافر تشن، الذي ينحدر من مدينة تاي شانغ التايوانية، إلى الصين عدة مرات عندما كان رياضياً شاباً، بداية من عام 1990. وقال إنه قابل في البر الرئيسي أوجه تشابه تفوق أوجه الاختلاف. يعد تشن مؤيداً لإعادة التوحيد، لكنه لا يعتقد أنه سوف يحدث خلال حياته.
ويعيش تشن الآن في جزر ماتسو، وهي مجموعة من الجزر التي يسيطر عليها تايوانيون، وتعد أقرب إلى الصين من جزيرة تايوان. وقال إنه قلق بدرجة ما من احتمالية نشوب صراع. وأوضح: "هذا ليس ما يريد الشعب على كلا الجانبين أن يراه".
وليس هناك أحد يرى مخرجاً سهلاً من العداء المتراكم على مدار السنوات العديدة الماضية، سواء أكان عداءً عسكرياً أو دبلوماسياً أو اقتصادياً.
لكن كوكو وانغ قالت إن التوترات بين الحكومتين، وليست بين الشعبين.
وأوضحت: "التايوانيون وسكان البر الرئيسي ودودون بدرجة كبيرة، بعضهم إلى بعض. لماذا يبدو الأمر هكذا؟"