كان توصل إيران وأمريكا إلى الإفراج عن محتجزين مقابل إلغاء تجميد مليارات مؤشراً على وجود قنوات خلفية بينهما، فهل يعلنان قريباً عن اتفاق بشأن برنامج طهران النووي؟
كانت طهران وواشنطن قد توصلتا الأسبوع الماضي لاتفاق يتم بموجبه الإفراج عن 5 أمريكيين محتجزين في إيران مقابل إلغاء تجميد 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية في كوريا الجنوبية وإرسالها إلى حساب في قطر يمكن لإيران الوصول له.
جاء الإعلان عن هذا الاتفاق في الوقت الذي تعيد فيه أمريكا إرسال المزيد من قواتها إلى المنطقة، إذ أعلن الأسطول الخامس الأمريكي مؤخراً عن وصول أكثر من 3 آلاف بحار أمريكي إلى الشرق الأوسط، في إطار خطة لتعزيز التواجد العسكري في المنطقة و"ردع إيران عن احتجاز السفن وناقلات النفط".
دبلوماسية الأبواب الخلفية
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تحليلاً يلقي مزيداً من الضوء على "دبلوماسية الظل" بين الغريمين، حيث تنخرط الولايات المتحدة وإيران في جهود واسعة، لكنَّها غير معلنة إلى حدٍّ كبير للتوصل إلى اتفاقات بشأن كل شيء، بدءاً من تبادل السجناء إلى عائدات النفط، وصولاً إلى القدرات النووية، في حين تتجنَّبا الاتفاقات التي قد يُسقِطها المعارضون من كلا الجانبين.
وفي هذا السياق، شهدت الأسابيع الأخيرة توصل إيران والولايات المتحدة إلى تفاهم بشأن عملية تبادل للسجناء وتحويل 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني العالقة في كوريا الجنوبية، وهما تطوران تُصِرُّ إدارة بايدن على أنَّهما غير مترابطين.
لكن وكالة أنباء الطلبة الإيرانية، شبه الرسمية، نقلت عن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قوله الأربعاء، 16 أغسطس/آب إن أصول بلاده المفرَج عنها في الخارج ستُستخدم في تعزيز الإنتاج المحلي.
بينما يقول مسؤولون أمريكيون إن الأموال الإيرانية ستحول لحسابات عليها قيود وستُستخدم لأغراض إنسانية مثل شراء الغذاء أو الدواء. وقال محامي أحد المحتجزين الأمريكيين إن إيران سمحت لأربعة منهم بالانتقال للإقامة الجبرية من سجن إيفين في طهران. وقد يكون ذلك خطوة أولى في مجموعة من المناورات المعقدة. والمحتجز الخامس رهن الإقامة الجبرية بالفعل.
وقالت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة إن الولايات المتحدة ستُفرج عن بعض الإيرانيين من سجون أمريكية بموجب الاتفاق.
لكن المؤشرات تقول إن الاتفاق ليس محصوراً في تبادل المحتجزين والإفراج عن أموال مجمّدة. ففي الوقت نفسه، تبيع إيران الآن للصين نفطاً أكثر مما باعته خلال عقد من الزمن، وهناك أيضاً حديث عن الحد من تخصيب اليورانيوم، وهي أولوية رئيسية للولايات المتحدة.
وبحسب تحليل بلومبرغ، تعكس دبلوماسية الظل -التي تتم عبر وسطاء بينهم عُمان وقطر- فهماً من كلا الجانبين بأنَّ الإحياء الكامل لاتفاق عام 2015 الذي يضع قيوداً على برنامج إيران النووي أصبح يمثل استحالة سياسية.
لكنَّ مسؤولين بالإدارة وخبراء يقولون إنَّ مخاطر عدم المضي قدماً على مسار التوصل لاتفاق عالية للغاية. فبالنسبة للولايات المتحدة، يتعلَّق الأمر بتخفيض تهديد الحرب في الشرق الأوسط بشأن مكاسب إيران السياسية، وفي نفس الوقت تأمين الإفراج عن الأسرى الأمريكيين والحفاظ على انخفاض أسعار النفط. من جانبها، ترغب إيران بشدة في إنعاش اقتصادها المحتضر.
هل الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران "وارد"؟
قالت رندا سليم، مديرة برنامج تسوية الصراعات وحوارات المسار الثاني بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: "كل من الرئيس بايدن والإيرانيين لم يكونا مستعدين للذهاب إلى اتفاق أكبر في هذه المرحلة. هذا هو الممكن سياسياً في كلا البلدين، ولنرَ إن كان بإمكانهما البناء عليه".
ومن المتوقع أن يكون إجراء حسن النية الإيراني التالي بحلول بداية سبتمبر/أيلول المقبل، حين يبلغ مراقبو الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدبلوماسيين بشأن التغييرات في المخزون النووي للجمهورية الإسلامية، ويريد المراقبون الغربيون معرفة ما إن كانت إيران خفضت من مراكمتها لليورانيوم عالي التخصيب.
وسيعقب تقرير المفتشين ذاك اجتماع رئيسي للوكالة في فيينا، والذي سيضم مسؤولين كبار من إيران والولايات المتحدة. فوفقاً لمبعوث أوروبي ساعد في التوسط في التواصل السابق بين طهران وواشنطن، قد تستمر الاتصالات غير الرسمية على هامش الاجتماع السنوي للوكالة في 25 سبتمبر/أيلول.
وقد رفض المسؤولون الأمريكيون طوال الوقت تفصيل نطاق محادثاتهم مع إيران، سواء كانت مباشرة أم لا. لكن الإشارات واضحة، سواء كان المسؤولون الأمريكيون مستعدين للإقرار بها علناً أم لا. فالأسبوع الماضي، أعلنت إيران أنَّها ستنقل 4 مواطنين أمريكيين من السجن إلى الإقامة الجبرية. وسيُطلَق سراحهم في نفس الوقت تقريباً الذي تفرج فيه الولايات المتحدة عن بعض الإيرانيين وتسمح لكوريا الجنوبية بإعادة تحويل 6 مليارات دولار من الأصول المجمدة لإيران من أجل استخدامها لشراء الأدوية والسلع الإنسانية.
تزامن ذلك مع زيادة في مبيعات النفط الإيراني، إذ تقول شركة Kpler للبيانات إنَّ الواردات الصينية من النفط الإيراني الخاضع للعقوبات في أعلى مستوى لها منذ عقد الأقل. يجادل المسؤولون الأمريكيون بأنَّ موقفهم من العقوبات لم يتغيَّر، لكنَّ التضييق على المبيعات ليس أولوية بالنظر إلى الجهود الأمريكية للحفاظ على انخفاض أسعار النفط في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا ومساعي السعودية لتقييد المعروض.
قالت حليمة كروفت، رئيسة قطاع استراتيجيات السلع العالمية لدى شركة RBC Capital LLC: "بما أنَّ هذا ليس اتفاقاً دبلوماسياً رسمياً، فإنَّنا لا نتوقع أي إعلان لتخفيف العقوبات قريباً. ما نتوقعه هو تسريع لاتجاه الحد الأدنى من تطبيق العقوبات من أجل تمكين البراميل الإيرانية من الوصول إلى الأسواق الآسيوية".
عقبات واشنطن وطهران
اتهم المنتقدون إدارة بايدن بمحاولة الالتفاف على رقابة الكونغرس في مسعاها للتوصل إلى اتفاق بشأن المعتقلين وربما حتى اتفاق نووي محدود. وهنالك أيضاً مخاطر مصاحبة. فقد أشارت الولايات المتحدة مراراً إلى فكرة كيف أنَّ إيران تمد روسيا بالطائرات المُسيَّرة وغيرها من الأسلحة من أجل الحرب في أوكرانيا، التي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرَّر"، إضافة إلى اتهامات واشنطن لطهران بقمع حقوق المرأة، والتضييق على الاحتجاجات.
ومن جانب إيران، سيشعل الدخول في اتفاق نووي جديد الانتقادات بأنَّها ترتكب نفس الأخطاء التي ارتكبتها من خلال الثقة بالولايات المتحدة في المفاوضات وصولاً إلى "خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015″، التي فرضت قيوداً على على برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات.
وكان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد انسحب بشكل أحادي من الاتفاق في عام 2018، وأعادت إدارته فرض العقوبات على إيران، بل ضاعفتها بصورة غير مسبوقة، كما اغتالت الجنرال قاسم سليماني، زعيم فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
قال بهنام بن طالبلو، وهو زميل أول بمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي معارضة صريحة للدبلوماسية الأخيرة، لوكالة بلومبرغ: "بالنسبة لإدارة بايدن، يبدو أنَّ الهدف هو إدارة قضية إيران وليس حلها. يبدو أنَّ أنصاف الإجراءات والتحركات لتهدئة الأزمات هي عنوان اللعبة".
وقد أعلنت إدارة بايدن مراراً أنَّ المحتجزين والمسائل النووية أمران منفصلان، ولو أنَّ المراقبين من خارج الإدارة لطالما قالوا إنَّ الإفراج عن الأمريكيين المحتجزين خطأً في إيران قد يفتح الباب أمام اتفاق مؤقت أو محدود بشأن البرنامج النووي الإيراني. لكنَّ مسؤولي الإدارة أوضحوا أيضاً أنَّهم يعتبرون المسألة النووية تهديداً وجودياً.
ويبدو أنه في إطار إدارة واشنطن للملف الإيراني، بدأت مساعٍ لاستعادة ثقة حلفائها الخليجيين من خلال التأكيد على أنها ما زالت ملتزمة بأمن الخليج، في الوقت الذي تتجه السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين للاقتراب أكثر من الصين وروسيا، عبر تقديم طلبات رسمية للانضمام إلى مجموعة بريكس.
وجاءت خطوة إرسال 3 آلاف من قوات المارينز إلى المنطقة بعد أكثر من 5 أشهر من انسحاب الإمارات من "تحالف القوة البحرية الموحدة"، الذي تقوده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والذي أعلنت عنه أبوظبي رسمياً، في 31 مايو/أيار الماضي.
وجاء الإعلان عن الانسحاب مفاجئاً، خاصة أنه جرى تنفيذه قبل ذلك بشهرين، وعكس رغبة الإمارات في الضغط على الولايات المتحدة لتكون أكثر حزماً مع إيران، إثر احتجازها ناقلتي نفط في خليج عمان، وفق تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
وبعد يومين، من إعلان واشنطن وصول جنودها المارينز إلى الشرق الأوسط، انطلقت أول مناورات عسكرية جوية إماراتية صينية، لم تحدد وزارة الدفاع الإماراتية مكانها ولا مدتها، ولكنها تعكس تطور التعاون العسكري بين البلدين، والذي أصبح يقلق الولايات المتحدة.
وتسعى أبوظبي من خلال هذه الخطوة إلى لفت انتباه واشنطن بأنها جادة في تنويع شركائها الأمنيين، حتى ولو كانت الأخيرة تعتبرهم أكبر تهديد لهيمنتها العالمية. فقبل عامين، نشرت وول ستريت جورنال، مقالاً يتحدث عن إنشاء الصين قاعدة عسكرية بالقرب من ميناء خليفة في أبوظبي، ما أثار حفيظة واشنطن التي تحركت سريعاً لعرقلة المشروع.
إلا أن المخابرات الأمريكية لاحظت في ديسمبر/كانون الأول 2022، استئناف البناء في المشروع، وفق صحيفة "واشنطن بوست". ويؤشر هذا الوضع لرغبة صينية في التغلغل "عسكرياً" في منطقة الخليج بشكل تدريجي لا يثير ردة فعل أمريكية قاسية.