نجحت ألمانيا في إعادة إحياء اقتصادها المحتضر قبل عقدين من الزمان، وأصبحت قوة تصنيعية لا يُستهان بها في عصر العولمة. لكن تغيّر الزمن ولم تستطع ألمانيا مواكبة التغيرات.
حيث يتعيَّن الآن على الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، أن تعيد إثبات نفسها مرة أخرى. لكن طبقتها السياسية المنقسمة تكافح من أجل إيجاد حلول لمجموعة مرهقة من المشكلات طويلة الأمد، والأزمات قصيرة الأمد، الأمر الذي يؤدي إلى شعور متزايد بالانزعاج.
كيف فقدت ألمانيا سحرها الاقتصادي؟
وفقاً لصندوق النقد الدولي، ستكون ألمانيا الاقتصاد الرئيسي الوحيد في العالم الذي يشهد انكماشاً في عام 2023 في حين حتى اقتصاد روسيا الخاضعة للعقوبات يشهد نمواً.
ويقول تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية، إن اعتماد ألمانيا على التصنيع والتجارة العالمية أدى إلى تأثر اقتصادها بالأزمات العالمية الأخيرة، بدايةً من اضطرابات سلاسل التوريد العالمية خلال جائحة كوفيد-19 إلى ارتفاع أسعار الطاقة بعد حرب روسيا في أوكرانيا وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة – وجميعها عوامل أدت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي.
لكن مواجهة الاقتصاد العالمي مشكلات ليس أمراً جديداً. في الواقع، شهد الإنتاج الصناعي لألمانيا وناتجها المحلي الإجمالي ركوداً منذ عام 2018، وهو ما يشير إلى أنَّ نموذجها الناجح منذ فترة طويلة فقد كل قواه السحرية المعهودة.
كانت الصين المحرك الرئيسي لازدهار الصادرات الألمانية على مدار سنوات. اشترت الصين، التي تشهد تحولاً صناعياً سريعاً، جميع السلع الرأسمالية الألمانية.
لكن بدلاً من اعتماد الشركات الصينية على كونها أفضل زبائن ألمانيا، تحوّلت إلى أشرس منافسيها. باتت شركات صينية ناشئة لصناعة السيارات تتنافس مع شركات ألمانية راسخة في السوق مثل شركة "فولكس فاغن".
على نطاق أوسع، أصبح العالم أقل تفضيلاً لذلك النوع من التجارة المفتوحة الذي استفادت منه ألمانيا. اتضح جلياً هذا التحول في فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسوماً جمركية ليس فقط على الواردات من الصين، بل أيضاً على الواردات من حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا. أشار كذلك قرار المملكة المتحدة في عام 2016 بمغادرة الاتحاد الأوروبي وضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، إلى التحوّل نحو بيئة أكثر عدائية لكبار المصدرين.
ألمانيا استهانت في معالجة نقاط الضعف لديها
أدى الازدهار الصناعي طويل الأمد الذي شهدته ألمانيا إلى تهاونها في معالجة نقاط الضعف المحلية، بدءاً من شيخوخة القوى العاملة إلى القطاعات الخدمية المتصلبة والبيروقراطية المتنامية. قدمت البلاد أداءً أفضل فيما يخص دعم الصناعات القديمة التقليدية، مثل صناعة السيارات والآلات والمواد الكيميائية، مقارنةً بتعزيز الصناعات الجديدة، مثل التكنولوجيا الرقمية. تأسست شركة البرمجيات الكبرى الوحيدة في ألمانيا (SAP) في عام 1975.
أدت سنوات من تقليص الاستثمار العام إلى تهالك البنية التحتية، وتراجع جودة النظام التعليمي، وخدمة دون المستوى للإنترنت فائق السرعة، مقارنةً بالاقتصادات المتقدمة الأخرى.
أصبحت قطارات ألمانيا نموذجاً للتراجع بعدما كانت ذات يوم مثالاً يحتذى في الكفاءة، وباتت مواصلة اعتماد إدارة البلاد على أجهزة الفاكس أضحوكة عامة، وحتى فرق كرة القدم الألمانية تتعرض للهزيمة بانتظام. قال موريتز شولاريك، رئيس معهد "Kiel" للاقتصاد العالمي، "يبدو أنَّنا كنا نائمين نوعاً ما طوال ما يقارب عقد من التحديات".
في شهر مارس/آذار، انسحبت مجموعة "Linde" متعددة الجنسيات الرائدة في مجال الغازات الصناعية –وهي واحدة من أشهر الشركات الألمانية- من بورصة فرانكفورت لصالح الحفاظ على إدراجها الوحيد في بورصة نيويورك. أعلنت الشركة، التي تعود جذورها إلى عام 1879، إنَّها لم تعد ترغب في أن يُنظر إليها باعتبارها ألمانية تماماً – وهو انتساب تعتقد الشركة أنَّه يقلل من جاذبيتها للمستثمرين.
أشار جوزيف جوفي، الناشر المخضرم وزميل جامعة ستانفورد، إلى أنَّ ألمانيا اليوم في خضم دورة أخرى من النجاح والركود والضغوط من أجل الإصلاحات.
قال يوفي: "سوف تتعافى ألمانيا، لكنها تعاني من مشكلتين طويلتي الأمد، الأولى هي فشلها في تحويل نظام الصناعة التقليدية القديمة إلى اقتصاد المعرفة، والثانية سياسة الطاقة غير الرشيدة".
من جانبه، قال وزير المالية الألماني، كريستيان ليندنر، في مقابلة: "نحن غير قادرين على المنافسة بقدر ما يجب أن نكون في الوقت الحالي، لكن أعتقد من المهم التذكير بأنَّ ألمانيا لا تزال رائدة عالمياً. نحن رابع أكبر اقتصاد في العالم. نمتلك الخبرة والمعرفة الاقتصادية وأنا فخور بقوتنا العاملة الماهرة".
كيف يمكن لألمانيا تجاوز هذه التحديات؟
لا تزال ألمانيا تتمتع حقاً بالعديد من نقاط القوة، ولا يزال مخزونها الكبير من المعرفة التقنية والهندسية وتخصصها في السلع الرأسمالية يضعها في وضع يتيح لها الاستفادة من النمو المستقبلي في العديد من الاقتصادات الناشئة، بالإضافة إلى أنَّ الأسواق المالية تنظر إلى سنداتها باعتبارها من بين الأصول الأكثر أماناً في العالم.
قال هولغر شميدينغ، الاقتصادي في بنك "بيرنبرغ" في هامبورغ، إنَّ التحديات التي تواجهها البلاد الآن أقل حدة مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي بعد إعادة توحيد ألمانيا".
في ذلك الوقت، كانت ألمانيا تعاني من التكاليف الباهظة المترتبة على اندماجها مع الشرق الشيوعي السابق. ساهمت المنافسة العالمية المتزايدة وقوانين العمل الصارمة في ارتفاع معدلات البطالة وتضخم الإنفاق على الإعانات الاجتماعية. كان اعتماد ألمانيا على التصنيع يُنظر إليه باعتباره نهجاً قديم الطراز في وقت كانت فيه دول أخرى تراهن على التجارة الإلكترونية والخدمات المالية.
بدأ مستشار ألمانيا الأسبق آنذاك، غيرهارد شرودر، تقليص الإعانات الاجتماعية وتحرير أجزاء من سوق العمل من القيود التنظيمية والضغط على العاطلين عن العمل لشغل الوظائف المتاحة. أدت تلك الإصلاحات المثيرة للجدل إلى انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي المنتمي إليه شرودر وخسارته السلطة.
كانت التغييرات في القطاع الخاص لا تقل أهمية عن التدابير الحكومية. تعاونت الشركات الألمانية مع الموظفين لجعل ممارسات العمل أكثر مرونة. وافقت النقابات على التنازل عن زيادات الأجور مقابل الاحتفاظ بالمصانع والوظائف. في الوقت نفسه، بدأ العالم يطلب شراء المزيد ممّا كان الألمان يجيدون صنعه، بما في ذلك السلع الرأسمالية والسيارات الفاخرة.
ترأست خليفة شرودر، المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، سنوات من النمو دون ضغوط تذكر لإجراء المزيد من الإصلاحات الجذرية المؤلمة. أدَّى تنامي الصادرات الألمانية إلى الدول النامية دوراً فعالاً في تعافي ألمانيا من الأزمة المالية العالمية عام 2008 على نحوٍ أفضل من العديد من الدول الغربية الأخرى.
تسلّل الشعور بالتراخي والرضا عن النفس. في الوقت نفسه، كانت قطاعات الخدمات، التي تُشكّل الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي وعدد الوظائف، أقل ديناميكية من الشركات الصناعية المعتمدة على التصدير. أدت القيود المفروضة على الأجور إلى تقويض الطلب الاستهلاكي وبدأت الشركات الألمانية ادخار الكثير من أرباحها بدلاً من استثمارها.
الإحجام الألماني عن مواكبة التقنيات الجديدة وتفوق الصين
بات المصدرون الناجحون غير راغبين في التغيير. كان الموردون الألمان لمكوّنات السيارات واثقين جداً من هيمنتهم على السوق لدرجة أنَّ العديد منهم رفضوا التحذيرات من أنَّ السيارات الكهربائية ستتحدى قريباً السيارات التي تعمل بمحرك الاحتراق الداخلي.
وبعد الإحجام عن الاستثمار في بطاريات السيارات الكهربائية وغيرها من التقنيات المستخدمة في مركبات الجيل الجديد، يجد الكثير من هؤلاء الموردين أنفسهم مسبوقين بخطوات من الشركات الصينية الناشئة.
وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC) أنَّ موردي السيارات الألمان خسروا جزءاً من حصتهم بالسوق العالمية منذ عام 2019 يعادل حجم مكاسبهم في العقدين الماضيين، وذلك جزئياً بسبب إحجامهم عن التغيير ومواكبة التقنيات الجديدة.
تشكو أيضاً المزيد من الشركات الألمانية من تنامي البيروقراطية. على سبيل المثال، قررت مؤخراً شركة "بيونتيك" الألمانية الرائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية -والتي طوَّرت لقاح Covid-19 بالتعاون مع شركة "فايزر" الأمريكية- نقل بعض أنشطتها البحثية والتجارب السريرية إلى المملكة المتحدة بسبب اللوائح المُقيدة المفروضة من جانب ألمانيا فيما يخص حماية البيانات.
قال مؤخراً أوغور شاهين، المؤسس المشارك لشركة "بيونتيك"، إنَّ القوانين الألمانية المتعلقة بالخصوصية وحماية البيانات جعلت من المستحيل إجراء دراسات رئيسية لعلاجات السرطان، مشيراً إلى أنَّ إجراءات الموافقة على علاجات جديدة عادت إلى وتيرتها البطيئة بعدما تقرر تسريعها خلال جائحة كوفيد-19.
تُشكّل أسعار الطاقة تحدياً وجودياً لقطاعات عديدة، من بينها قطاع الصناعات الكيماوية. كشفت الحرب الروسية-الأوكرانية عن رهان ألمانيا المُكلّف على الغاز الروسي لمساعدتها في سد الفجوة الناجمة قرار إغلاق محطات طاقة نووية.
رفض سياسيون ألمان تحذيرات من أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم الغاز لتحقيق نفوذ جيوسياسي، قائلين إنَّ موسكو كانت دائماً مورداً موثوقاً به للغاز. لكن بعد إعلانه الحرب على أوكرانيا، قرر بوتين خفض إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا في محاولة لوقف الدعم الأوروبي لكييف.
انخفضت أسعار الطاقة في أوروبا عن ذروتها العام الماضي مع سعي دول الاتحاد الأوروبي لإيجاد بدائل للغاز الروسي. ومع ذلك، لا تزال الصناعة الألمانية تدفع تكاليف طاقة أعلى من منافسيها في الولايات المتحدة الأمريكية وآسيا.
قلة الأيدي العاملة الماهرة
يشكو رؤساء الشركات الألمانية أيضاً من الافتقار إلى الأيدي العاملة الماهرة وقوانين الهجرة المعقدة، التي تعيق جلب عمال مؤهلين من الخارج، بالإضافة إلى البنية التحتية الرقمية المتفاوتة في جودتها.
يقول مارتن برودرمولر، الرئيس التنفيذي لشركة الكيماويات العملاقة "BASF" في اجتماعه السنوي مع المساهمين في أبريل/نيسان: "نشعر بمزيد من القلق تجاه سوقنا المحلية، والربحية باتت دون المستوى المتوقع".
تواجه ألمانيا أيضاً مشكلة في التركيبة السكانية – وهي مشكلة يستغرق حلها وقتاً طويلاً. أدى تقلص القوى العاملة إلى وجود ما يقدّر بنحو مليوني وظيفة شاغرة وتكافح نحو 43% من الشركات الألمانية للعثور على موظفين، إذ متوسط الوقت المستغرق لتوظيف شخص يقترب من 6 أشهر.
يزيد المشهد السياسي المنقسم في ألمانيا من صعوبة تنفيذ تغييرات بعيدة المدى كما فعلت البلاد قبل 20 عاماً. وكما هو الحال في معظم أنحاء أوروبا، فقدت أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط هيمنتها الانتخابية.
يقود المستشار الألماني، أولاف شولتز، وحزبه الديمقراطي الاشتراكي ائتلافاً حاكماً لدى أعضائه آراء متعارضة تماماً بشأن سبل المضي قدماً نحو الأمام. يريد الديمقراطيون الأحرار خفض الضرائب في حين يريد الخضر زيادتها. وبينما يريد الوزراء أصحاب الميول اليسارية مضاعفة الإنفاق الاستثماري العام -وتمويل ذلك بالاقتراض إذا لزم الأمر- يرفض وزير المالية الألماني ذلك، قائلاً: "نحن بحاجة إلى التحوط المالي".
ورغم ذلك، رفض شولتز مؤخراً التوقعات القاتمة بشأن ألمانيا. وقال في مقابلة أجراها مع التلفزيون الوطني، إنَّ ثمة حاجة إلى إدخال تغييرات، لكن ليس إلى إصلاح جذري للنموذج الاقتصادي المعتمد على التصدير، والذي خدم ألمانيا جيداً طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وأشار شولتز إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع الرقائق الإلكترونية من شركات عالمية رائدة، مثل شركة "إنتل"، وذلك بفضل الدعم الحكومي الألماني السخي. في الوقت نفسه، قال شولتز إنَّ التغييرات المخطط لها أيضاً في قوانين الهجرة، من بينها تسهيل التأهل للحصول على الجنسية الألمانية، ستساعد في جذب المزيد من العمالة الماهرة.
لكن أولاف شولتز لا يزال يناضل من أجل وقف الاقتتال الداخلي داخل ائتلافه. تراجعت معدلات تأييد الحكومة وتفوق حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف على الحزب الاشتراكي الديمقراطي -الذي ينتمي إليه شولتز- في استطلاعات الرأي.