قوبل إنهاء الفرقاء الليبيين انقسام مصرف ليبيا المركزي الذي دام 9 سنوات وتسبب بانهيار قيمة الدينار الليبي، بترحيب دولي كبير، في مؤشر على أهمية هذه المؤسسة السيادية التي تتولى إدارة العائدات النفطية الحيوية لاقتصاد البلاد. يأتي ذلك مع إعلان مؤسسة النفط الوطنية -المؤسسة السيادية الاستراتيجية الأخرى- عودة شركات أجنبية للعمل في ليبيا بعد نحو عقد على تعليقها. فهل تقود هذه الخطوة نحو الحل السياسي أم تكون مجرد مناورة؟
ما أهمية توحيد مصرف ليبيا المركزي بعد 9 سنوات من الانقسام؟
في تأكيد لأهمية هذه الخطوة، رحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بإعلان التوحيد، مؤكدة في بيان أنها "تأمل بأن تساعد عملية إعادة توحيد مصرف ليبيا المركزي على إعطاء زخم جديد لجهود توحيد جميع المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية في البلاد، تلبية لتطلعات الشعب الليبي منذ مدة طويلة".
من جانبها، رحبت الولايات المتحدة بـ"خطوة حاسمة نحو استقرار اقتصاد ليبيا وتنميته"، حسبما قالت السفارة الأمريكية في البلاد في بيان عبر منصة "إكس" (تويتر سابقاً). وأضاف بيان السفارة: "يعتبر هذا العرض للوحدة مثالاً مهماً للمصالحة عبر جميع مؤسسات الدولة لبناء الأساس نحو الانتخابات".
بدوره، رحب سفير الاتحاد الأوروبي في ليبيا خوسيه ساباديل في منشور على حسابه بمنصة إكس "بإعادة التوحيد كخطوة في الاتجاه الصحيح لوحدة ليبيا"، وأضاف: "يجب أن يتبع العمل السياسي والفني، لضمان تعزيز الشفافية والتوزيع العادل لدخل النفط بين جميع الليبيين كأساس للسلام والازدهار الذي تستحقه ليبيا".
يتخذ محافظ المصرف المعترف به دولياً الصديق عمر الكبير طرابلس مقراً، فيما اتخذ مفتاح رحيل من بنغازي في الشرق مقراً للفرع المنافس. وفي أعقاب توحيد المصرف، تولى الأخير رحيل منصب "نائب المحافظ".
ويتولى مصرف ليبيا المركزي في طرابلس تسلم عائدات النفط والغاز وإدارتها في ليبيا التي تملك أكبر احتياطيات في إفريقيا. وتخصص هذه الأموال للإنفاق على مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها الحكومة، كما يقول تقرير لوكالة فرانس 24.
هل يقود توحيد المصرف إلى الوحدة السياسية في ليبيا؟
لا تزال السلطة في ليبيا محل تنافس بين حكومتين منذ أكثر من عام: حكومة في الغرب برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة في الشرق يقودها أسامة حماد يدعمها الرجل القوي المشير خليفة حفتر.
يرى أحمد أزيرار أستاذ الاقتصاد بالجامعة المغربية في توحيد فرعي المصرف خطوة سياسية مهمة، قد تنبأ بتقدم حاسم نحو حل مشاكل ليبيا، مضيفاً لفرانس 24: "المصرف المركزي له وظائف دقيقة في تسيير ناجع للعملة المحلية وصيانة قيمتها وإعادة الثقة للمتعاملين بها، دور البنك في هذه المرحلة من الأهمية بمكان لإعادة تشغيل فعال وإعادة هيكلة هذه المنظومة المالية".
يقول أزيرار إن الأمر جوهري أيضاً؛ لأن المصرف سيعمل على تجميع المدخرات المالية للبلاد وجعلها في متناول الدولة لتأمين تسيير دواليبها. المهم هو أن إعادة توحيد المصرف إشارة إلى عودة الدولة موحدة ونهاية مرحلة الشقاق". ويخلص أزيرار إلى أن عودة عمل المصرف موحداً ستعطي "ثقة" كبيرة للمتعاملين الداخليين والخارجيين.
توحيد صوري؟
من جهته، يرى الباحث المتخصص في شؤون ليبيا جلال الحرشاوي في هذا التوحيد "الصوري" أنه يعود لرغبة محافظ البنك الصديق عمر الكبير في الحفاظ على منصبه "في خضم تراجع نفوذ الدبيبة حتى في مسقط رأسه مصراتة مع معارضة علنية له من رجال أعمال نافذين في المدينة".
ويضيف الحرشاوي: "هذه الشكوك بشأن مستقبل الدبيبة جعلت الكبير يقبل بالتعاون مع المصرف الموازي شرق ليبيا. إلا أن توحيد المصرف لن يحدث تغييرات جوهرية في السياسة المالية، سيكتفي عمر الكبير بمواصلة صرف رواتب الموظفين بدون تخصيص موارد للباب الثالث من الميزانية المخصص للمشاريع بما فيها تلك المتعلقة بإعادة الإعمار التي يرى فيه البعض باباً للفساد".
ويذكر الباحث الليبي أن قاضياً بمدينة أجدابيا الواقعة تحت سيطرة حفتر صرح قبل بضعة أسابيع بأن "مستوى الفساد في طرابلس وصل إلى مستوى غير مقبول. وقرر تشكيل لجنة مكونة من فاتح رحيل وعمر الكبير للإشراف على عائدات النفط. هذا الأخير المعترف به دولياً لم يكن أمامه سوى المشاركة في اللجنة، وبالتالي الجلوس فعلياً إلى فاتح رحيل الذي لا يحظى بأي اعتراف. هذه المناورة القضائية التي يبدو أن حفتر يقف وراءها نجحت في استغلال حالة الشك في طرابلس لدفع الكبير للتعامل مع سلطات الشرق".
لكن الدبيبة رحب بإعلان توحيد مؤسسة المصرف، وحث المحافظ ونائبه على مواصلة الجهود "لمعالجة الإشكالات المترتبة عن الانقسام السابق.. مع استمرار التزامنا بالتكامل وتعزيز إجراءات الشفافية والإفصاح التي تبنتها حكومتنا".
بدوره، رحب رئيس الحكومة الموازية في شرق ليبيا أسامة حماد بالقرار مثمّناً "كافة الجهود المبذولة الداعمة لتوحيد المصرف الذي على ضوئه ستتم معالجة الآثار التي نجمت عن الانقسام".
عودة الشركات النفطية الأجنبية.. خطوة للأمام أم "مجاملة"؟
في الوقت نفسه، يأتي إنهاء انقسام المصرف المركزي بعد إعلان المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا منذ أسبوعين تلقيها إخطاراً من ثلاث شركات أجنبية باستئناف أنشطتها بعد نحو عقد على تعليقها.
وقالت المؤسسة في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني إنها "تسلمت إخطاراً رسمياً من شركات "إيني" الإيطالية و"بريتيش بتروليوم" برفع القوة القاهرة في حوض غدامس والقطعة البحريةC.
وتتكرر عمليات إغلاق الحقول والموانئ النفطية في ليبيا منذ نحو عقد لأسباب مختلفة، سواء احتجاجات عمالية أو تهديدات أمنية وخلافات سياسية.
هنا، يعود الحرشاوي ليؤكد أن إنتاج النفط في ليبيا تراجع في 2023 مقارنة بنفس الفترة من 2022 بحسب تقارير دولية، حيث يقول إن "إعلان القوة القاهرة من هذه الشركات ليس إلا مجاملة للمؤسسة الوطنية للنفط ولا مؤشرات إلى حد الآن لعودتها الفعلية في ظل الوضع المضطرب؛ حيث إن رئيس إيني جاء لطرابلس في يناير/كانون الثاني الماضي مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ووقع اتفاقاً مع مؤسسة النفط لإنشاء حقل إنتاج بحري ورصدت له 8 مليارات دولار. لكن هذه الأموال -لا من جانب إيني أو من مؤسسة النفط الليبية اللتين تمولان المشروع مناصفة- لم تصرف بعد وهو ما يجعل منه مجرد حبر على الورق حتى الآن".
تفادي "العاصفة"
سياسياً، أصدر المشير خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الأحد بياناً مشتركاً بعد اجتماعهم في بنغازي أكدوا فيه "الملكية الوطنية لأي عمل سياسي وحوار وطني، وعدم المشاركة في أي لجان إلا من خلال الإطار الوطني الداخلي دون غيره".
هنا، يرى الحرشاوي أن زيارة المنفي إلى بنغازي تأتي لرغبته في إظهار أنه يحظى بقبول في الشرق وبإمكانه السفر لبنغازي والالتقاء بحفتر وصالح، مضيفاً: "الكبير أيضاً يدعم المنفي ومن مصلحته التقرب منه خصوصاً في خضم الوضع الضبابي الحالي في طرابلس ومن مصلحته أن يبقى على الحياد بين الفرقاء الليبيين. المنفي يحظى بدعم مصر وواشنطن. الكبير يسعى للخروج بأخف الأضرار من العاصفة الحالية".
هذا "البيان الثلاثي" أشار أيضاً إلى أن مجلس النواب سيتولى اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة باعتماد القوانين الانتخابية المحالة إليه من لجنة "6+6" بعد استكمال أعمالها واجتماعاتها لوضعها حيز التنفيذ.
في السياق، يؤكد الحرشاوي أن هذه اللجنة المؤلفة من أعضاء بمجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس توصلت إلى مشاريع قوانين جيدة لتنظيم الانتخابات. لكن، بحسب رأيه، "لا توجد نية لدى مجلس النواب أو المجلس الأعلى للدولة للمصادقة عليها".
ويعبر الحرشاوي وغيره من المعلقين عن جزء من الأسئلة التي تطرح في المرحلة الحالية مع توحيد المصرف المركزي، إن كانت بنوع من الجدية لتجاوز المأزق السياسي الطويل الأمد أم خطوة صورية ستتلاشى مع استمرار الوضع على ما هو عليه؟