كلما عاد نيلو سكافو من أوكرانيا تغلب عليه الإحباط، بصفته مراسلاً حربياً لصحيفة Avvenire الإيطالية، فهو يعلم أن السؤال الأول الذي سيطرحه عليه الناس هو: "هل الأمر حقاً بهذا السوء كما يقولون؟". إذ قال لصحيفة The Guardian البريطانية: "في بعض الأحيان أعتقد أنه فقط إذا عدت مصاباً بجروح بالغة فإن الناس سيأخذونني على محمل الجد".
وأضاف: "يبدو الأمر كما لو أنهم لا يصدقون أن روسيا تقتل مدنيين. المشكلة هي أن فلاديمير بوتين كان يتمتع دائماً بتعاطف واسع النطاق في السياسة الإيطالية والرأي العام، حيث يتمتع الكرملين دائماً بدعاية فعالة هنا".
كيف غزت الدعاية الروسية إيطاليا؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، رغم أن الحكومة اليمينية في إيطاليا هي واحدة من أقوى المؤيدين الأوروبيين لأوكرانيا، فإن الدعاية الروسية والمعلومات المضللة تتغلغل في وسائل الإعلام الإيطالية، حيث يُدعَى ضيوفٌ موالون لروسيا صراحةً إلى البرامج الحوارية الأكثر شعبية في البلاد. وكشفت دراسة استقصائية نشرتها شركة إيبسوس، في أبريل/نيسان، أن ما يقرب من 50% من الإيطاليين يفضلون عدم الانحياز لأي طرف في الصراع الروسي الأوكراني.
قام ماتيو بوليسي، الباحث الإيطالي في مجال الأمن والإرهاب في جامعة برشلونة، بتتبع موكب المسؤولين الحكوميين والأيديولوجيين والإعلاميين الروس الذين استضافتهم شبكات التلفزيون الإيطالية منذ الغزو الروسي.
ومن بين هؤلاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والمتحدثة باسمه ماريا زاخاروفا، والمنظِّر القومي الروسي المتطرف ألكسندر دوجين، والصحفية أولغا بيلوفا من قناة روسيا 24، وهي إحدى المنافذ التي أنكرت مذبحة بوتشا، علاوة على يوليا فيتيازيفا، الصحفية في صحيفة NewsFront، ومقرها شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا، والتي يديرها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وكانت فيتيازيفا قد تمنَّت من قبل في منشورٍ على منصة تليغرام أن تضرب قنبلةٌ مسابقة الأغنية الأوروبية في تورينو بعد انتصار أوكرانيا.
وقال بوليسي: "بالمقارنة مع دول أوروبا الغربية الأخرى، قدمت إيطاليا عرضاً غير متناسبٍ للدعاية الروسية، في رأيي، ببساطة لأن منتجي التلفزيون أرادوا زيادة حصتهم من برامج معينة من خلال مناقشات ساخنة".
وأشار بوليسي إلى أن معظم المروِّجين الروس، البالغ عددهم 12، استضافتهم قناة Rete4، وهي قناة تابعة لشركة ميدياسيت، التي يملكها سيلفيو برلسكوني، وهو صديق قديم لبوتين، والذي ادعى قبل أشهر قليلة من وفاته، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي "استفز" روسيا لكي تغزو بلاده.
وقد أقام برلسكوني، الذي شغل منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات، علاقات وثيقة مع الرئيس الروسي، وأشاد بقيادته وساعد في صياغة صفقات الطاقة التي يلقي البعض عليها باللوم في اعتماد إيطاليا حالياً على الغاز الروسي.
قال سكافو: "في إيطاليا، حافظت الأحزاب اليمينية بشكل خاص على علاقات جيدة مع بوتين. ليس برلسكوني فقط، بل حتى نائب رئيس الوزراء الحالي ماتيو سالفيني، الذي كان يرتدي قميصاً عليه وجه بوتين".
كيف تغلغل تأييد بوتين في وسائل الإعلام الإيطالية؟
أطلقت اللجنة البرلمانية الإيطالية للأمن، العام الماضي، تحقيقاً وسط مخاوف واسعة النطاق بشأن ظهور المعلقين الروس المرتبطين بالكرملين على القنوات الإخبارية الإيطالية، حيث رفض العديد من الصحفيين الأوكرانيين قبول الدعوات لحضور البرامج التلفزيونية الإيطالية.
وفي بعض الحالات لا يكون ضيوف التلفزيون الإيطالي من مروِّجي الدعاية الروسية، بل من المعلقين الإيطاليين الذين يبدو أنهم ينظرون إلى الحرب على أنها نتيجة للاستفزاز الغربي. أحد الأشخاص الذين دُعوا بانتظام لمحطة La7 للبث المباشر هو أليساندرو أورسيني، أستاذ علم اجتماع الإرهاب والعنف السياسي في جامعة لويس في روما.
قال أورسيني علناً إن زيلينسكي هو "مجرم حرب" مثل بوتين، وقد أصبح يتمتع بشعبية كبيرة لدرجة أن مناقشاته على الشاشات الإيطالية استنفدت نفسها. ويعتقد أورسيني، الذي يصف نفسه بأنه من دعاة السلام، أن السبيل الوحيد لإنقاذ أوكرانيا هو الاعتراف بانتصار بوتين المفترض. وتنتشر أفكاره على نطاق واسع في الحركة السلمية الإيطالية، حيث يدفع العديد من المثقفين باتجاه السلام على حساب استسلام أوكرانيا. وعندما اتُّهِمَ بأنه مؤيد لروسيا، قال أورسيني إنه "لم يكن لديه حتى صديق روسي واحد".
في العام الماضي، كشفت دراسة مستقلة أجراها معهد الحوار الاستراتيجي أن إيطاليا لديها أكبر عدد من المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يثير الشكوك حول جرائم الحرب الروسية المرتكبة في بوتشا.
يدافع مذيعو التلفزيون الإيطالي عن قرارهم باستضافة الدعاة أو المعلقين الروس المزعومين، الذين لديهم "وجهات نظر مختلفة" حول الحرب كجزء من واجب إعطاء صوت لكلا طرفي الصراع.
أحد الأمثلة الصارخة هو ادعاء موسكو- الذي رفضته الأمم المتحدة واستخدمته كمبرر لغزوها واسع النطاق في عام 2022- بأن العمل العسكري الأوكراني في الصراع في دونباس يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وانضم عشرات الإيطاليين إلى وكلاء روسيا في دونباس في السنوات التي تلت عام 2014 للقتال ضد كييف.
أغلب هؤلاء من اليمينيين المتطرفين الذين تجذبهم القومية الروسية المتطرفة، لكن في صفوفهم أيضاً رجال ينتمون إلى اليسار المتطرف. كان هذا جزئياً إرثاً من قوة الحزب الشيوعي الإيطالي في فترة ما بعد الحرب، والذي بلغ ذروته بنسبة 34.4% من الأصوات في انتخابات عام 1976 ودعم ما كان يُنظر إليه على أنه مقاومة الدول الشيوعية ضد الإمبريالية الأمريكية.
إيطاليا هي "الأكثر تعاطفاً" مع روسيا في دول الاتحاد الأوروبي
ولا تزال هذه الرؤية، جزئياً، تثير حماسة مؤيدي اليسار الإيطالي الذين يرون في روسيا حصناً ضد الولايات المتحدة، ويؤمنون أيضاً بنظرية بوتين بشأن "النازيين الأوكرانيين". واحتفالاً بيوم النصر في عام 2022، وهو يوم عطلة يحيي ذكرى الانتصار السوفييتي على ألمانيا النازية، أصدر الحزب الشيوعي في زاغارولو، في العاصمة روما، سلسلةً من الملصقات التي تُظهِر الحرف Z الذي تستخدمه الحكومة الروسية كفكرة مؤيدة للحرب. ورفض منظمو الحدث الانتقادات قائلين إنه "لم يكن استفزازاً".
ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، صدر في يوليو/تموز، تُعَد إيطاليا من بين دول الاتحاد الأوروبي حيث لا يكون لدى الناس أدنى ثقة في زيلينسكي. ووفقاً للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كان الإيطاليون هم الأكثر تعاطفاً مع روسيا بين الدول الأعضاء التي شملها الاستطلاع، حيث ألقى 27% منهم اللوم على أوكرانيا والولايات المتحدة في الحرب.