يواجه الشرق الأوسط فقراً مائياً، حتى الدول العربية ذات الأنهار الجارية مثل مصر والعراق، فهل تنفد المياه الجوفية من المنطقة قريباً بفعل التغير المناخي؟
ولطالما كان الجفاف سمة مميزة لمنطقة الشرق الأوسط منذ وقت طويل، لكنَّ تغير المناخ الآن يتسبب في مواسم جفاف أطول، فضلاً عن ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة وموجات متلاحقة من الارتفاعات. ويُتوقَّع أن يتراجع سقوط الأمطار، على نحو شديد في بعض المناطق؛ الأمر الذي سيدفع المزارعين لحفر المزيد من الآبار بحثاً عن المياه الجوفية.
ومصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسبّبة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة أضرار ضخمة وخسائر على جميع المستويات.
المياه الجوفية في الشرق الأوسط
وفي ظل تعرض بلدان الشرق الأوسط للجفاف وضعف منسوب الأنهار وقلة الأمطار، تزايدت أهمية المياه الجوفية وتوسع الاعتماد عليها. لكن مع تفاقم ظاهرة تغير المناخ، أثيرت تساؤلات حول مدى استدامة المياه الجوفية في المنطقة.
إذ إن الإسراف في حفر الآبار سيُجفِّف طبقات المياه الجوفية ويتسبب ربما في ضرر بيئي لا يمكن إصلاحه. وبالنسبة لمعظم المنطقة، يتجه المسار نحو مستقبل أكثر جفافاً وحرارة ومعاناةً.
وفي العديد من بلدان الشرق الأوسط، تزايد الاعتماد على المياه الجوفية مع تفاقم تداعيات ظاهرة تغير المناخ وما نجم عنها من طول أمد مواسم الجفاف وشدة ضراوتها وقلة مواسم الأمطار مع ارتفاع درجات الحرارة. وإزاء ذلك بات الاعتماد على المياه الجوفية بشكل أساسي لري محصول القمح هذا العام في العراق الذي يعد من أكثر البلدان المهددة بتبعات تغير المناخ والجفاف في العالم.
كذلك ساهمت المياه الجوفية في ري عدد من مزارع النخيل في تونس، فضلاً عن دورها في الحفاظ على الزراعة في اليمن وضمان حصول مدن ليبيا الساحلية على المياه. وعلى وقع ذلك، يمكن القول بأن المياه الجوفية لعبت دوراً مهماً في بلدان الشرق الأوسط القاحلة حتى باتت المصدر الرئيسي للمياه العذبة في قرابة عشر دول عربية، وفقاً لتقرير أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) قبل عامين.
وعن هذه القضية، ترى آنابيله هودرت، الباحثة البارزة في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة، أن الاعتماد على المياه الجوفية والإقرار بأهميتها "آخذ في الازدياد". وفي مقابلة مع شبكة DW الألمانية، أضافت هودرت، المتخصصة في إدارة المياه الجوفية في المغرب، أن سكان المنطقة "لم يدركوا في السابق أهمية المياه الجوفية نظراً لأنها بعيدة عن المشاهدة. إذا رأوا نهراً تنخفض فيه مستويات المياه بشكل كبير، فقد ينجم عن ذلك رد فعل، لكن هذه المياه تعد شيئاً مجرداً، ما يعني أنه بحلول الوقت الذي ندرك فيه الضرر الذي أصابها، يكون قد فات الأوان".
من جانبه، قال الدكتور محمد محمود مدير برنامج المناخ والماء في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن، أن المياه الجوفية تتسم بالتعقيد نظراً لطبيعتها المعقدة. وأضاف أن هناك ضغوطاً متزايدة على استخدام المياه الجوفية في المنطقة، لكنه شدد على أنها مصدر معقد للمياه، فيما تعتمد طرق إدارة المياه الجوفية على نوع الأرض والصخور وعمق المياه وتدفقها وأيضاً اتصالها بمياه الأنهار والبحيرات فضلاً عن كونها مياه جوفية تأتي من مصادر متجددة أم لا؟
المياه الجوفية الأحفورية
يطلق الباحثون على المياه الجوفية التي تجمعت تحت الأرض على مدى آلاف السنين "المياه الجوفية الأحفورية"، التي من الصعب تجديد مصادرها، فيما يشبه إلى حد ما النفط الذي يعد مصدراً للطاقة يُستخدم مرة واحدة.
أمون برنفيوهر، مدير مشروع خاص عن سياسات المياه الجوفية في المعهد الاتحادي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعية، قال لدويتش فيله إن موارد المياه الجوفية التي تتواجد في عمق كبير في الأرض "بالكاد قابلة للتجديد أو غير قابلة للتجديد على الإطلاق. وقد جرى استغلالها بشكل كبير خلال العقود الأخيرة".
وأشار برنفيوهر إلى أن بعض مصادر المياه الجوفية تتجدد بانتظام بسبب الأمطار، مشدداً على أنه رغم تجدد مصادر هذه المياه الجوفية، يتعين توخي الحذر في استخدامها للحفاظ عليها ولتحقيق التوازن بين المياه المستهلكة والمتجددة.
وإزاء ذلك، تحذر منظمات مثل الإسكوا من خطورة اختلال هذا التوازن خاصة في ظل صعوبة تحديد مستوى المياه الجوفية والوقوف على الخلل في العديد من بلدان الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، فإنه من الصعب تحديد مستوى المياه الجوفية في بلد مثل اليمن الذي يئن تحت وطأة حرب أهلية مزقته على مدى السنوات الأخيرة.
لكن بشكل عام، يمكن ربط حجم المياه الجوفية بالأنهار القريبة من مناطق تواجدها مثل نهر دجلة في العراق ونهر النيل في مصر.
وفي المقابل توجد دول مثل السعودية تدرك جيداً مستويات المياه الجوفية، إذ أوقفت المملكة في عام 2018 برنامجها الزراعي الذي بدأ في السبعينيات واعتمد على المياه الجوفية لزراعة القمح. ويقول الباحثون إن وقف البرنامج يدل على أن المملكة تدرك أنها كانت تستنفد مصادرها من المياه الجوفية.
ويشير هؤلاء إلى إمكانية قياس مستوى المياه الجوفية من الفضاء باستخدام صور الأقمار الصناعية، خاصة بيانات الأقمار المعروفة بالتقنية التي يُطلق عليها "استعادة الجاذبية وتجربة المناخ" أو (GRACE) والتي دشنتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لأول مرة عام 2002. وبواسطة هذه التقنية لا تلتقط الأقمار الصناعية صوراً للممرات المائية بل تقوم بقياس تحركات المياه في العالم مثل ذوبان قمم الثلوج ومستوى المحيطات عن طريق قياس جاذبية الأرض.
ورغم ذلك، قال الخبير المائي برنفيوهر إن هذه التقنية لا تقدم بيانات عن "مستوى إدارة المياه بشكل محلي حيث تقف هنا حدود تقنية الاستشعار عن بعد"، وأضاف: "لذا يتعين إنشاء آبار مراقبة محلية، لكن تمويل ومراقبة هذه الآبار بشكل منتظم قد يمثل إشكالية في بعض المناطق"، مشيراً إلى أن نقص البيانات عن المياه الجوفية ليس المشكلة الوحيدة.
"هناك معرفة جيدة بمستوى المياه الجوفية في الأردن، لكن هناك نقص في تنفيذ قواعد تنظيم استخراج المياه الجوفية للزراعة. أما في دول الخليج الغنية مثل السعودية، فهي تدرك مواردها المائية جيداً، لكن يعيبها نقص الشفافية". بحسب برنفيوهر.
متى قد تنفد من الشرق الأوسط؟
وتتفق في ذلك آنابيله هودرت، الباحثة البارزة في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة، قائلة: "العديد من دول الشرق الأوسط سنت لوائح بشأن استخدام المياه، لكن التطبيق ما زال يمثل إشكالية". واستشهدت في ذلك بمثال من المغرب، مضيفة أنه "عندما يصل موظف سلطة المياه المحلية في المغرب لتفقد الآبار غير القانونية، فإن السيارة التي يقودها لإنجاز مهمته ذات وقود محدود رغم أن مساحة الأرض كبيرة، فضلاً عن أن أطفال بعض القرى يرشقونه بالحجارة حتى لا ينجز مهمته".
وإزاء ذلك، يطرح خبراء تساؤلاً مفاده ما مقدار المياه الجوفية المتبقية في أعماق الشرق الأوسط ومتى ستنفد؟ تزامن هذا التساؤل مع معلومات تم الحصول عليها مؤخراً عن طريق الأقمار الاصطناعية مفادها أن المياه الجوفية في الشرق الأوسط قد استنفدت بشكل كبير خلال العقد الماضي. وفي نفس السياق ذكرت لجنة الإسكوا أن العديد من خزانات المياه الجوفية جرى استهلاكها بمعدل يفوق تجديد مصادرها.
إلا أنه يظل من غير المعروف متى ستنفد المياه الجوفية في الشرق الأوسط بشكل دقيق. ويفسر الدكتور يوسف بروزين، الممثل الإقليمي للمعهد الدولي لإدارة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هذا الأمر بقوله: "المياه الجوفية تنطوي على نظام معقد للغاية يتفاعل مع الأنظمة الطبيعية الأخرى بما في ذلك الأنهار وهطول الأمطار والضغوط الناجمة عن الملوحة والتلوث".
خبراء المياه يقولون إن هناك سبباً آخر يجعل تحديد مستويات المياه الجوفية صعباً ويتمثل في أن المياه لا تُحدد بالحدود الوطنية، إذ تقدر الإسكوا أن هناك 43 طبقة مياه جوفية عابرة للحدود في المنطقة.
رغم ذلك، يرى بروزين أن هناك بعض الأسباب للتفاؤل، قائلاً إن "الدول التي لا تتباحث حالياً مع بعضها البعض على المستوى الثنائي سوف تجد نفسها مضطرة للجلوس معاً على نفس الطاولة عندما يتعلق الأمر بإدارة المياه".
وأضاف: "فهم التوازن بين استخراج المياه الجوفية وعمليات تغذية وتجديد مصادرها سوف يقدم بمرور الوقت إجابة عن مدى استدامة استخدام المياه الجوفية وما إذا كانت في خطر نفاد وهل هذا الخطر حقيقي؟ يتمثل التحدي في تحقيق التوازن بين المصالح قصيرة الأجل والمصالح الاجتماعية والبيئية طويلة الأجل".