حين كان كولم كيليهر، رئيس بنك UBS السويسري، المولود في مدينة وارينغتون البريطانية، في جامعة أكسفورد، كان يمارس لعبة Diplomacy "دبلوماسي" لساعات. وهذه اللعبة اللوحية تعتمد على تشكيل حلفاء وخيانتهم لغزو أوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولا بد أنها كانت تدريباً ممتازاً لشخص أصبح الآن أقوى مصرفي في أوروبا. وهي ستعطيه أيضاً فكرة لا بأس بها عن البلد الذي يقيم فيه.
في لعبة "دبلوماسي" بإمكان اللاعبين غزو أي دولة باستثناء دولة واحدة: سويسرا. والأسباب التي تجعل من الصعب غزو سويسرا وجيهة: فهي مليئة بالجبال وصاحبة ثالث أعلى مستوى في العالم في ملكية الأسلحة. لكن صانعي اللعبة لم يجعلوا سويسرا عسيرة على الهجوم فحسب، بل جعلوها محصنة وغير قابلة للغزو. وهي إشارة بارعة إلى الدور الذي لعبته سويسرا لعدة قرون: الثقب الأسود الذي يقع في قلب أوروبا، لكنه يقف بعيداً عنها في الوقت نفسه؛ ولم يكن هذا حياداً نبيلاً بقدر ما كان "أنانية مفرطة"، كما تقول صحيفة The Times البريطانية.
لكن الأسبوع الماضي، تعهّدت سويسرا بجمع معلومات عمن يملك شركاتها الوهمية وبإلزام المحامين بالإبلاغ عن أي شكوك متعلقة بغسل الأموال، في إطار سعيها إلى التخلص من سمعتها كملاذ للأموال المهربة.
وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي ليس لديها تسجيل محلي للملكية، وهذا يجعلها نقطة جذب لأصحاب النفوذ والمجرمين الراغبين في إخفاء أرصدتهم. ويبدو أن سويسرا تتطور بطريقتها الهادئة.
كيف تكتنز سويسرا ثروات العالم منذ وقت طويل؟
كانت الأقاليم السويسرية بمثابة صناديق ودائع آمنة للأجانب القلقين من عدم الاستقرار. ولكن في القرن العشرين انطلقت الأعمال التجارية. وفي الحربين العالميتين، وجدت البلاد نفسها جزيرة سلام مرتين؛ وفي أوقات السلم، كانت ملاذاً ضريبياً محاطاً بالحكومات التي تحاول سداد ديون القتال.
وكان بإمكان الفرنسيين الأثرياء دفع ضريبة الدخل الجديدة بعد فرضها عام 1914 أو إجراء معاملاتهم المصرفية في جنيف. وكان بوسع الألمان الأثرياء أن يساهموا في التعويضات التي فُرضت على بلادهم عام 1919، أو إيداع أموالهم في زيوريخ. وكلما زادت معدلات الضرائب، زاد عدد من يفضلون التهرب منها، وخاصة بعد عام 1934، حين أصبح الكشف عن المعلومات المصرفية للأجانب جريمة بالنسبة للمواطنين السويسريين.
وبحلول عشية الحرب العالمية الثانية، كان 2.5% من ثروات العائلات الأوروبية مخفاة في البنوك السويسرية؛ وبحلول السبعينيات، بلغت النسبة 5%. وأصبحت الخدمات المصرفية الصناعة الأهم في سويسرا، وكما هو الحال في لعبة دبلوماسي، كانت سويسرا تُستغل من أي شخص يستطيع تحمل تكاليف خدماتها: النازيون، والشيوعيون، والساسة الفاسدون، وأعضاء المافيا، والمتهربون من الضرائب، وأي شخص لديه أموال يرغب في حمايتها. وكان ثلاثة أشخاص فقط على علم بوجود حساب مصرفي -مالكه واثنين من موظفي البنك- وكان من مصلحتهم أن تسير الأمور بهذه الطريقة.
ومن المفارقات أن هذه السرية نالت شهرة عالمية. فحين يختبئ أستريكس (شخصية كرتونية) من مطارديه الرومان في قبو بنك سويسري، يجده مليئاً بالكنوز المنهوبة من مصر، وحين يتتبع جيمس بوند غولد فينغر، يجده في مخبأ سويسري، يذيب الذهب المسروق من المملكة المتحدة. وفي وضع كهذا، لن يكون مفاجئاً أن تختار منظمة مثل الفيفا سويسرا لتكون موقعاً لمقرها الرئيسي، كما تقول مجلة ذي تايمز.
قول إن هناك أموالاً مهربة في سويسرا شيء، وإثبات ذلك شيء آخر
وبحلول الستينيات، لم يكن عليك حتى زيارة سويسرا لاستخدام بنوكها، فقد أقامت فروعاً في أنحاء العالم يمكنها بكل أريحية تحويل أموالك إلى المكتب الرئيسي. لكن معرفة وجود أموال مهربة في سويسرا شيء، وإثبات ذلك شيء آخر، وذلك بفضل معضلة قانونية.
إذ قال أحد المدعين الأمريكيين السابقين في جلسة استماع بالكونغرس عام 1969: "بإمكان الحكومة السويسرية فعلياً رفع السرية عن الحسابات المصرفية. لكن قول هذا أسهل من فعله؛ فلو أن المدعي العام يحتاج إلى دليل على أن الأموال المسروقة موجودة في حساب هناك لرفع السرية المصرفية، ولو أنه لا يتمكن من الحصول على هذا الدليل إلا بالاطلاع على ملفات الحساب، فنحن ندور في حلقة مفرغة".
وعام 2007، أخبر مصرفي في بنك UBS يُدعى برادلي بيركينفيلد المسؤولين الأمريكيين عن الحيل التي يستخدمها هو وزملاؤه لمساعدة عملائه على التهرب من الضرائب الأمريكية، التي كان من بينها إخفاء ألماس في أنابيب معجون الأسنان لتهريبه عبر الحدود، ونفد صبر واشنطن.
فأقدمت على فرض غرامات ضخمة على كبرى البنوك السويسرية، التي كانت تعاني من آثار الأزمة المالية، وغيرت قوانينها لإجبارها على الكشف عن استعانة أي مواطن أمريكي بخدماتها. وحذت دول كبرى أخرى حذوها، وهذا يعني أن الأيام التي كان الأوروبيون يعبرون فيها الحدود بهدوء لإيداع أموالهم في الثقب الأسود الموجود وسطهم قد ولت.
الثبات على الحياد في وسط أوروبا
أصبح حفاظ سويسرا على حياديتها صعباً أيضاً. فحين كانت محاطة ببلدان تتقاتل فيما بينها، كان موقف سويسرا مبرراً. ولكنها الآن محاطة بالاتحاد الأوروبي، ولا يبدو انفصالها عنه منطقياً. وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة عام 2002، والعام الماضي، انضمت إلى العقوبات الغربية المفروضة على الكرملين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وبعدها جمدت سويسرا ما قيمته أكثر من ستة مليارات جنيه إسترليني من الأرصدة الروسية، وبذلك "قدّمت القيم الأخلاقية على المصالح التجارية" كما تقول صحيفة ذي تايمز، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً تصوره في الأيام الخوالي. فقد احتاجت سويسرا إلى أكثر من 50 عاماً قبل أن تعترف بأن بنوكها كانت تخفي أموال ضحايا المحرقة عن ورثتهم، بحسب الصحيفة.
لكن حياد سويسرا أو سرية بنوكها لم يكونا سوى أدوات تسمح لها بالتنافس مع منافسين أكبر وأكثر ثراء، وربما لم تعد سويسرا بحاجة إلى ذلك بعد الآن.
إذ أعلن بنك UBS لتوّه عن أرباح مذهلة بلغت 29 مليار دولار، وهو أكبر ربح ربع سنوي يعلنه أحد البنوك، وذلك بفضل استحواذه المثير للجدل على منافسه كريدي سويس Credit Suisse، الذي سيؤدي إلى إنهاء حوالي 3000 وظيفة.
والبنوك السويسرية، التي تضم 2.4 تريليون دولار من الأرصدة الأجنبية المعلن عنها بالكامل، مستعدة لممارسة اللعبة لحسابها الآن، لا أن تكتفي بأن تكون قبواً مصرفياً يمكن إنكاره لصالح آخرين.