في يوم 26 يوليو/تموز الماضي، حاصر الحرس الرئاسي النيجري قصر الرئيس محمد بازوم، وبعد ذلك بيومين أعلن الجنرال عبد الرحمن تياني نفسه رئيساً للمجلس العسكري، أو "المجلس الوطني لحماية الوطن". وليس واضحاً ما إن كان تياني تحرَّك وحيداً أو نيابةً عن آخرين، مثل الرئيس السابق محمدو إيسوفو. في حين يُظهِر رد الفعل الشعبي على الانقلاب، على الأقل ظاهرياً، أسباباً هيكلية مباشرة لا يجب تجاهلها، مثل الفقر والفساد والإحباط في الجيش.
مع ذلك، طغت الجغرافيا السياسية على السياق المحلي. في الواقع لقد فقد الفاعلون الذين أجَّجوا خطاب "تنافس القوى الكبرى" في إفريقيا قدرتهم على السيطرة على ذلك الخطاب، وحتى بعد ما يبدو من وفاة مؤسسي مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين ودميتري أوتكين، لا تزال السردية تهدد بجرِّ حكومات إقليمية وفرنسا والولايات المتحدة، بل وحتى روسيا، إلى النيجر، بالرغم من وجود أسباب واضحة لبقاء هذه الجهات بعيداً.
"عملنا يتواصل، نحن نذهب حيث نُؤمَر"
حذَّر الغرب بالفعل من أنَّ الأحداث في النيجر تمثل فرصة لروسيا وشركتها العسكرية الخاصة، مجموعة فاغنر. ومن المرجح أن تبقى عمليات فاغنر في إفريقيا بعد وفاة مؤسسيها، فقسم الشركة العسكرية الخاصة في فاغنر لديه هيكلية هرمية راسخة مع آليته الخاصة، للحفاظ الكفاءة في حالة وفاة كبار المسؤولين. وتُعزِّز الأعمال المرتبطة بفاغنر في إفريقيا أيضاً دورة حياة هذه الهيكلية. فكما قال مسؤول كبير بفاغنر لمجلة Foreign Policy الأمريكية: "التغييرات كانت حتمية، لكن الآن قد يولَد ترتيب جديد".
قد يستغرق هذا الترتيب الجديد وقتاً ليشق طريقه عبر البيروقراطية الروسية، خصوصاً في إفريقيا. وستبقى العديد من الشخصيات الرئيسية التي تمثل فاغنر في إفريقيا، خصوصاً في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، في مواقعها، لأسباب ليس أقلها أنَّها تملك الشبكة والمعرفة المؤسسية التي تُبقي العمليات مستمرة. فقال قيادي بفاغنر في إفريقيا للمجلة الأمريكية : "عملنا يتواصل، نحن نذهب حيث نُؤمَر".
"لحظة فاغنر" في إفريقيا
تقول المجلة الأمريكية، بالنسبة لموسكو، زادت أهمية القارة الإفريقية ككل في ظل سعي حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتجنُّب العزلة الجيوسياسية، وتعزيز مكانة موسكو المترنّحة باعتبارها قوة كبرى في عالم متعدد الأقطاب. وفي خضم موجة جديدة من إنهاء الاستعمار، وجدت الحكومات الإفريقية في روسيا بديلاً مفيداً- وإن كان في كثير من الأحيان بالخطابات فقط- للغرب يتخذ موقفاً أكثر حيادية حيال الشؤون الداخلية.
جاءت شعبية روسيا في إفريقيا الفرانكفونية على حساب فرنسا، ولا يسهم رد الفعل المتلعثم من باريس تجاه الوجود الروسي إلا في تأجيج الموجة الحالية من المشاعر المناهضة لفرنسا في إفريقيا.
لا تملك روسيا الكثير لتُقدِّمه لإفريقيا في التجارة أو الاستثمارات، وحتى فيما يتعلَّق بالأمن، يتضاءل الحضور الروسي في إفريقيا مقارنةً بالولايات المتحدة وأوروبا، لكنَّ الروس، وخصوصاً شركة فاغنر، هم المستفيدون من لحظة هيكلية فريدة في النظام الدولي، وهي لحظة تضمن أن تبقى فاغنر.
إذ تسعى الحكومات الإفريقية لتحقيق التوازن بين القوى الخارجية- أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين- وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بالقدرة على العمل مع كلٍّ منها، لكنَّ المشكلة بالنسبة للحكومات الإفريقية هي أنَّ هنالك عدداً قليلاً من مُزوِّدي الأمن خارج نطاق الغرب. فالصين تُقدِّم الاستثمارات التي توجد حاجة ماسة إليها، لكنَّها شريك أمني متردد.
وتميل تركيا إلى الاكتفاء بتصدير الأسلحة والعتاد، في حين تتدخَّل دول الخليج من خلال الشبكات المالية والمرتزقة مثل الإمارات. بالنسبة للحكومات الإفريقية، روسيا هي الشريك الأمني البديل الوحيد الذي يتمتَّع بحق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة، ولديه القدرة على نشر قوات على الأرض.
السردية الروسية في إفريقيا
لكن حتى في هذه الحالة، تقتصر موسكو على تفويض التدريب العسكري والخدمات الأمنية الأخرى للمتعاقدين. مع ذلك، فإنَّ عودة روسيا إلى دخول الفضاء الأمني الإفريقي، من خلال فاغنر، قد أعاد إذكاء ثنائيات الحرب الباردة التي ميَّزت المرحلة الأولى من عملية إنهاء الاستعمار في إفريقيا.
بالنسبة للمسؤولين الحكوميين والخبراء والصحفيين في الغرب- وخصوصاً في الولايات المتحدة وفرنسا- أثبت تهديد فاغنر في إفريقيا أنَّه أداة جيدة لتجنُّب كشف مصالح واشنطن أو باريس الخاصة في إفريقيا.
وبطبيعة الحال، بعض المصالح واضحة، فصادرات اليورانيوم من النيجر إلى فرنسا لا يمكن تجاهلها، لكن حتى في هذه الحالة، غالباً ما يُبالَغ في وصف اعتماد فرنسا على اليورانيوم النيجري. وقد يكون الأمر الأكثر أهمية هو الدور الذي تلعبه إفريقيا الفرانكفونية في رؤية فرنسا لنفسها باعتبارها قوة كبرى، والدور الذي اضطلعت به النيجر في استراتيجية مكافحة الإرهاب الجديدة لباريس في منطقة الساحل عقب نهاية "عملية برخان" في مالي.
فوفقاً لمنطق الاحتواء، أصبحت النيجر آخر معقل للنفوذ الغربي في منطقة الساحل. وحين أطاح المجلس العسكري ببازوم، كانت دعوات الصحفيين والخبراء لفعل شيءٍ ما حتمية، لكنَّ تناقض إشادة الغرب بالنيجر باعتبارها قصة نجاح في المنطقة- من خلال انتخاب بازوم ديمقراطياً ووجود مستويات عنف أقل مقارنةً بالجارتين الصديقتين لروسيا، مالي وبوركينا فاسو- مع واقع الكثير من المواطنين النيجريين قد وضع المسؤولين الغربيين في موقف ضعيف.
لكنَّ الشركاء الغربيين ليسوا وحدهم، إذ أصبحت الحكومة الروسية أيضاً رهينة لسرديتها الخاصة بشأن إفريقيا، فقد نصَّبت موسكو نفسها مُشجِّعةً لإنهاء الاستعمار في إفريقيا. واتخذت القمة الروسية الإفريقية، في يوليو/تموز 2023، معنى جديداً عقب غزو روسيا لأوكرانيا، في فبراير/شباط 2022. فكانت وسائل الإعلام الرسمية الروسية حريصة على إظهار أنَّ بلدها ليس معزولاً، بل لاعب رئيسي في الشؤون الإفريقية.
ومن المؤكد أنَّ انقلاب النيجر كان حاضراً في أذهان المشاركين خلال القمة. وبينما لم يكن للحكومة الروسية علاقة بالانقلاب، استغلَّت مجموعات معارضة نيجرية، مثل "حركة M62″، الإطاحة ببازوم من أجل الدفع ببرنامجها السياسي: انسحاب الجيش الفرنسي من النيجر. ورفع المحتجون الأعلام الروسية، وهو الأمر الذي أصبح بمرور الوقت رمزاً في وسط وغرب إفريقيا للاستياء من الوضع القائم- الذي غالباً ما يتجلَّى في صورة مشاعر مناهضة لفرنسا- أكثر منه رمزاً لأي رؤى داعمة لروسيا.
كانت روسيا تفتقر إلى برامج معلوماتية محددة للنيجر، لكنَّ موسكو زادت تأثيرها من خلال المؤثرين الداعمين لروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل كيمي سيبا وناتالي يامب. والتقط المدونون ووسائل الإعلام في روسيا لقطات وصور الأعلام الروسية التي تُرفَع في شوارع نيامي واستخدموها مبرراً كي يتدخَّل الكرملين في القضية.
روسيا لا تريد حروباً بالنيجر لهذه الأسباب
وضع هذا المسؤولين الروس في موقف صعب شبيه بالأيام الأولى لحرب 2014 في أوكرانيا، حين نجح المواطنون القوميون المتشددون والعناصر الصقورية المتشددة في أجهزة الأمن الروسية في جذب الكرملين إلى إقليم دونباس. لدى الدولة الروسية اهتمام أقل بكثير بالتدخل في النيجر. فتدخل مثل هذا قد يفسد التوازن الإقليمي، ويمكن أن يؤجج حركات التمرد الجهادية أكثر. ومن شأن مغادرة فرنسا والولايات المتحدة أن تترك روسيا لتكون الضامن الخارجي الوحيد للأمن في منطقة الساحل، وهو وضع لا يمكن لموسكو تحمُّله.
ولهذه الأسباب، ندَّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالانقلاب، وبالتدخل المحتمل من جانب الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس).
لكنَّ المشكلة بالنسبة للافروف والكرملين هي أنَّه من شأن رفض طلب من المجلس الوطني لحماية الوطن، أو تجاهل المساعي من جانب مالي وبوركينا فاسو للتدخُّل لصالح المجلس العسكري، أن يؤدي إلى التشكيك في مصداقية موسكو باعتبارها شريكاً أمنياً بديلاً بالنسبة لإفريقيا.
والمشكلة بالنسبة لوزارة الدفاع الروسية هي أنَّ إرسال الجيش الروسي إلى إفريقيا مستحيل. وقد تحوَّلت شركات عسكرية خاصة أخرى مثل شركة ريدوت (Redut) من حماية المنشآت في سوريا إلى وسيلة لتعبئة المتطوعين إلى الجبهة في أوكرانيا.
بالتالي، لا تؤدي وفاة بريغوجين إلى استبعاد نشر قوات فاغنر في النيجر. ونظراً إلى أنَّ وزارة الدفاع ستواجه صعوبة في استبدال فاغنر في المدى القريب، ستحاول الدولة الروسية، قدر الإمكان، تحقيق الاستقرار في علاقتها مع فاغنر والحكومات الشريكة في إفريقيا.
وإذا ما قررت الحكومة الروسية نشر فاغنر في النيجر، فإنَّ الشركة ستخاطر بمصداقيتها وأعمالها المستقبلية في إفريقيا، وهو أمر قد لا يعارضه بعض المسؤولين في موسكو. علاوة على ذلك، قد يكون نشر فاغنر في النيجر كارثياً بالنظر إلى الفاعلين الآخرين الذين يستعدون ربما من أجل التدخل.
وإذا ما تدخَّلت فاغنر، فإنَّ النيجر لا تملك أموالاً كثيرة للدفع مقابل خدماتها. يعني هذا أنَّ الدولة الروسية سيتعين عليها أن تدفع الدفعات التي ستُقدَّم سلفاً من تكاليف التدخل. وبالنسبة لوزارة الدفاع الروسية، بما في ذلك وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد الأركان فاليري غيراسيموف، سيكون من الصعب تقبُّل تقديم الموارد لقادة فاغنر.
وحتى لو قَبِلَ شويغو على مضض تقديم الاستثمارات الأولية، فإنَّ وزارة الدفاع ستدفع فاغنر حتماً إلى إيجاد مصادر بديلة لتمويل استمرار عملياتها. وفي سياق النيجر، يعني هذا استغلال ثروات معدنية مثل الذهب أو إعادة بيع التراخيص المرتبطة بالامتيازات. وتُظهِر حالة مالي صعوبات استغلال الامتيازات بسرعة، وقد تؤدي أي محاولات من جانب فاغنر لاستغلال اليورانيوم إلى أزمة أكبر مع فرنسا والولايات المتحدة.
ومن المحتمل أن تحاول فاغنر تأجيل الأمور حتى تتضح نوايا إيكواس أكثر. ومن شبه المؤكد أنَّ أي تدخل من جانب إيكواس سيكون كارثياً بالنسبة للنيجر، في ظل احتمالية جر مالي وبوركينا فاسو للقتال إلى جانب المجلس العسكري أيضاً. ولا يمكن أن تقوم إيكواس بتدخل دون دعم من فرنسا أو الولايات المتحدة.
ومن شأن حدوث مواجهة بين مجموعة فاغنر والقوات النيجرية أو السنغالية أو القوات الغرب إفريقية الأخرى أن يكون كارثةً بالنسبة لسياسة موسكو في إفريقيا. علاوة على ذلك، من شأن مواجهة كهذه أن تتطلَّب أفراداً وعتاداً يشبه هجوم الجنرال الليبي حفتر في 2019 و2020 على طرابلس، حيث استخدمت فاغنر طائرات مقاتلة. وموسكو ليست في حالة تسمح لها بتقديم مثل هذا العتاد هذه المرة. وإذا ما وقع أي خطأ، سيكون قادة فاغنر بمفردهم.
ستواجه إيكواس أيضاً عدواً قوياً. فالجيش النيجري، الذي يُرجَّح أن يختار القتال لصالح تياني، اكتسب خبرة قتالية بعد سنوات من قتال تمرد الجهاديين. وفي حين يمكن لنيجيريا هي الأخرى ادِّعاء امتلاك هذه الخبرة، فإنَّ الجيشين السنغالي والإيفواري لا يمكنهما ادعاء ذلك.
لا تملك أي حكومة أجنبية حوافز حقيقية للتدخل في النيجر. وحتى فيما يتعلَّق بفرنسا، فإنَّ أسوأ ما يمكن أن يحدث لها هو المزيد من الكبرياء المجروح وسعراً أعلى مقابل اليورانيوم النيجري. مع ذلك، الخطاب المتصاعد يعني أنَّ أحدهم قد يقوم بحركة، ولن يستفيد أحد، بما في ذلك روسيا.