"حتى عمال الهدم يأسفون لمخطط هدم مقابر القاهرة التاريخية"، فيما سارع شباب الفنانين لأماكن بعض المقابر لرسمها وتوثيقها قبل إزالتها في مبادرة سميت بـ"رسم مصر"، ورغم كل الاعتراضات، يبدو أنه لا مجال لنجاة المقابر التي وُصفت من قِبل الإعلام الغربي بأنها واحدة من أروع مقابر العالم.
على مدار السنوات العشر الماضية، يزور الباحث المصري مصطفى الصادق مجمع المقابر الإسلامية "مدينة الموتى" بالقاهرة، ويكتشف دائماً شيئاً جديداً عن التراث المصري من المقابر التي يعود تاريخها إلى وصول الإسلام إلى مصر من القرن السابع وصولاً إلى أوائل القرن العشرين.
لكن كل شيء تغيّر منذ عام 2020، عندما بدأت الحكومة المصرية في هدم المئات من هذه المقابر التاريخية لتوسيع الطرق السريعة المؤدية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، على بعد 50 كيلومتراً شرق القاهرة، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي.
تغيّرت زيارات صادق أيضاً، إذ انضم إلى المتطوعين الذين يكافحون من أجل إنقاذ المنطقة التاريخية، ويعملون بالتوازي مع الحفارات والجرافات لانتشال القطع الأثرية وسط أنقاض المقابر في مجمّعي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة.
قال صادق لموقع Al-Monitor الأمريكي: "نشعر بالعجز والإحباط، الحكومة التي يجب أن تحمي هذا التراث دمرته بجرافاتها".
صحيفة بريطانية تصف مقابر القاهرة التاريخية بواحدة من أروع المقابر في العالم
وسبق أن وصفتها صحيفة The Times البريطانية بأنها "واحدة من أروع مقابر العالم".. مقابر القاهرة الشهيرة، المعروفة باسم "القرافة"، والتي توصف بأنها مدينة موتى ولكنها مسكونة في الوقت ذاته، تحوي قبوراً لشخصيات مهمة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ولكنها الآن مهددة بالإزالة.
مدينة الموتى مُسجَّلة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، ففي عام 1979 تم تسجيل القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويقع كثير من المواقع التي تضم جبانات، ضمنَ منطقة القاهرة التاريخية.
وقالت اليونسكو إنَّها لم تتلقَّ اتصالات من السلطات المصرية بشأن خططها.
وأثار توجه الحكومة المصرية لإنشاء ما سمته "مقبرة العظماء" أو "مزار الخالدين" في العاصمة الإدارية الجديدة، لنقل رفات العديد من الشخصيات التاريخية والعامة المدفونة بمقابر القاهرة التاريخية جدلاً ثقافياً وعمرانياً واسعاً.
من وجهة نظر الحكومة المصرية فإنها تسعى لتجميل صورتها بعد أن طالتها اتهامات من جهات ثقافية دولية بالتعدي على المقابر التاريخية.
وسبق أن أصرت الحكومة على هدم مقابر المماليك أو قرافة المماليك لبناء محور مروري، وهي مقابر تحوي مجموعات جنائزية فريدة لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم، من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي، تجاورها قباب منفصلة متناغمة معها، بجانب مقابر العائلات الأرستقراطية المصرية الحديثة، والتي لا تقل روعة في عمارتها وحسن بنائها وتفردها عن مقابر المماليك.
رسم مصر.. حملة لتوثيق ورسم المقابر قبل إزالتها
وتوافد عدد كبير من شباب الرسامين بناء على دعوة من مبادرة رسم مصر، ضمن جولة سميت "طالع إزالة" في مقابر الإمام الشافعي، هدفها رسم وتوثيق المقابر والقرافات التاريخية التي صدر بحقها قرارات للإزالة قبل تنفيذها، في خطوة لتوثيق تلك المعالم التاريخية والأثرية.
ونشرت صفحة "رسم مصر"، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، توافد وتجمع كبير لشباب رسامين حضروا من عدة محافظات؛ لرسم وتوثيق بعض الأماكن الأثرية في القاهرة التاريخية قبل إزالتها، حسبما ورد في صحيفة "الشروق" المصرية.
الموجة الأولى استهدفت مقابر عظماء مصر بالقرن العشرين الزاخرة بالهندسة المعمارية
تغطي مدينة الموتى، التي شُيِّدَت مع نشأة العاصمة الإسلامية عام 642، ست مناطق في شمال وجنوب القاهرة التاريخية، وفقاً لتقرير مشروع التجديد العمراني للقاهرة التاريخية 2010-2012.
في يوليو/تموز 2020، استهدفت موجة الهدم الأولى منطقة القرافة الكبرى في شمال القاهرة التاريخية، لربط المنطقة بالعاصمة الإدارية الجديدة.
هُدِمَت العديد من المقابر التي كانت تضم رفات شخصيات مشهورة من القرن العشرين، مثل الرئيس الأول لجامعة القاهرة، أحمد لطفي السيد، والكاتبين إحسان عبد القدوس ومحمد التابعي، والمهندس عبود باشا، والأميرة نازلي هانم حليم، بحسب قول صادق.
الحكومة تقول إنها ليست مسجلة كمعالم أثرية
قالت الحكومة في بيان لها، إن هذه المقابر لم تكن مسجلة كمعالم إسلامية أو قبطية، بل هي مقابر حديثة. هذا بينما قال صادق، وهو أيضاً طبيب توليد بجامعة القاهرة: "نعم، إنها غير مسجلة، لكن تنضح هذه المقابر بالتاريخ والهندسة المعمارية والفن".
بعد بضعة أشهر، شرعت الحكومة في الموجة الثانية، التي شملت القرافة الصغرى (وتسمى أيضاً قرافة الإمام الشافعي). وكانت الخطة تقضي بهدم 2760 مقبرة كجزءٍ من طريق صلاح سالم، لربط المساجد والأضرحة التابعة لعائلة النبي محمد بالقاهرة الإسلامية.
في 8 أغسطس/آب، افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مسجد السيدة نفيسة كجزء من تجديد مراقد أهل البيت، وتحدث السيسي خلال حفل الافتتاح عن "خطة الدولة لتجديد القاهرة التاريخية".
لكن خطة السيسي أثارت غضباً شعبياً وانتقاداتٍ من الباحثين في مجال التراث وعلماء الآثار والمهندسين المعماريين. ورفع المهندس المعماري المتميز طارق المري دعوى قضائية لوقف هدم المقابر، ومن المقرر أن تبت المحكمة في الدعوى في 21 سبتمبر/أيلول الجاري.
وقال المري: "إن عمليات الإزالة والهدم تمثل ازدراء لجزء من تاريخ مصر، وتمثل خطراً على منطقة كبيرة تعود إلى القرن السابع الميلادي".
في المقابل، أمر السيسي بتشكيل لجنة "لتقييم الوضع والنظر في البدائل المتاحة" لنقل مجمعي السيدة نفيسة والإمام الشافعي، حتى مع تنفيذ الحكومة خطتها التنموية في المنطقتين. ووجَّه بإنشاء مقبرة لدفن رفات شخصيات مصر العظيمة، وستضم المقبرة أيضاً متحفاً للقطع الأثرية الموجودة في المقابر الحالية.
حتى عمال الهدم يشعرون بالأسف
وبعد أسبوع من افتتاح السيسي مسجد السيدة نفيسة، في 18 أغسطس/آب، اتجهت الجرافات إلى قرافة الإمام الشافعي، في الموجة الثانية من هدم المقابر، البالغ عددها 2760، بما في ذلك مقابر مصريين بارزين في الثقافة والسياسة والدين والفن، وكذلك أفراد من العائلة المالكة سابقاً.
قال صادق: "لم يسبق لي أن صُدِمت هكذا من قبل، كان الهدم أعنف وأكثر عشوائية، وحتى العمال على الجرافات في الموقع شعروا بالأسف حيال ذلك". وقال إن العمال ساعدوا في إنقاذ القطع الأثرية من مقبرة الأمير إبراهيم حلمي، ابن إسماعيل، خديوي مصر (1860-1927).
مبادرة شواهد مصر أنقذت 25 قطعة أثرية
وقال حسام عبد العظيم، مؤسس مبادرة شواهد مصر، المكلفة بالحفاظ على تراث مصر المفقود، إن "الوضع كارثي للغاية". ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2021، أنقذت المبادرة 25 قطعة أثرية من المقابر، بما في ذلك شواهد القبور التي يعود تاريخها إلى عصر الخلافة العباسية في القرن التاسع.
وقال عبد العظيم: "كل هذه المعالم غير مسجلة بموجب قوانين الآثار"، لكن "الآثار الجنائزية عنصر رئيسي في تاريخ مصر من قدماء المصريين إلى العصور الإسلامية والتاريخ الحديث".
وفي 29 أغسطس/آب 2023، رفضت محافظة القاهرة التقارير التي تفيد بهدم مقبرتي الشاعر أحمد شوقي والإمام ورش.
ومع ذلك، قال صادق إنه عثر على حطام بالقرب من قبر الشاعر شوقي، ودُمِّرَت ستة قبور لعائلته.
يبدو أن الحكومة تريد تشييد ناطحات سحاب بدلاً منها
وجهت عضو مجلس النواب، مها عبد الناصر، عدة أسئلة لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي، حول خطط التنمية لعام 2020، لكنها لم تتلق أي إجابات. وقالت لموقع Al-Monitor إن خمسة أعضاء انسحبوا من لجنة الخبراء الرئاسية التابعة للسيسي بسبب عزم الحكومة على هدم المقابر.
وقالت: "ليس من الواضح ما وراء المشروع، وإصرار الحكومة على هدم المقابر"، موضحة أن خطة الحكومة ستستبدل هذه المقابر لتضع مكانها ناطحات سحاب ومساحات خضراء بحلول عام 2030.
رئيس اللجنة الحكومية استقال احتجاجاً على هدم المقابر ثم عدل عن استقالته فجأة
في اعتراض نادر، استقال أيمن ونس، المسؤول الحكومي الذي يرأس لجنة مسح المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، الخميس، احتجاجاً على تدمير المقابر التاريخية في القاهرة.
ونشر ونس استقالته المكتوبة بخط اليد على منصة فيسبوك، قائلاً: "الهدم المستمر للمقابر التراثية ليس فقط خسارة لمباني المقابر التاريخية، بل خسارة لنسيج عمراني تاريخي ذي قيمة فريدة في العالم، وجزء مهم من التراث العالمي"، لكن ونس تراجع عن استقالته في اليوم التالي، قائلاً: "لقد استُخدِمَت استقالتي لانتقاد الحكومة… وأنا متأكد أنه سيجري تصحيح خطة التنمية".
اليونسكو لم ترد على طلب الاستغاثة
تعتبر القاهرة التاريخية أحد مواقع التراث العالمي من قبل اليونسكو منذ عام 1979. وقال صادق: "أرسلنا رسائل إلى المنظمة، لكنها لم ترد بعد".
في عام 2021، قالت اليونسكو إنه "لم تُرسَل أي معلومات حول هذا المشروع مسبقاً إلى مركز التراث العالمي لتقييمه… وأرسل مركز التراث العالمي خطاباً، في يوليو/تموز 2020، إلى السلطات المصرية، يطلب فيه تأكيد هذه المعلومات، وتقديم أي معلومات ذات صلة، لكن أياً منهما لم يُقدَّم".
وأضافت المنظمة: "رغم أن هذه المقابر والأضرحة المهدمة ربما لم تكن آثاراً محمية/مسجلة، لكن مع ذلك هي جزء من النسيج الحضري التاريخي".